لم يكن حظ مدينة تزنيت جيدا في الشهور الأخيرة، مع الأحداث التي تركت بصماتها الواضحة على الرأي العامّ المحلي والوطني، ففي رمضان الماضي عاشت المدينة رُعباً حقيقيا مع ظهور شخص «خطير» اتفق السكان على تسميته «مولْ البّيكالة»، وهو الشخص الذي أفسد على سكان المدينةوالإقليم أجواء الشهر الفضيل، وأرعب النساء والفتيات بشكل غير مسبوق. ولم تمضِ إلا أشهر قليلة على ظاهرة «مُولْ البّيكالة»، التي حيّرت الأمن والسكان معاً وتركت جملة من الاستفهامات وراءها بعد أن ظلت لغزا محيّرا للجميع، حتى ظهرت «مولاتْ الكاشّة» وفجّرت فضيحة ضخمة، بطلها سبعة أشخاص ينتمون إلى شبكة محلية تَمرّست على ابتزاز التجار والأعيان في قضايا فساد وصفها البعض ب«المفبرَكة». بطاقة تعريف كريمة أو «مولات الكاشّة» كما يفضل البعض تسميتها، رأت النور في جماعة «سيدي واساي» في إقليم شتوكة آيت باها سنة 1973، وتقطن بحي السلام في أكادير، قبل استقرارها بمدينة تزنيت في وقت لاحق، وهي مطلقة وأم لثلاثة أبناء، ولها سوابق تتعلق بإعداد منزل للدعارة والخيانة الزوجية دون أن تقضيّ أي عقوبة سالبة للحرية، كما أنها أخت لخمسة أشقّاء، عاشوا جميعا أغلب أطوار حياتهم في مدينة أزيلال، حيث تقطن والدتهم بعد وفاة والدهم.. لم يكن حظ «مولات الكاشّة» جيدا مع الدراسة، فقد انقطعت عنها منذ السنة النهائية للسلك الإعداديّ، كما لم يكن حظها جيدا في حياتها الزوجية، التي بدأتها سنة 1993 إلى حدود 2003، حيث انفصلت عن زوجها في إطار قضية طلاق، ليختار الزوج الهجرة إلى الخارج ويلحق به أبناؤه الثلاثة في ما بعد.. ومنذ ذلك الوقت، بدأت «مولات الكاشّة» تتردد على مدينة تزنيت، بعد أن تعرّفت على نادلة وأقامت معها في بيت واحد، لتدخل في ما بعد عالم الدعارة وتمتهن أقدم حرفة في التاريخ، بغية مواكبة حاجياتها المعيشية. بداية قصة مثيرة بدأت حكاية «مولات الكاشّة» عندما تعرّفت لأول وهلة على أحد عناصر الشرطة، داخل مفوضية الأمن الإقليمي في تزنيت، حيث عمدت إلى تقديم شكاية بالإزعاج الليليّ ضد أحد الأشخاص، فتعرف عليها الأمنيُّ المذكور قبل أن يضرب لها موعدا داخل منزله، حيث استقلت سيارة أجرة صغيرة لشخص متابَع هو الآخر ضمن شبكة الابتزاز نفسها، ويتفقا بعد نقاش طويل على الاشتغال معا ضمن شبكة متخصصة في الابتزاز. أقرّت «مولات الكاشة» بضلوعها في ابتزاز عدد من المتقاعدين والأثرياء في مدينة تزنيت، كما أقرّت باتفاقها مع بعض أفراد الشبكة على طريقة اصطياد الضحايا، عبر خطة محكمة ترمي إلى الإيقاع بهم، حيث كان أعضاء المجموعة يصفعونها في بعض الأحيان أمام الضحايا لتبديد أيّ شكوك حول تورّطها معهم، كما كانوا في جميع العمليات يحملون معهم أصفادا يدوية وأجهزة لاسلكية لإثبات انتماءهم إلى «أسلاك الشرطة»، كما عمدوا -عدة مرات- إلى تصويرها مع الضحايا في أوضاع مُخلّة، بغية تعميق عملية الابتزاز والحصول على أكبر قدْر ممكن من الأموال. وحسب مصادر مطلعة، فإن «مولات الكاشة» لم تكن في بداية عملياتها تتسلم أي مقابل مادي على ما تقوم به