محمد تركي الربيعو تخصصت الأنتروبولوجيا بداية الأمر في دراسة الثقافات المغايرة لثقافة المجتمع الغربي، بيد أن القراءة القريبة لمسار هذا الحقل أخذت تبدي تبدلاً مهماً في ما يتعلق بمواضيعه وميادينه التقليدية، والتي لم تعد مخبرا ثقافيا للدارسين الغربيين فقط، وإنما أخذت تشمل جهود باحثين محليين أو «أصليين» حسب تعبير الأنتروبولوجي المغربي حسن رشيق. وبغض النظر عن مدى قبول صحة هذه التسميات أو رفضها، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن مرحلة الثمانينيات من القرن الفائت قد شهدت بروز ممارسات ثقافوية مغربية اتسمت بهاجس نقدي متميز على المستويين الميداني والنظري، من دون أن تعبر عن نزال بين ثقافات أو قوميات مختلفة بقدر ما كانت تسعى إلى خلق رؤى ومفاهيم مغايرة ساهمت في فتح آفاق ومقاربات جديدة في الحقل الثقافي المغربي والعربي بشكل عام، من خلال منحها للأبعاد الثقافية دورها ومكانتها في فهم الحدث الاجتماعي. خاصة أن هذا الدرس أبدى اهتماماً بمواضيع هامشية (عادات، طقوس، مؤسسات قبلية) بينما كان أبطال الأيديولوجيا العربية مشغولين بقضايا ظرفية، مما دعاهم إلى تشطير وصلب الأبعاد الثقافية للذات العربية على معبد العقل الصنمي. من هنا فقد حظيت دراسات الجسد الطقوسي داخل جبال الأطلس الكبير في المغرب باهتمام كبير خلال العقود الأخيرة، لأن حضور هذا «الكائن الثقافي» داخل المسرح الديني لم يعد يمثل فعلاً تكرارياً للحظة قدسية ماضية، بقدر ما بات يكشف عن الكيفية التي يشرف بها نظام العالم على شكل وتوزيع التقسيمات الاجتماعية. من هنا سنسعى في هذا المقال إلى الإلمام ببعض المحطات الأساسية للدرس الإنساني المغربي، والتي ساهمت في التأسيس لتاريخ رمزي واجتماعي للجسد، لتتجاوز بذلك السقوط في أي رؤية تبتغي تحريره من دائرة الثقافة وتؤكد على طابعه المادي البحت. الجسد والمقدس: نعود للقول إن حرتقات هذا الجيل المحلي قد ساهمت من خلال اعتمادها على العديد من مفاتيح البحث الانتروبولوجي الحديث مع نقد عميق لبعض تأويلاتها ونمطيتها حول «الفكر البري» المغربي، في صياغة رؤية جديدة للمقدس ومن خلال انشطاره إلى مقدس احترام يميل إلى نظرية المحرمات، ومقدس انتهاك يميل إلى نظرية الحفل المرافقة للمواسم الدينية والتي يهيمن على سياقها الكثير من اللعب والمضاحك، والمنظور اليها من قبل حراس الدين بوصفها استمراراً لبقايا وثنية وشكلا من أشكال تحلل المقدس. وقد ساهم تأكيد هذا المدخل الجديد لمقدس الانتهاك، في التأسيس لملامح رؤية جديدة حول الظاهرة الدينية وعلاقتها بالمجتمع. وفي السير في سياق مختلف لرؤية التيار العقلاني العربي الذي بقي يسعى لإحداث قطيعة مع أساطير العرفان، ومحاولة تدشين استراتيجيته الرشدية والكفيلة بتحريرنا من تشنجات اللامعقول الديني، والتي بقيت قصة جذوره داخل عقلنا العربي تعتمد على رؤية تاريخية هزيلة لبعض الطقوس والأساطير المترافقة برأيهم مع الغزو الخارجي لبعض تيارات «الموروث القديم» الهرمسية والعرفانية. وبالتالي في ظل هذه