بعد أن بشر ب«نهاية التاريخ» سنة 1992 في كتاب حطم أرقاما قياسية في المبيعات وألهب سنوات طويلة النقاش في مختلف أنحاء العالم أعاد الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما النظر في تصحيح استنتاجاته في كتاب صدرت ترجمته مؤخرا إلى الفرنسية تحت عنوان «بداية التاريخ، منذ أصول السياسة حتى اليوم» عن منشورات سان سيمون، باريس 2012 في هذا الكتاب وفيما يشبه إعادة نظر في أطروحات الماضي يسعى فوكوياما إلى «تصحيح مغالطات» كان قد بشر بها وبقيت شبيهة بالحلم الذي لم يتحقق بفعل سطوة الواقع والقوانين الخاصة بالتاريخ نفسه. فلا الحروب ألقت أوزارها، ولا الثورات خمدت نارها. هكذا وفي كتاب «بداية التاريخ» توجه نحو تحديد عوامل التحوُّل السياسي عبر التاريخ، وتشكُل المؤسسات السياسية الأساسية، فخلص إلى ضرورة توافر عناصر ثلاثة لا تقوم الديمقراطية إلا بها، وهي: هيبة الدولة وسلطة القانون ومسؤولية الحاكم أمام الشعب. ويؤكد أن غياب أحدها يفقد نظام الحكم طبيعته الديمقراطية، ويجعل العقد الاجتماعي ينفرط ويقود البلاد نحو الاضطرابات والخواتم التي لا تحمد عقباها. وبالنسبة للربيع العربي الذي لم يكن ضمن توقعات فوكوياما فهو يعتبره حدثاً مهماً يدعم نظريته، لأن ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا أكدت خطأ الرأي الغربي القائل إن العرب مختلفون عن بقية شعوب العالم، على اعتبار أن الثقافة العربية الإسلامية، كما يرى الغرب، تكرس القبول بالأنظمة الدكتاتورية، كما أن هذه الثورات محت تلك التهمة التي تقول إنهم ثقافياً شعوب سلبية. ويؤكد أن ما يحدث في هذه البلدان هو نقطة الانطلاق نحو الديمقراطية، حيث يرى أن المسار الذي اتبعته تلك الثورات شبيه بثورات الشعوب في أوروبا لإرساء الديمقراطية. ويرى فوكوياما أن أكبر تحد يواجه الثورات العربية هو ذاك الذي يكمن في صعود الإسلاميين، وخصوصاً الأصولية منها التي لا تخفي عداءها للديمقراطية، وهذا سيقود إلى بروز أنظمة ثيوقراطية على النموذج الإيراني أو السعودي، مما سيسير بالمنطقة كلها إلى ردة حضارية، يضيف المؤلف. ويكتب فوكوياما أنه لا مانع من أن يحلم الإنسان بتحول الصومال وأفغانستان والعراق إلى بلدان يحكمها القانون. ويضيف بأن النموذج الدنماركي أصبح هو المقياس المتبع في هذا الباب. لكنه يستدرك بأنّ الوضع السياسي الموجود في الغرب غير طبيعي. إذ يوضح أن عبارة «التحول إلى الدنمارك» تختصر الهدف من إنشاء المؤسسات السياسية المعاصرة. إذ ينظر سكان البلدان المتطورة إلى دولة الدنمارك على أنها مكان أسطوريّ معروف بمؤسساته السياسية والاقتصادية السليمة، فهي دولة مستقرة وديموقراطية وسلمية ومزدهرة ويُسجّل فيها الفساد السياسي مستوى منخفضًا جدًّا. ويودّ الجميع لو يستطيع تحويل الصومال أو هايتي أو نيجيريا أو العراق إلى «الدنمارك». وبالنسبة للعالم العربي يوضح فوكوياما بأنه عرف تقدمًا، فقد أُطيح بالزعماء التقليديين الذين ولتهم السلطات الاستعمارية البريطانية والفرنسية والإيطالية في بلدان مثل مصر وليبيا وسوريا والعر اق، لكن الأمر أخذ منحى آخر، حيث إن أولئك الحكام استُبدلوا بشخصيات عسكرية من قوميين وعلمانيين أحكموا الطوق على السلطة ومنعوا أي أي حضور فعلي للسلطة التشريعية. ويشير فوكوياما إلى أن دور الفقهاء انحسر في ظلّ هذه الأنظمة لحساب نظام قضائي «محدث» ينبثق من السلطة التنفيذية وحدها، باستثناء المملكة العربية السعودية التي لم تخُض قطّ تجربة استعمارية، وحافظت بالتالي على نظام أصوليّ حديث تهيمن فيه الحركة الوهابية على السلطة التنفيذية. وتحوّل الكثير من الأنظمة ذات السلطات التنفيذية القوية إلى ديكتاتوريات قمعية عجزت عن تحقيق النمو الاقتصادي أو منح مواطنيها الحريات الفردية. من جهة أخرى، يتساءل فوكوياما عن مستقبل السياسة وما إن كانت تسير إلى الزوال، فهو يرى أنه أمام العملية الدينامية التي يحقق بفضلها التنافس بين المؤسسات تطوّرًا سياسيًّا ملموسًا، يجب النظر إلى عملية عكسية تؤدي إلى الانحدار السياسي، فتفقد الشركات شيئاً من طابعها المؤسساتي. ولهذا الانحدار السياسي نوعان: فالمؤسسات أساسًا وجدت لمواجهة ما تطرحه بيئة معينة من تحديات طبيعية أو اجتماعية. ولكي تكون المؤسسات جديرة بهذه التسمية، لا بدّ من ترسيخها باستمرار من خلال المعايير المحددة والعادات الاجتماعية والاستثمار النفسي على أنواعه. أما النوع الثاني للانحدار السياسي فهو التوريث. ويستنتج فوكوياما أن هذين النوعين من الانحدار السياسي (الجمود المؤسساتي والتوريث) يظهران بشكل واضح معًا حينما يدافع المسؤولون السياسيون عن النظام القائم ويقاومون كل المشاريع الإصلاحية.