لست أدري من الذي أشاع أن كل مادة من مواد الدستور تمت مناقشتها في 300 ساعة، لكنه حتى لو كان ذلك صحيحا بالفعل، فإن أحدا ممن تابعوا على شاشة التلفزيون جلسة الجمعية التأسيسية لإقرار مشروع الدستور لم يقتنع بذلك.. ورغم أن معظم المواد، حتى الحساسة منها، تم تمريرها بأغلبية تكاد تكون ساحقة، فإن ذلك لم يكن بسبب اتفاق الأعضاء في أغلب الحالات، وإنما بسبب الأوامر.. كانت الغرفة السرية في الجمعية قد أبلغت الأعضاء بأنهم في سباق مع الزمن، وأن الدستور يجب أن ينتهي وضعه قبل يوم السبت، مهما كلف الأمر، حتى يسلم إلى الرئيس فيقرر طرحه على الاستفتاء استباقا لحكم المحكمة الدستورية. الرئيس يمقت هذه المحكمة رغم أنه أدى أمامها اليمين، ويتهمها، دون دليل، بكونها قررت سلفا أن تحل الجمعية التأسيسية ومعها مجلس الشورى في جلسة يوم الأحد.. وبسبب توقع الرئيس هذا الحكم بادر إلى إصدار إعلانه الدستوري في 22 نونبر ليحصّن الجمعية والمجلس من قرار الحل، ويحصّن الدستور أيضا إذا ما صدر قبل جلسة المحكمة.. التحايل على أحكام القضاء الذي لا يدع الرئيس فرصة دون الإشادة به هو السبب الأول والأخير الذي دفع الجمعية التأسيسية إلى إصدار الدستور في 19 ساعة، بأي ثمن.. ظلت الجمعية منعقدة من الثانية بعد ظهر الخميس حتى السابعة من صباح الجمعة، ورئيسها يلاحقها بالمادة تلو الأخرى، ليستخلص منها الموافقة بالسرعة الواجبة، فإذا ما تنمّر بعض الأعضاء وأبدوا اعتراضا، كما حدث مع المادة 139 الخاصة بتشكيل الحكومة، أبلغهم بأن «عدد المعترضين كبير كده»، وهكذا يعيد التصويت فلا يعارض المادة سوى 4 أعضاء فقط. «الغرياني» قضى عمره كله في محراب القضاء حتى وصل إلى قمته. ورغم أنه كان أحد أقطاب حركة استقلال القضاء، فإنه كثيرا ما يقول إنه ليست له خبرة في السياسة.. وهو رجل دمث ناعم في جلساته الخاصة، لكنه لا يطيق رأيا آخر، ولا يسمح لخيط واحد بأن يفلت من يده.. بدا ذلك بوضوح عندما عنّف نقيب الصحفيين أكثر من مرة، ورفض أن ينص الدستور على عدم جواز حبس الصحفيين في قضايا النشر.. لا مجال لفتح باب النقاش إذن حول الصحافة، لأن «الغرياني» لا يحب الإعلاميين، ومعظم أعضاء جمعيته يعتبرونهم سحرة فرعون.. لكن «الغرياني» يحب شيخ الأزهر، ولذلك فهو يفتح باب الأخذ والرد حول مادة العزل السياسي ويداور ويناور نصف ساعة كاملة لينجو شيخ الأزهر وحده من العزل.. كانت الحيلة مفضوحة تماما حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يحترمون الشيخ الجليل، ومع ذلك تم في النهاية تمرير المادة 232 التي ستثير كثيرا من اللغط، وربما المنازعات القانونية لسنوات قادمة. وصف عديدون في الجلسة الختامية هذه المادة بكونها «انتقامية»، لكن كل الأعضاء كانوا يختزنون ثأرهم لمادة كانت قد أضيفت في اللحظة الأخيرة، هي 235، وهى التي أطاحوا فيها بثمانية من أعضاء المحكمة الدستورية ال19.. كان وقت الجلسة عندئذ قد قارب نهايته. ورغم أن الإنهاك كان قد بلغ من الكل مبلغه، فإن القاعة كانت قد انتعشت قبل ذلك بقليل عندما دخل القاعة دون استئذان رجل وصفه «الغرياني» بكونه مواطنا، أخذ يوزع تفاحا على