من أعمال منافية للأخلاق والقانون، فاضطرت إلى مغادرة المدينة بعد غضبها من أصدقائها -أعضاء الشبكة، قبل أن يعاود أحدهم الاتصال بها في وقت لاحق بهدف العودة إلى ممارسة تلك العمليات، حيث رضخت مرة أخرى لمطلبهم شريطة حصولها على نصيبها الماليّ في كل عملية، وهو النصيب الذي كان يتراوح بين 250 و2500 درهم، حسب مقدار «الغنيمة» المحصل عليها. استمرّت عمليات «مُولات الكاشّة» على هذا النحو إلى أن انكشف أمرُها بعد محاولتها الإطاحة بأحد التجار الطاعنين في السن في ساحة المشور في تزنيت، وهو تاجر متخصص في بيع الأرائك والأغطية الصوفية، حيث اقتنت من محله غطاء صوفيا ب200 درهم، فأدّت نصف الثمن على أساس أداء النصف الثاني في الأيام القادمة، فاضطرّ التاجر المُسنّ إلى الاحتفاظ بالغطاء إلى حين إحضارها بقية الثمن، لكنّ «مولات الكاشّة» بحثت عن رقمه الهاتفيّ وطلبت مقابلته بغية تسديد ما تبقى في ذمتها، فطلب منها تسديد المبلغ المتبقي لابنه المتواجد في المحل التجاري، لكنها أصرّت على مقابلته هو شخصيا ومعرفة وقت تواجده في المحل، وهو ما تأتى لها لحظات قبيل إغلاقه المحلّ، حيث أدّت ثمن الغطاء الصوفي، لكنها تسللت إلى داخل المحلّ التجاري لتنزع جلبابا تقليديا كانت ترتديه، لتبقى في لباس شفّاف جدا، قبل أن يفاجأ التّاجر المُسنّ بشخصين ينتحلان معا صفتَي رجلَي أمن في تزنيت ويضعان الأصفاد في يديه، ويبدآن في مساومته على «التفاهم» أو الاعتقال، وهو ما تم بعدها بحصولهما على مبلغ 3000 درهم كانت في حوزته لحظة «هجومهما» على المحل التجاري.. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى الإمعان في إذلال التاجر المذكور ومطالبته بمبالغ مالية تصل إلى 6 ملايين سنتيم، وهو ما اضطرّه إلى طلب مهلة لجمعها من الدّائنين قبل تسليمها لهما.. فضرب لهما موعدا صبيحة اليوم الموالي، حيث توجّه إلى مفوضية الأمن الإقليمي حاملا معه شكايته إلى مسؤولي الأمن في تزنيت، وما هي إلا لحظات حتى اجتمع الأمنيون على أعلى مستوى وتتبعوا خيوط القضية، ليكتشفوا أكبرَ شبكة متخصصة في الابتزاز، ضمنها بعض رجال أمن يشتغلون في مفوضية الأمن في المدينة نفسِها.. اعتقالات في الشارع العام بعد دقائق من اجتماع المسؤولين الأمنيين داخل مفوضية تزنيت برئاسة عميد الأمن الإقليمي الجديد، واطّلاعهم على بعض التفاصيل الأولية للقضية، رَنَّ هاتف التاجر المسن «أ. أ.»، ولم يكن الطرف المنادي عليه سوى أحد أفراد الشبكة، الذي أكد له ضرورة تزويده بما تم الاتفاق عليه، فطلب منه مهلة إضافية حدّدها المتصل في ساعة واحدة لا غير.. وهو ما فرض على الأمنيين مرافقته إلى محله التجاري بغية توقيف المعنيّ في حالة تلبس، لكنّ المتصل فطن إلى الأمر، وطلب من التاجر القدوم وحيدا إلى شارع 30 على متن سيارة أجرة صغيرة وإحضار مبلغ 6 ملايين سنتيم، الذي تم الاتفاق عليه.. وما هي إلا لحظات حتى عاود المفاوض باسم الشبكة الاتصال بالتاجر، طالبا منه الجلوس على قارعة الطريق إلى حين التأكد من خلوّ المكان من أي مراقبة أمنية، ليعاود