ندوة علمية بطنجة تستشرف آفاق مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد    غوغل تطور تقنيات ذكاء اصطناعي مبتكرة لتحدي "DeepSeek"    مسيرة عظيمة.. رونالدو يودّع مارسيلو برسالة مليئة بالمشاعر    "جامعيو الأحرار" يناقشون فرص وإكراهات جلب الاستثمارات إلى جهة الشرق    إعلان طنجة في منتدى "نيكسوس"    متهم بتهريب المخدرات عبر الحدود المغربية ينفي صلته ب"إسكوبار الصحراء"    الشاب خالد، نجم الراي العالمي، يختار الاستقرار الدائم مع أسرته في طنجة    لقجع: مركب محمد الخامس جاهز لاستقبال الجماهير في مارس المقبل    "ما نرجع".. أحدث إبداعات حمدي المهيري الموسيقية    طنجة المتوسط يقود نمو رواج الموانئ المغربية خلال سنة 2024    تدشين سفينة للأبحاث البحرية بأكادير    توقيف صيدلي وثلاثة أشخاص وحجز 6934 قرصا مخدرا في عملية أمنية محكمة    مجلس جماعة طنجة يصادق على 42 نقطة    من الرباط.. رئيس البرلمان الموريتاني: المحيط الأطلسي شريان حيوي للتنمية والتكامل الإقليمي    هيئة رؤساء فرق الأغلبية تشيد بالتعاون التشريعي والحكومي    قادما من الشمال.. المجلس الحكومي يصادق على تعيين محمد عواج مديرا للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الرباط سلا القنيطرة    وزارة التربية الوطنية تكشف تطورات التلقيح ضد "بوحمرون" في المدارس    إسرائيل تدعو لتسهيل مغادرة سكان غزة وحماس تطالب بقمة عربية عاجلة    رئيس النيابة العامة يتباحث مع رئيس ديوان المظالم بالمملكة العربية السعودية    التهراوي يكشف الخطة المعتمدة للحد من انتشار "بوحمرون"    العيون تحتضن المؤتمر العربي الأول حول السياسات العمومية والحكامة الترابية    بايتاس يكشف الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة بشأن لقاح التهاب السحايا    ارتفاع طفيف لأسعار الذهب وسط استمرار المخاوف من حرب تجارية بين الصين والولايات المتحدة    خبراء إسرائيليون يزورون المغرب للإشراف على وحدة تصنيع طائرات بدون طيار    الأرصاد الجوية تكشف استقرار الأجواء وتترقب تساقطات محدودة بالشمال    تخفيضات تصل إلى 5%.. تفاصيل امتيازات "جواز الشباب" في السكن    عرض الفيلم المغربي "طاكسي بيض 2" في لييج    نقابي بالناظور يتوعد حزب أخنوش بالهزيمة في الانتخابات: العمال سيحاسبون الحكومة في صناديق الاقتراع    ريال مدريد يحجز بطاقته لنصف نهاية كأس ملك إسبانيا على حساب ليغانيس (ملخص)    شركة الطيران تطلق خطين جويين جديدين نحو المغرب الاقتصاد والمال    نورا فتحي بخطى ثابتة نحو العالمية    وزير الداخلية الإسباني يكشف مستجدات فتح الجمارك في سبتة ومليلية    أخبار الساحة    إنتاجات جديدة تهتم بالموروث الثقافي المغربي.. القناة الأولى تقدم برمجة استثنائية في رمضان (صور)    رونالدو يطفئ شمعته الأربعين..ماذا عن فكرة الاعتزال؟    "جواز الشباب" يخدم شراء السكن    إشاعة إلغاء عيد الأضحى تخفض أسعار الأغنام    السلطات تمنع جماهير اتحاد طنجة من التنقل إلى القنيطرة لدواعٍ أمنية    عجلة الدوري الاحترافي تعود للدوران بمواجهات قوية لا تقبل القسمة على اثنين    مرصد أوروبي يكشف أن "يناير" الماضي الأعلى حرارة على الإطلاق    بعد عام من القضايا المتبادلة.. شيرين عبد الوهاب تنتصر على روتانا    6 أفلام مغربية تستفيد من دعم قطري    مواجهات عنيفة بين الجيش الجزائري وعصابة البوليساريو بتندوف (فيديو)    تفاصيل المصادقة على اتفاقية لتهيئة حديقة عين السبع    مصدر خاص ل"الأول": "طاقم تونسي لمساعدة الشابي في تدريب الرجاء"    المغرب يعزز قدراته الدفاعية بتسلم طائرات "بيرقدار أكينجي" التركية المتطورة    "قناة بنما" تكذب الخارجية الأمريكية    القوات الإسرائيلية تخرب 226 موقعا أثريا في قطاع غزة    وزير الدفاع الإسرائيلي يأمر بالتخطيط ل"هجرة طوعية" من غزة بعد مقترح ترامب للسيطرة على القطاع    شرطة ألمانيا تتجنب "هجوم طعن"    أستاذ مغربي في مجال الذكاء الاصطناعي يتويج بجامعة نيويورك    7 أطعمة غنية بالعناصر الغذائية للحصول على قلب صحي    الرباط.. العرض ما قبل الأول لفيلم "الوصايا" لسناء عكرود    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«إذا الشعب أراد الحياة».. حين تتظاهر القصيدة في الشارع
لماذا رددت الجماهير العربية بيتا واحدا للشابي و«داست» على باقي تراثها الشعري؟
نشر في المساء يوم 24 - 12 - 2012

بالرغم من تراثها الشعري الضخم، لم تجد «أمة الشعر»، حين انطلقت شرارة الثورة من سيدي بوزيد مع محمد البوعزيزي، الذي خلدت تونس مؤخرا ذكرى وفاته الأولى،
سوى بيت شعري لأبي القاسم الشابي كانت رفعته بالأمس في وجه المستعمر الذي كان قد ناء بكلكله على صدرها سنوات طوال، فهل هي سخرية الأقدار أن وجدت هذه الجماهير العربية من الماء إلى الماء نفسها ترفع نفس بيت أبي القاسم الشابي: «إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ / فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر» في وجه من حكموها بعد رحيل المستعمر الذي كانت قد توحدت ضده كل الشعوب العربية؟ أم لأن الأمس أشبه باليوم، حيث الظلم لا لغة ولا دين له؟ أم لأن حس هذا الشاعر المسكون بطموح الشباب وتحديه وصدقه في التعبير عن آمال الإنسان الكبرى وفي أن يظل حرا طليقا كريما لا يحكم مصيره أحد سواه هو ما جعل الشعوب العربية الثائرة لم تجد أقرب شعار ترفعه في وجه جلاديها سوى مطلع قصيدة «إرادة الحياة» ذات النفس الشبابي الثوري الذي يتماشى مع طموحات أجيال شبابية جديدة كانت في طليعة من يصيح عاليا «الشعب يريد إسقاط النظام» أو «ارحل».
فهل مميزات شعر الشابي هي ما جعلت الجماهير العربية تشد بقوة على بيت هذا الشاعر الرومانسي و»تدوس» على واقعية الشعراء ونثريتهم وترفع شاراتها بالنصر تستنهض الهمم وتكلم في الإنسان العربي شيئا ظل يعطله وهو «إرادة الحياة»، ولذلك عاش «أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر». فهل أخذ الشعر بهذا البيت المكانة اللائقة به وعاد فاعلا في التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي في كل بلد وكل عصر؟
في هذا الملف يقرأ مبدعون مغاربة كل من زاويته لماذا تردد بيت الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة...» في كل الثورات العربية؟ هل لأنه كان يعبر عن مطالب الجماهير العربية التي ظلت تحلم بالكرامة؟ ولماذا اختير هذا البيت الشعري من دون التراث الشعري العربي كي يكون شعار الحلم بالتغيير.