الأعضاء.. قال بعض الجالسين إلى جِواري أمام شاشة التلفزيون إنهم كانوا يتوقعون أن يوزع الرجل مانجو وليس تفاحا، وضحكنا عندما قال آخرون: بل يوزع ليمونا.. لكن الضحك خرج باهتا وهو ممزوج بكثير من المرارة. مصدر المرارة ما في الدستور من ألغام، لعل أخطرها هو الإبقاء على القوات المسلحة دولة داخل الدولة، بعيدة عن عيون المتطفلين، وهو ما تجلى في المادة 197 الخاصة بمجلس الدفاع الوطني.. لكن آخرين يرون أن الخطورة تكمن في المادة 198 الخاصة بالقضاء العسكري، وهي مادة لم يعرضها «الغرياني» على لجنة الصياغة، تعتبر القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة، رغم أنه يخضع لسلطة تنفيذية، ويسمح بمحاكمة المدنيين أمامه «في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة»، وهي صياغة مبهمة تبقي الباب مفتوحا أمام تكرار ما عايشناه منذ قيام الثورة. غير أن هناك فخاخا أخرى في الدستور.. منها المادة الشهيرة رقم 10 التي تقول إن «الدولة والمجتمع» تحرص على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية وعلى تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها الأخلاقية وحمايتها، وبذلك تفتح المادة الباب أمام تنظيمات أهلية مثل «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للتدخل باسم حماية القيم الأخلاقية.. وهناك المادة 60 التي تلزم الجامعات ب»تدريس القيم والأخلاق».. هناك المادة 10، وهي الوحيدة في الدستور التي تشير إلى المرأة فتربط وضعها بالمنزل والأسرة.. وهناك أيضا المادة 73 التي تجيز السخرة بالنص على إمكان أن يكون العمل جبرا بمقتضى القانون.. وهناك المادة 53 التي تحد من حرية الحركة النقابية بالنص على ألا «تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة مهنية واحدة».. وهناك المادة 208 التي تجيز للمفوضة العليا للانتخابات الإشراف على انتخابات النقابات، وبذلك تقيد حريتها.. وهناك المادة 48 الحاشدة بعبارات غامضة تفتح الباب واسعا أمام البطش بحرية الصحافة، خاصة إذا ما قارناها بدستور 71، في حين لا نجد في الدستور مادة واحدة تنص على أن وسائل الإعلام التي تملكها الدولة مستقلة عن السلطة التنفيذية. كنا في اللجنة الاستشارية الفنية نعارض وجود المادة 216 التي تنص على قيام هيئة وطنية للصحافة والإعلام، تشرف على إدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة.. كان هدفنا التخفيف من وطأة الأجهزة البيروقراطية.. واعترضنا كذلك على إقامة هيئة عليا لشؤون الوقف «المادة 212»، باعتبار أن هناك ثلاث هيئات مستقلة منفصلة للوقف «قبطية وأزهرية وهيئة الأوقاف المصرية» يصعب إخضاعها لسلطة واحدة.. واعترضنا على قيام هيئة عليا لحفظ التراث «المادة 213»، حيث تعنى جهات عديدة بهذه المهمة.. الآن ينص الدستور على قيام هذه الهيئات جميعا دون داع، وقبلها وبعدها ينص الدستور على بقاء مجلس للشورى يكلف الدولة مليارات الجنيهات لإعالة أقطاب أحزاب الأغلبية في حين لا يقوم بمسؤولية ملحوظة ولا تعيره الدولة أو المواطنون انتباها.. وفي المقابل، نجد أن مشروع الدستور يتجاهل إقامة مجلس للسياحة، بل يتجاهل