لم تشهد مصر حالة من الفوضى والانقسام طوال تاريخها الحديث مثلما يحدث حاليا، فالبلد يعيش حالة وصلت إلى الاحتراب الأهلي، ومن استمع إلى الشعارات المرفوعة والتهديدات التي وردت على لسان قادة هذه المظاهرات من الجانبين، يدرك أن الصدام الدموي بات وشيكا. فشلُ الجانبين في الوصول إلى اتفاق يضع مصلحة مصر العليا وشعبها فوق كل اعتبار، وغياب دور الحكماء، والتحريض الإعلامي، الداخلي والخارجي، غير المسؤول، كلها عوامل تدفع بتمهيد الطريق لتدخل المؤسسة العسكرية وإعلان حالة الطوارئ والسيطرة على مقادير الأمور في البلاد. هذه النخبة، بفشلها أفسدت الحياة السياسية المصرية، وأجهضت الديمقراطية الوليدة، وأعادت التأكيد عمليا على المقولة التي تقول إن الشعوب العربية لا تستطيع أن تتعايش في ظل نظام ديمقراطي لا تستحقه، وتحتاج إلى دروس ومدرسين لإعادة تأهيلها. المعارضة لا تريد إعلانا دستوريا لأنه ينصّ على تحصين قرارات الرئيس.. «طيب».. جرت الاستجابة لهذا الطلب بإلغاء هذا الإعلان باستبداله بآخر، فجرى رفض الثاني، فقرر الرئيس طرح مشروع الدستور على الشعب للاستفتاء، وانقسم القضاة بشأن الإشراف عليه. الرئاسة المصرية تتخبط بدورها، تصدر قرارات ثم تتراجع عنها بعد ساعات، وتدعو إلى استفتاء قبل أن تؤمن له الإشراف القضائي المطلوب، وترفع أسعار بعض السلع ثم تلغي القرار، وتطالب بحوار شعبي حوله. مصر الآن تُحكم من قبل عدة رؤوس، في ظل غياب المرجعيات، والشعب هو الضحية، لا يستطيع أن يفهم ما يجري حوله أو يميز بين الخطأ والصواب، الصالح والطالح. مصر أصبحت تنتظر البيان العسكري الأول لمجلس قيادة الثورة، نقولها بكل أسف، نحن الذين عارضنا، وسنظل نعارض حكم العسكر؛ فالجيش بدأ يعود إلى الحلبة السياسية بقوة، بعد أن وفر له زعماء الاستقواء بالمظاهرات والاحتجاجات الفرصة الذهبية في هذا الخصوص. يوم الثلاثاء، أصدر القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع ما بدا وكأنه «الفرمان العسكري الأول» بالدعوة إلى حوار وطني ينعقد اليوم (يقصد أول أمس الأربعاء) لحل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد. وقال مصدر مقرّب من المؤسسة العسكرية إن الفريق عبد الفتاح السيسي يدعو كل قطاعات الشعب إلى الاجتماع في حوار وطني، وإنه -أي الفريق السيسي- والرئيس محمد مرسي سيحضران جلسة الحوار هذه. المعارضة الممثلة في جبهة الإنقاذ، التي يتزعمها الدكتور محمد البرادعي وتضم السيدين حمدين صباحي وعمرو موسى، قاطعت دعوة الرئيس مرسي إلى الحوار التي وجهها إليهم يوم السبت الماضي. ومن المؤكد أنهم، وهم الذين يتمسكون بالدولة المدنية ويرفضون الدولة الدينية، قالوا إنهم «يدرسون» هذه الدعوة الجديدة، ربما لأنها صادرة من المؤسسة العسكرية التي يحترمها الجميع في مصر. إنه لأمرٌ غير مسبوق أن يقبل رئيس الدولة، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، المشاركة في حوار يدعو إليه قائد الجيش الذي أصدر الرئيس مرسي قرارا بتعيينه في منصبه هذا ووزيرا للدفاع في الوزارة التي يشكل هو، كرئيس، مرجعيتها الأولى والأخيرة؟ لوغاريتمات مصرية غير مفهومة على الإطلاق، وتؤكد أن النخبة السياسية المصرية كلها تتخبط، وتعجز عن التوافق والتعايش في ما بينها، في الوقت الذي تدعي فيه الحرص على الديمقراطية وإعادة بناء هياكل الدولة على أساسها. فإذا بات قائد المؤسسة العسكرية هو الوسيط الذي يصدر الدعوة إلى الحوار، فلماذا كانت ثورة هذه النخبة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يتزعمه المشير حسين طنطاوي، ومطالبتها باستقالته أو إقالته؟ ومع كل ما تقدم، يجب أن تستجيب جميع الأطراف المتحاربة على الساحة السياسية المصرية لهذه الدعوة إلى الحوار، رغم كل التحفظات عليها وعدم التذرع بالحجج لتبرير المقاطعة، لأنها قد تشكل، أي الدعوة إلى الحوار، فرصة الإنقاذ الأخيرة للبلاد من حمامات دماء أو حرب أهلية مدمرة، لا قدر الله. قادة جبهة الإنقاذ يجب أن يكونوا أول المبادرين إلى الذهاب إلى مائدة الحوار الوطني في القرية الأوليمبية اليوم (يقصد أول أمس الأربعاء)، وأن يتحلوا بالمرونة من أجل مصلحة مصر العليا، والكفّ عن تحريض الشارع، ليس من منطلق التنازل للرئيس وحركة الإخوان التي ينتمي إليها، وإنما لإبعاد شبح الفوضى والدولة العسكرية بالتالي. في المقابل، نتمنى على الرئيس مرسي أن يتوقف، ولو لبضعة أسابيع عن إصدار الإعلانات الدستورية، وتجميد الدعوة إلى الاستفتاء الشعبي حول مشروع الدستور، والكفّ عن إصدار أي قرارات برفع الأسعار أو غيرها، وعدم مجاراة المعارضة في حشد أنصاره وتياره للنزول إلى الشوارع والميادين احتجاجا. نطالب بهدنة ولو لأسابيع، لتهدئة الخواطر، ووقف التصعيد، هدنة بدون مظاهرات في ميدان التحرير أو مدينة نصر، أو ميدان الجامعة، أو أمام قصر الاتحادية، وأن يستمر الحوار الذي سيبدأ اليوم (يقصد أول أمس) لبضعة أيام، ريثما يتم التوصل إلى مخرج لهذه الأزمة، يحافظ على الثورة، ويحول دون خطفها أو وأدها، ويكرّس الديمقراطية التي دفع الشعب دمه وأرواح شهدائه من أجل الوصول إليها.