عزيز أزغاي (شاعر وفنان تشكيلي)
«إرادة الحياة» نشيد المستضعفين الخالد
أولا، تنبغي الإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين، قبل الإجابة عن سؤال هذا الملف. الملاحظة الأولى أن الشابي سبق له أن نشر نماذج من شعره في مجلة «أبوللو» لصاحبها أحمد زكي أبي شادي بالقاهرة ابتداء من سنة 1932. وبسبب نبوغ الشاعر وارتفاع شاعريته، طلب منه أبو شادي أن يخص ديوانه «الينبوع» بمقدمة، مما متن أواصر الصداقة بين الشاعرين، وجعل الشابي يفكر، بعد ذلك، في نشر ديوانه الأول بالقاهرة، وهو ما تم بالفعل، لكن بعد واحد عشرين سنة على وفاته.
أما الملاحظة الثانية فهي أن قصيدة «إرادة الحياة» موضوع هذا الملف، والمؤرخة في 15 شتنبر 1933، توجد من بين قصائد ديوان الشابي الأول «أغاني الحياة»، الذي صدر سنة 1955، عن دار الكتب الشرقيةبتونس، وتم طبعه بدار مصر للطباعة بالقاهرة (طبع في مصر وليس في تونس)، أي بعد واحد وعشرين سنة - كما أسلفنا - من وفاة الشاعر التي كانت في سنة 1934.
الغرض من استحضار الملاحظتين السالفتين يتجلى في كونهما تتضمنان إشارتين بالغتين، الأولى هي المكانة التي حازها الشابي، وقد كانت سنه لا تتجاوز الخامسة والعشرين، في مصر التي كان صوتها الشعري محمولا على أكتاف شعراء كبار أمثال: محمد سامي البارودي وأحمد شوقي وعبد الرحمان شكري وحافظ إبراهيم وغيرهم، وهو الأمر الذي اعتبر اختراقا شعريا لتلك الجبهة التي كانت تنتصر لمركزية الشرق.
أما الإشارة الثانية، فتتعلق بصدور مجموعة الشابي الأولى في مصر، أي بالمركز، مما مكنها من الانتشار على نطاق أوسع، مع ما رافق ذلك من اعتراف بقامة هذا الشاعر التونسي القادم من غرب الشرق.
وإذا ما أضفنا إلى هاتين الإشارتين قيمة الشابي الشعرية المتأصلة ونبوغه المشهود، إلى جانب موضوع القصيدة الذي يركز على استنهاض الهمم طلبا للحياة الحرة والكريمة، في محيط عربي كان ما يزال يرزح تحت نير الاستعمار، ثم برمجتها في أغلب المقررات الدراسية العربية بعيد استقلالات الدول العربية، أمكننا استيعاب الهالة الشعرية التي حازتها هذه القصيدة، ليس عربيا وحسب، بل كونيا، باعتبارها نموذجا لشعر المقاومة وشعر الحياة.
أضف إلى ذلك أن ما سمي - تجاوزا – ب«الثورات العربية» انطلقت من تونس، مسقط رأس الشاعر، وبالتالي لم يكن غريبا أن تصبح هذه القصيدة بمثابة الحطب الذي أذكى حرارة الشارع العربي داخل البلدان التي عاشت حراكا شعبيا غير مسبوق، لكونها كتبت بلغة شفافة، سهلة، واضحة وواقعية، مما جعلها في متناول الحفظ وقريبة من وجدان العامة.


عبد الفتاح الحجمري (كاتب وناقد)
البيت الشعري هو دفاع عن حرية الشعوب ضد الفساد
قول شعري أثير بعيدا عن كل إملاء إيديولوجي مسكوك أبدعه شاعر خبر هموم الناس والنفوس بعبارات في غاية البساطة والعمق والدقة والوضوح...، وهي ميزة قصيد شاهد على حقبة وتقاسيم عصر؛ قول شعري وحده قادر على ترجمة أحاسيس الأفراد ولواعج الجماعة من أجل بناء مجتمع ناهض متحرر ونابض بالحياة.
لا يكون الأدب إلا حين ينشد قلق الكينونة ويصقل نبرة الغضب إنصافا للإنسان وتحقيقا لكرامة مرجوة.