ذكر السياحة بكلمة، في حين أنها تعتبر المورد العاجل الأهم للدخل الذي لا يكلف الخزانة العامة شيئا «لدينا الآثار والطقس المعتدل والشواطئ الممتدة».. وتغيب عن الدستور أيضا عدة مفاهيم، لعل في مقدمتها سيادة القانون الدولي والقانون الوطني، الأمر الذي يشكك في التزام البلاد بمعاهدات حقوق الإنسان الدولية. لسنا، على أي حال، في مقام دراسة مشروع الدستور كاملا وتفصيل ما فيه من ثغرات، وهي ثغرات لن يضللنا «الغرياني» بتغطيتها تحت ستار أن هذه «مادة مستحدثة» وتلك «هدية للشعب» وأخرى «لم ترد في دستور من قبل».. ولعل الجهات التي كانت قد أعلنت أنها ستقوم بوضع مشاريع موازية للدستور، تبادر الآن إلى وضع ملاحظاتها أمام الأمة حتى يتهيأ المواطنون الذين باغتتهم دعوة الرئيس إلى الاستفتاء بعد أسبوعين فقط لتحديد موقفهم منه. المشكلة الآن لم تعد في الدستور وحده ولا في الجمعية التأسيسية التي وضعته.. القضاء أقر ببطلان تشكيل الجمعية الأولى، والرئيس مرسي اعترف في بيان الفيرمونت بقصور تشكيلها الثاني.. الجمعية في كل الأحوال باطلة باطلة.. وإجراءات اجتماعها الأخير ليست قانونية.. وهي لا يمكن أن تكون شرعية في غياب جميع القوى السياسية المعارضة، ولا يمكن أن تكون شرعية في غياب واحد من عنصري الأمة.. وقد أعلن الأنبا بولا أن الكنيسة لم تفوض أحدا في التصويت عنها عندما ادعى أحد الأعضاء من حزب إسلامي أنه ممثل الكنيسة. بالتالي، مشروع الدستور الذي صدر عن هذه الجمعية دستور باطل، دستور تم اختطافه.. دستور بير السلم، الذي وضع بليلٍ، شأنه شأن كل منتجات بير السلم، مخالف للقوانين، لم يحصل على ترخيص، أُنتج دون رقابة، دون علامة تجارية مسجلة، منتج ضار لا يهدف أصحابه من ورائه سوى إلى الكسب السريع.. الكسب المرجو هنا هو ألا يضطر الرئيس إلى سحب إعلانه الدستوري الاستبدادي.. وافقوا على الدستور تنته صلاحية الإعلان عندما تنتخبون مجلس الشعب، هذا ما يريدون.. في مثل هذا الجو الذي يسوده الاستقطاب والانقسام والتربص يصرون على تمرير الدستور، ويصرون على طرحه للاستفتاء دون أن يتيحوا للشعب فرصة كافية لمناقشته كما وعدوا، ودون أن ينص قانون الاستفتاء على أن تكون الموافقة بنسبة لا تقل عن الثلثين. نعلم مقدما ما سوف يحدث.. سوف يتكرر مشهد استفتاء 19 مارس 2011.. سوف يصور تيار الإسلام السياسي رافضي الدستور -إذا ترفق بهم- على أنهم رافضون للشريعة، إن لم ينعتهم بكونهم ملحدين كفرة.. بدأ الهجمة بالفعل الدكتور عصام العريان، وقال إن الذين سيقولون «نعم» للاستفتاء هم أهل اليمين، وهم خيار الناس في الدنيا ومثواهم الجنة في الآخرة.. لكن العشيرة لن تكتفي بذلك.. ستوزع الزيت والسكر وتهيمن على منابر المساجد، ولن تكتفي بالترغيب وإنما ستمارس الترهيب أيضا بكل ما تملكه من أدوات السلطة.. لكن هذه الألاعيب إذا كانت قد استخدمت بنجاح في الماضي، فإنها ستفقد صلاحيتها في المستقبل.. لم نعد نثق بالرئيس ولا بدعوته المضللة إلى فتح حوار وطني بعد أن خدعنا في 22 يونيو بوعود تملص منها والتف حولها بعد ذلك في تأسيسية بير السلم، وإعلان بير السلم، ودستور بير السلم، واستفتاء بير السلم.