عندما تعيد الثورات الأمل في ضرورة قول الشعر الشعر فن إنساني بامتياز، فن ربما به أيضا من الممكن أن نحدد هوية/ كينونة الإنسان كإنسان، بجانب بقية المميزات والمعايير التي انبثقت من الدراسات الإنسانية، الشعر لغة من لغات الحياة، به نحب وبه نؤرخ لكل أشكال التمرد، واحد من أروع ما كتب به العربي عن نفسه، منذ بداياته الاولى، مما جعل هذا الفن يساير في الكثير من الأحيان، ما عاشه العربي من تحولات حياتية، به كشف عن عشقه لكل أشكال الحياة، تغنى بالمحبوبة في الخدر وخارجه، تقرب به للخليفة وتمرد به عنه، به تغنى بالحياة، والتصق بها، رافضا كل اشكال الاستعمار، متمسكا بالحق في الحياة ومتعه،عاش العربي وأرخ لنفسه بهذه الأيقونات الكلامية والكتابية، به تغنى شاعرنا العربي بمرضه وألمه وأمله، الشعر، إذن، نبوءة فنية ووجدانية عميقة، يوم قال الشاعر التونسي: إذا الشعب يوما أراد الحياة،، لم يكن يدرك في حياته، أن قصيدته هاته، ستكسر صخرة الواقع العربي الصلبة، قصيدة تغنى بها العرب، ليسقطوا بها، العديد من أوجه الاستعمار، وليعيدوا نفحة الحياة من جديد في ظل هذه التحولات العربية الجديدة، يشاء «مكر» التاريخ، أن تبدأ الثورة العربية في رحم التربة التي ولدت أبا القاسم الشابي، وتشاء الصدف أيضا أن تصدر الشقيقة تونس، شطرها الشعري الأول، وما يليه، مصحوبا باستشهاد البوعزيزي، لكل الساحات العربية، من أجل الحلم، بل من أجل الحق في قول لا، قول ولد من رحم استرجاع لحظات الأنس الشعري الجامعي، عجيبة هي الأقدار العربية، عجيبة هذه الأقدار حيث كان الطالب العربي، يحاكم في زمن الهيمنة الأحادية السياسية النظامية الرسمية، بمجرد أن يتم العثور في زاوية من زوايا بيته الجماعي، عن نسخة من أغاني الشيخ إمام، أو مارسيل خليفة، أو ناس الغيوان، أو جيل جيلالة، أو فؤاد نجم، أغان كان الكل يحفظها من أجل التمسك بحلم التمرد عن السائد ، أغان تسربت إليها أياد من هم «الفوق»، لكي يتقمصوا ويستمتعوا بها وهم يدركون، مضامينها وما تنهض عليه، ولمن هي موجهة، الشعر، في ضوء ما تعيشه، مجتمعاتنا العربية، من تحولات، كان ولا يزال حاضرا، بشكل بعثت فيه الحياة من جديد ، حتى بعض قنواتنا العربية التي صاحبت هذه التحولات، استرجعت لحظات حوارية، مع بعض الشعراء الذين عاشوا طوال حياتهم، لحظات تمردية عديدة، أخص بالذكر على سبيل المثال احمد فؤاد نجم الذي حضر مرات عديدة، في شاشاتنا العربية ومنها على وجه الخصوص قناة الجزيرة الإخبارية أو الوثائقية،من هنا نسجل عمق رسالة القول الشعري في خضم الثورات العربية، فهل كاد الشعر ينحبس، في آهات محددة ذات جروح وجدانية وبلاطية ، لولا «بركة» البوعزيزي، التي ولدت ما ولدته في بقية الأقطار العربية؟ فهل كان من الضروري، أن يحترق جسد البوعزيزي، ليعيد الروح في ما قاله العرب من شعر ثوري؟