الإرادة دوما للشعب، أي لروح الجماعة لأن أساس الحياة كامن في الحرية، وهذا ما نظرت له العديد من الكتابات الفلسفية والفكرية التي رهنت الحرية بالحق وبالواجب لا بالفطرة أو الاكتساب والمشاعر الحماسية العابرة.لذلك، لا تنفصل إرادة الشعوب عن الوعي بالمصير والشعور الواقعي بقيمة المعرفة والتعلّم، بهما تصبح الحرية ضرورة للتقدم والخروج من التأخر التاريخي؛ الحرية هنا جماعية لا فردية ومنبعها إرادة الشعب،لأنها أعدل إرادة يجد فيها كل فرد صوته استجابة لندائه وتطلعا لرغباته.
إن البيت الشعري لأبي القاسم الشابي، وبصرف النظر عن السياق التاريخي الذي قيل فيه إبان حركات التحرر من الاستعمار، هو دفاع عن حرية الشعوب ضد الفساد وسوء التدبير وخيبة المدى في ظل حكم جائر فرضه المستعمر أو فرضه حكم مستبد؛ فالحرية تعبير عن الإرادة ومشاركة جماعية لحركة اجتماعية ترغب في تخطي الأزمة وتصوّر «ثقافة سياسية» بديلة بوصفها أملا منشودا يمكن العودة إليه كما تمثلته نظريات مضيئة في الفكر السياسي المعاصر لدى توماس هوبز وجان جاك روسو وكانط مثلا.
إذا الشعب يوما أراد الحياة:عبارة خالدة ومعبرة عن حركة احتجاجية ضد مستعمر، وهي في الآن ذاته عبارة معبرة عن حركة اجتماعية ... حتى إسقاط نظام.

الحبيب الدائم ربي (روائي)
إنها الرغبة العارمة في تجاوز شرط الهزائم بإرادة للحياة لا تقهر
الآن يمكن للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي أن ينام في مثواه- ذي المتربة- قرير الروح لأنه أفلح أخيرا في أن يلج بوابة العروبة- ببيتين شعريين لا غير- في عز الربيع، وهو ما لم يكن يحلم به قيد حياته الحزينة الخاطفة.. لا لأنه لم يكن يملك من القريض غيرهما ولا غير مؤهل لذلك وإنما لأن مؤهلين كثرا سواه ما أتيح لهم شرف الحياة من جديد، بعد ممات، لاعتبارات لا نملك لتفسيرها قولا فصلا. لعل من بينها تلك المصادفات التي عرّفها «كورنو» بكونها «التقاء سلسلتين مستقلتين- أو أكثر- من الأحداث». أهو مكر الشعر أم مكر التاريخ؟ لربما يكون مفتاح اللغز في عدم وجود مفتاح أصلا.
علينا أن نمتلك الشجاعة الكافية للقول بأن البيتين الشهيرين، في سمفونية الحراك العربي، لصاحب «أغاني الحياة»، ومن منظور شعري صرف، لا يحوزان قيمة إبداعية استثنائية في ذاتهما، بيد أن قوتهما، فيما نظن، قد تتأتى من خارجهما. هذا إن جاز لنا الحديث عن دواخل وخوارج في مقاربة الفعل الإبداعي. إنهما(أي البيتين)، بظننا، أقرب إلى النشيد من الشعر(وما عساه يكون الشعر في المحصّلة؟) لكنهما أيضا أقرب إلى القلب من أي شعر. وتلك هي المسألة. مادام تعريف الشعر يبقى خارج مدارات التحديد النقدي، وإلا فإلامَ يرجع السبب في انبعاث هذين البيتين من رماد الوقت بألق أكبر؟ هل لأن صاحبهما كان أصدق؟ ربما.