الاتصال ويرسم له خارطة الطريق التي ينبغي أن يسلكها إلى حين تسليم «الأمانة»، وهو ما انضبط له التاجر إلى حين الوصول إلى المكان المتفق عليه، وما هي إلا لحظات حتى فوجئ المعنيّ برجال الأمن يحيطون به من كل جانب، فحاول الهروب والتخلّص من هواتفه المحمولة وأوراق هويته، لكن الأمنيين أحكموا قبضتهم عليه، ليكتشفوا في حوزته مبلغا ماليا متحَصَّلا من عملية ابتزاز التاجر نفسه الذي كان وراء كشف الشبكة. كما وُجِدت في حوزته أصفاد يدوية وجهاز للاتصال اللاسلكي. وما هي إلا ساعات حتى أقرّ الجاني بضلوعه في شبكة مختصة في الابتزاز في تزنيت، بمعية اثنين من رجال الأمن، لتبدأ حملة توقيفات بقية عناصر الشبكة في الشارع العام.. النيابة العامة على الخط مباشرة بعد التوقيفات، أمرت النيابة العامة في المحكمة الابتدائية لتزنيت بمتابعة 16 شخصا، بينهم سبعة في حالة اعتقال، ضمن القضية التي أصبحت معروفة بشبكة الابتزاز في تزنيت، والتي ألقيّ القبض على بعض عناصرها بتهمة ابتزز مواطنين في قضايا فساد مختلفة. وخلال أطوار التحقيق مع الشبكة قرّرت النيابة العامة في ابتدائية تزنيت متابعة اثنين من رجال الأمن ونادل في مقهى وصاحب محلّ لغسل السيارات وآخر لبيع أجزاء السيارات، إضافة إلى وسيط عقاريّ ونادلة في إحدى مقاهي المدينة، بتهمة انتحال صفة ينظمها القانون والحصول على أموال بواسطة التهديد. كما قررت متابعة الضحايا التسعة للشبكة في حالة سراح (بينهم متقاعدون وتجار) بعد أداء كفالة ب2000 درهم لكل واحد منهم، فيما قرّرت إحالة جميع المتهمين والضحايا على أنظار جلسة المحاكمة في اليوم الأخير من السنة التي ودعناها قبل أيام. وطيلة الساعات الطويلة التي استغرقتها فترة الاستماع إلى الضحايا والمتهمين في ابتدائية تزنيت، غصّت الجنبات المحيطة بالمحكمة بعدد من رجال الأمن وعدد من أفراد عائلات الضحايا وساكنة المدينة، الذين انتظروا بلهفة قرار النيابة العامة في حق المُتابَعين، قبل أن يواجه المعتقلون لحظة إخراجهم من المحكمة بموجة من الصفير والتنديد الشديدين، في الوقت الذي أصبحت القضية مثار نقاش وجدل بين عدد من سكان المدينة، الذين قدّموا روايات عديدة للعمليات التي تورّطت فيها الشبكة، وتتبعوا جميع تفاصيل القضية وما أثارته من زوبعة داخل إدارة الأمن في تزنيت. أشهر محاكمة في تزنيت وسط حضور جماهيريّ كثيف وغير مسبوق في المحكمة الابتدائية لتزنيت، قرّر قاضي الجلسة تأجيل المحاكمة إلى يوم الاثنين، 7 يناير 2013، بعد التوتر الذي عرفته أطورا المحاكمة إثر ترديد جملة من الشعارات المنددة بالشبكة من قبل بعض الغاضبين الذين غصّت بهم القاعة وجنبات المحكمة وبهوها الرئيسيّ. كما سادت أجواء الترقب بهو المحكمة وجنباتها، حيث أحيطت بعدد كبير من رجال الأمن بالزيّين المدنيّ والعسكري، إضافة إلى عناصر القوات المساعدة والسلطات المحلية وعائلات الضحايا والمتابَعين. ولم تتمكن سيارة الأمن، التي تقلّ المتهمين من اختراق جموع الغاضبين بعد الإعلان عن تأجيل الجلسة إلا بصعوبة بالغة، حيث تم ترديد شعارات