الرؤية الاختزالية والمهيمنة على المشهد الثقافي العربي، كانت المدرسة الإنسانية المغربية تقوم بحفريات داخل الفضاء الديني الإسلامي التاريخي واليومي، من خلال التشديد على أن عوالم الطقوس والتشنجات الدينية هي جزء أساسي من بنية هذا المقدس، مما ساعد برأي نور الدين الزاهي على قراءة بديلة للحياة الصوفية وخاصة أن هذه القداسة قد ارتكزت على فعل الانتهاك، سواء من خلال انتهاك الحجب والقواعد الأخلاقية – التشريعية واللغوية، أو في المغرب العربي الذي جسدته مناقبها وطقوسها. وأدى هذا البعد الانتهاكي للفضاء المقدس في التركيز على «المعنى الموقعي» لمكونات الطقس وما يقوله الفاعلون في إعداد أي تأويل. وبخاصة أن المدرستين الظاهراتية والبنيوية قد ركزتا في تأويلهما للنسق الطقوسي على البعد الديني للفاعلين باعتباره السياق الوحيد، متجاهلين أو مغفلين العلاقات الممكنة بين هذا النسق والنظام الاجتماعي وما تؤديه هذه العلاقة من صياغة رؤية مغايرة بين الأسطورة والطقس، يسعى معها هذا الأخير إلى إجراء تبدل في وجه الأسطورة من دون تغيير كل ملامحها. بالتالي لم تعد الدراما الطقوسية الإسلامية نسقاً تطهيرياً، أو إحياء للحظة تزعم التعالي على التاريخ من خلال العودة السنوية إلى زمن الأسلاف لتسترد فيه الجماعة ماء فتوتها. بل بوصفها تكشف عن توترات بين أدوار طقوسية تحيل على علاقات بين مواقع وامتيازات في الحياة العادية، خاصة أن المجتمعات الباردة أو الشفوية والتي لا تفسر نفسها بواسطة التاريخ عادة ما تلجأ إلى الأسطورة والطقوس لتعبر عن هذا التوتر. ومن بين هذه الجهود يمكن الإشارة بعجالة إلى دراستين تعدان من اللبنات الأساسية في الدرس الثقافي المغربي واللتين ركزتا على البعد الاجتماعي والسياسي للنسق الطقوسي. الأولى هي دراسة عبد الله حمودي عن «الضحية وأقنعتها»، والتي حاول من خلالها البحث في الخطاب النظري الدائر حول أضحية العيد داخل جبال الأطلس الكبير، من خلال دراسة طقس بلماون (بوجلود) «المتمرد» والمرافق لعملية مقدس التوقير المتعلق بالذبيحة الإسلامية. حيث يمثل احتفالاً عريقاً ومسرحاً يتحرك داخل مجال القرية ويتمحور حول فاعل رئيسي يتنكر مرتدياً جلود أضاحي العيد بوصفه كائناً خرافياً، وممثلين آخرين في ادوار مختلفة (امرأة، عبد، يهود) يحاول الفاعلون من خلاله قول أفكار عن المجتمع. أما الدراسة الثانية فهي للباحث الميداني حسن رشيق والمتعلقة بضريح سيدي «شمهروش»، والتي حاول من خلالها الكشف عن النزاعات الاجتماعية التي تنكشف أثناء توزيع جسد الذبيحة، وذلك عندما يتزايد تحكم الجماعة السياسية في العملية الطقوسية. حينها يجري التوزيع وفقاً للقواعد السياسية المحلية والنفوذ الاجتماعي لأعضاء الجماعة. وهكذا يتم التمييز بين الأجنبي والأصلي /القديم المنتمي إلى جماعة القرية مما يساهم في توضيح مسرحة البنية السياسية والاجتماعية للقرية في أثناء توزيع الأنصبة وتقسيمها. ولذلك نتفهم كيف أن النساء والأطفال والأجانب المقصيين سياسياً ليس لهم الحق في أي نصيب في الذبيحة.