علينا كذلك أن نتحرر قليلا من نظرتنا «التقديسية» للشعر(وللفنون ككل) مادام الإبداع – أي إبداع- يستند في إنتاجه إلى «صناعة»، لها أصولها وضوابطها، فضلا عن هامش من الإلهام(ولو أن الإلهام مجرد دفع بالصنعة إلى منتهاها). والحال أن الشعر، بما هو واحد من القيم البشرية «المنقولة»، لا مناص له من أن يخضع لاقتصاديات التداول (الرمزي على الأقل)، أي أن ما ينطبق على السلع بوجه عام قد ينطبق عليه. وهو لهذا يخضع لقانون السوق، علما بأن هناك آليات معقدة من شأنها التحكم في حركية العرض والطلب. ولئن كان هذا شبه مفهوم فإن المحيّر حقا هو تلك القوة الخلاقة التي ما تفتأ تكتسيها بعض الأعمال الأدبية والفنية «المَشاءة»، التي لا ينال منا الزمن ولا تكترث بعادياته. ونظن أن لوسيان غولدمان وقف في منتصف الطريق أمام هذا الأمر حين اعتبر ذلك مقصورا على النصوص الفذة (الدينية والملحمية والأدبية) التي تملك «وعيا ممكنا» و»رؤية للعالم»، لأنه بدل أن يعتمد في شرحه أدوات واصفة دقيقة وظف مصطلحات غامضة لا تليق بمنظّرِ للبنيوية التكوينية وسوسيولوجياها. والواقع أن ما يعنينا هنا ليس وضع منجز أبي القاسم الشابي في ميزان النقد الأدبي، لأن قيمته الفنية لا تقبل الدحض، وقد ظلت حتى بعد مماته متنامية متصاعدة. لكننا في المقابل لا نستطيع الجزم برأي في صدد التلقف الخارق وشبه السحري لبيتيه الشهيرين من قبل شباب الثورة في تونس وباقي بلدان الربيع العربي. أكانَ للشابي أن يصدح، من جديد، كما لم يصدح من ذي قبل، لو لم تتفجر شرارة الثورة من أرض تونس أول مرة؟ لكن هل كان من الجائز أن يحل محل الشابي، كصوت للثورة وكرمز شعري، شاعر عربي آخر مهما كان، والدرس الثوري، في المشارق والمغارب، كان وسيظل تونسيا؟


عبد الدين حمروش (شاعر)
مواقف الشابي زادت في توهج البيت الشعري
في عصر الرواية، ينتصر الشعر بكل عنفوان. إنها لمفارقة أن يعلو صوت الشعر، في الوقت الذي بات يُنظر إلى زمنه، باعتباره زمنا للأفول والغياب. فجأة، وفي لحظة تاريخية فارقة، ترتفع هامة الشعر في الساحات والميادين والشوارع. أين تَخَلَّف السرد، على عكس ما توقعه منظروه؟ في هذا الموقف، ليس هناك أنسب من تحوير قول مأثور، ليصير على النحو التالي:» كذب المُنَظِّرون ولو صدقوا».
في قصائد الشابي تنبثق الحياة بأقوى صورها ومعانيها. أو لم يحمل مجموعه الشعري اسم «أغاني الحياة» تصريحا لا تلميحا؟ الحياة، بما تعنيه من حرية وانطلاق، تستحق أن تُغنَّى، حتى في أشقى لحظاتها. إن التشبث بها يستدعي خوضها ومجابهتها بكل إرادة وعزيمة. هذا هو الدرس الذي ما انفك يعلمنا إياه الشابي، من خلال جميع أغانيه المبثوثة في المجموع، وتحديدا أغنيته القوية «إرادة الحياة». لقد عُرف عن شاعرنا نزوعه الذاتي- التأملي، سيرا على منوال الشعراء الوجدانيين. غير أن قصيدته المذكورة تكاد تنحرف بمسار الشابي الشعري قاطبة، بخروجها من إسار الذات الفردية إلى رحاب الذات الجمعية. لم تكن الذات الأخيرة غير الوطن/ الأمة. هاهنا يفتح الشاعر نوافذ قصائده لتُقرأ بأكثر من معنى ودلالة.
كانت قصيدة الشابي ترافق مسيرات الثائرين في الساحات والميادين والشوارع. لقد مثلت التعبير الأمثل عن إرادة الحياة، في وجه الموت الذي أطبق على كل شيء. فاللغة السلسة، المقترنة بالمعنى البسيط، جعلت القصيدة تنطلق مدوية من حناجر أولئك الثائرين، من مختلف خلفياتهم الاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية. لقد ظلت بمثابة الخبز اليومي، الذي لم يكفوا عن التغذي عليه، في لحظات نشدانهم الحرية والديمقراطية. إن الأمر يتعلق بتعبير عن هوى شعبي، لا يمكن أن يصوغه إلا شاعر راءٍ بحجم أبي القاسم الشابي.