غاضبة ضد بعض المتّهمين، فيما فضّل بعض أصدقاء وعائلات أحد رجال الأمن المتابَعين في القضية ترديد شعارات تطالب بتبرئته من المنسوب إليه. بيانات التضامن في الوقت الذي تتبع الرأي العام المحليّ تفاصيل القضية من مختلف جوانبها، الخفية والظاهرة، وصفت الجمعية المهنية للتجار في مدينة تزنيت تاجر ساحة المشور، الذي تسبب في كشف شبكة الابتزاز، ب«التاجر الشّهم الشريف العصاميّ البطل».. مضيفة، في بيان توصلت «المساء» بنسخة منه، أن الأخير «أوقع بعصابة إجرامية يتزعمها عناصر من الأمن الوطنيّ، نفّذتْ -حسب تعبير البيان- مسلسلا من الابتزازات والمساومات تحت التهديد بتلفيق تُهم وفق سيناريو محبَك»، معلنة تضامنها التام والمطلق واللامشروط مع ضحايا العصابة، التي وصفتها ب»الإجرامية والخطيرة».. من جهتها، نبّهت جمعية تجار مدينة تزنيت رئيسَ الحكومة ووزير العدل والحريات إلى «أن التاجر الذي بلّغ عن المفسدين والمتواطئين من العناصر الأمنية في المصالح الإقليميةلتزنيت متابَع بتهمة لا أساس لها» وتساءلت، في بيان عمّمته في المدينة، عن الجهة التي يتوجب عليها حماية المفسدين.. كما أدانت ما يتعرّض له التجار مما أسمته «الابتزاز والاضطهاد وممارسة جميع أنواع أساليب الترهيب والإذلال من طرف من هُم محسوبون على الأمن»، وشجبت في الآن نفسه «كل الأساليب الدنيئة المُتَّبعة حاليا لطمس حقيقة الملف لجعل المشتكين مذنبين والمتّهمين المقبوض عليهم في حالة تلبس أبرياء».. كما التمست جمعية تجار مدينة تزنيت من أجهزة الدولة المعنية «التحرّي عن الحقيقة والضرب بقوة على كل من يد كل سوّلت لهم أنفسهم استغلال منصبهم، سواء على مستوى الأمن أو السلطات المحلية، للاغتناء السريع ولو على حساب كرامة المواطن». وأعلنت الجمعية تضامنها مع التجار، الذين وصفتهم ب»النزهاء» الذين بادروا إلى التبليغ عن المفسدين، كما نصّبت محاميا لمؤازرة التجار ضحايا الابتزاز. مطالب التحقيق متواصلة إلى ذلك، طالبت المنظمة الديمقراطية للتجار والحرفيين في تزنيت بإعادة فتح التحقيق في شكاية لحسن بواليم، عضو المكتب التنفيذيّ للمنظمة، ضد مفتش الشرطة المتهم في قضية العصابة الإجرامية التي تبتزّ التجار، والتي سجلها لدى كل من وزير العدل والحريات والوكيل العام للملك في محكمة الاستئناف في أكادير منذ ما يزيد على سنة. كما أعلنت النقابة تضامنها المطلق مع التجار والحرفيين ضحايا نصب وابتزاز العصابة، مُشِيدة في الآن نفسه بجرأة وشجاعة التاجر الذي بلّغ عن العصابة الإجرامية. كما طالبت بحمايته بناء على قانون حماية الشهود والمُبلّغين، محذرة في الآن نفسه من «مغبّة الاستمرار في التعامل مع مدينة تزنيت كمنطقة للاغتناء السريع واللامشروع من طرف بعض المسؤولين».. وطالبت الجمعيية المذكورة الإدارة العامة للأمن الوطني بإصدار بلاغ حول هذه القضية وتداعياتها لطمأنة الساكنة حول الأوضاع الأمنية في المدينة. كما طالبت بمساءلة المسؤولين السابقين للأمن وأجهزة الاستعلامات حول مسؤوليتهم وأدوارهم في ضبط السياسة الأمنية في المدينة .