، كم هي ممتعة هذه اللحظات العربية، التي بدأ فيها الكل يسترجع في ساحته المختارة، لحظات شعرية تمردية، حينها وحدت أشعار عربية عديدة هذه الآهات الآتية من حناجر كلستها وكدستها السياسات العربية، حناجر لم تعد تصلح في زمن الذروة السياسي المرتبط والمرتمي في أحضان الغير، إلا للهتاف كلما انتصر فريقها الكروي، لتفرغ 'كبتها'، التي كتبته صحف عديدة، وصورته قنوات متعددة، فمن البكاء بفرحة نصر كروي، تمنته السياسات العربية لتغطية، فشلها في ايجاد الكرامة لمواطن عربي، أعيته لعبة خطابات مرة، في مؤسسات منهوكة، شاخت وانتفخت بطون الجالسين فوق كراسيها، إلى البكاء كلما استحضروا أشعارا عربية، خلخلت الثوابت، وحركت المياه العديمة، لترمي فيها حجيرات صغيرة، نافعة ومسترجعة لحقيقة لون مياهها، التي هي هنا لها لون، لأنها في الأصل مياه نقية، لكن يد الغدر حولتها إلى مياه عديمة الذوق، ليستمر العطش ويستمر الحال، إلى أن يحترق البوعزيزي الشاهد على عصره، الشهيد من أجل الآخرين، مما يجعلنا نقول، إن عربته، ستبقى دوما، عربة الحياة، عربة جرت شعوبا عربية عديدة، نحو بر آخر، غير هذا البر الذي تربت فيه أصوات تتغنى بمسخ عميق وغناء عري رهيب، دفعت اليه أموال كلما حولها العربي إلى عملته المحلية وهو يحتسي فنجان شاي أو قهوة مرة، بالرغم من سكر زيادة، يصاب بدوران في الأمعاء، وحسرة ترجعه إلى لحظة يأس، ورغبة في أن يفجر جسده الذي يجره، هنا وهناك، وهو المستحضر في وعيه / لا وعيه، نفحات شعر آتية من أزمنة متعددة منذ امرىء القيس، في عصره الثقافي الجاهلي، مرورا بما قسمته السياسة العربية على شعرها، أي مرورا بعصر الأمويين، والعباسيين، وعصر انحطاطنا العربي الذي عمر طويلا، على الرغم من أن البعض طرح وجود محاولات نهضوية تعثرت كثيرا، لكن وعلى امتداد هذه العصور، وإلى لحظة احتراق/استشهاد البوعزيزي، الذي أيقظته لطمة امرأة/شرطية، احتمى بها، من أتى من فضاء الشرطة، كان للشعر اهتزازه الوجداني الجماعي، ورسم من جديد صوت أبي القاسم الشابي الموحد لكل الحناجر العربية، حيث أعيدت أشعاره هنا وهناك، تغنت الجماهير بأغاني فيروز، ودرويش، ومارسيل خليفة، بعثت من جديد حرية الحياة، توحدت الساحات العربية بهذه الأشعار، استعادتها جماهيرها من جديد، بعد أن هربها من هربها إلى فضاءات أخرى غير فضاءاتها الحقيقية، كتلك الأزقة والدروب القديمة في تلك المدن القديمة،استحضر الجميع لحظة الدرس الجامعي وما كان يليه من نقاشات عديدة في بيوت طلبة جامعيين عديدين حتى منتصف الليل، وقد فرغت البطون من طعام لا يصلح للبقاء فيها إلا هنيهات قليلة، أعادت الثورات العربية، التي ما زال مخاضها يئن، الأمل في ضرورة أن يقول الشاعر كلامه، حلمه، موسيقاه، رؤاه، ابتساماته، نبوءاته الخ، الشعر، إذن، هو أنشودة الحياة، والأخيرة لا تتأتى إلا من رحم الحراك/العراك، المولد من الرغبة في الموت/الحياة، لا بد، وفي ضوء هذه الثنائيات المتساكنة، من خلخلة الشعر للوجدان العربي، هذا الوجدان الذي هو اليوم، يعقلن ديمومته، كبقية الوجدانات الإنسانية الأخرى التي سلكت مسلك التنوير عبر التثوير، مسالك عربية، تتزحزح، وتتبعثر فيها الأشياء لتعيش من جديد، بعد أن توحدت أزمنة هذا العربي الذي كتب عنه ما كتب، وكتب عن نفسه ما كتب، لكن من أبدع المقدمة، ومن ولد من رحمه المتنبي وابن رشد وابن عربي والحلاج وأبو القاسم الشابي، ومن ولدت أحياؤه المحمدية ناس الغيوان الخ، لابد أن يحقق الحق في الحياة، والحق في قول لا، لا لكل أشكال المسخ السياسي العربي.