إضافة إلى المعنى، لا ينبغي تغييب قائله بأي حال. فلحضور الشابي، بشخصيته الشابة المبدعة، أكثر من رمزية في سياقنا. لقد كان شاعرا ثائرا بأبعاد مختلفة، سواء في رؤيته الفنية أو مواقفه السياسية. ولعل ذلك ما زاد في توهج البيت الشعري، وقد استعيدت قوته لتكون معبرة عن اللحظة الثورية الراهنة. والمفارقة أن القصيد/ النشيد، الذي كثيرا ما استُهلك لخدمة وطنية رسمية، سرعان ما سيستأنف حيويته الشعبية من جديد. لقد انتُزع من حضن بارد ليُنقل إلى حضن آخر دافئ.
إذن، ليس من الغريب أن ترتفع حناجر الشباب بشعر واحد منهم..أي الشابي الشاب. إنه صوتهم، في نشدانهم الحرية والصباح الجديد. ها هنا، يلتقي الشباب الثائر: في الحياة والفن. الشباب والثورة، يجمعانه بهم في لقاء تاريخي عجيب. والحياة ليست بمنأى عن ذلك، مادام الشاعر اختار أن تستمر حياته في شعره المُبدِع.

الزبير بن بوشتى (كاتب مسرحي)
من «إذا الشعب يوما أراد» إلى «الشعب يريد»
يبدو أن الإبداع الحق لا يمكن إلا أن يستبد بالإنسان في كل زمان ومكان. وقصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي أو على الأقل مطلعها الشهير: «إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر» تتوفر على كل مقومات الحلم الرومانسي الثوري الآخذ بالوجدان وبالقلوب.. لأنها أولا وقبل كل شيء قصيدة نابعة من رغبة الشاعر المعتل صحيا والمهدد بالموت في أي لحظة في التعلق بالحياة وتحدي كل علات مرضه التي تتهدد حياته.
ثم إن مطلع القصيدة يبدأ بإذا «شرطية» ويتبعها بكلمة مزلزلة وثائرة، هي «الشعب»، وبعد ذلك «الإرادة»، ف«الحياة»، وهي بغنائيتها كلمات تواشجت معانيها لبناء جملة رومانسية تستدعي الحلم الثوري مصيبة هدفها من القلب والوجدان فتشحذ الهمم وتوقظ الحماسة لدى الراغبين في التحدي على الوهن المتمكن من جسد الوطن العربي المعتل. ثم تتبع كل هذا ثلاث كلمات لها من قوة انفجارية ما يحيلها إلى ثورة حية تحيل الكلمة إلى فعل، هي: لابد، القيد، ينكسر.
لذلك نجد أن الشعوب العربية انبرت إلى تحوير مطلع البيت «إذا الشعب يوما أراد» بحذف «إذا» الشرطية و«يوما» التي تعني زمنا غير محدد، وتغيير زمن الإرادة من الماضي إلى الحاضر ليصير شعارا تقريريا مباشرا: «الشعب يريد».
وفي رأيي اختيار هذا البيت له سببان: السبب الأول نوستالجي باعتبار أنه البيت الذي كانت تردده الشعوب المغاربية في نضالاتها ضد المستعمر. أما السبب الثاني فيعود إلى كون الشرارة الأولى لما يسمى ب«الربيع العربي» قد انطلقت من تونس، لذلك كان حتميا أن يستعمل التونسيون الشعار النضالي الأثير على القلوب المتعطشة للتغيير ليسري هذا الشعار في الجغرافية العربية كما تسري النار في الهشيم. ثم إن تشبث الشعوب العربية بمطلع قصيدة الشابي الذي ينتمي إلى جيل النهضة العربية يؤكد على أن الواقع العربي السياسي والاقتصادي والمجتمعي لم يمسسه أي تغيير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.