مراكش حسن بنشليخة ينفتح أول فيلم مطول «طابور» للمخرج الإيراني وحيد وكيليفار على غرفة في مقطورة غريبة وخانقة، تكسو كاملَ جدرانها موادُّ الألمنيوم المُشعّة. يستيقظ فيها بطل الفيلم (محمد رباني بور) شبه العاري، الذي تعلو وجهَه مظاهرُ الحزن والقلق ويجلس في مربّعها. وكل ما تحويه الغرفة هو سريرٌ ومنضدة تستعمل كمطبخ. ينهض البطل، الذي بدا عليه أنه في عقده الخامس أو السادس، ويرتدي بذلة تشبه زيَّ رواد الفضاء، ومن نفس المادة التي كسا بها جدران حجرته.. بعد ذلك يلبس فوق ثيابه العادية ويمتطي دراجته النارية ويخرج كل مساء، وكلما أرخى الليل سدوله وخيّم على الكون السكون، ليجول المدينة محتميا بهبوط الظلام. ما هي هذه الغرفة التي تبدو كالسجن؟ هل هي زنزانة هذا الرجل بمفرده أم هي زنزانة لكل البشرية؟ ولماذا يلبس هذا الزيَّ؟ وفي أي مدينة هو؟ والى أين تحمله دراجته وفي أي زمن يعيش؟.. لكل هذه الأسئلة أجوبتها. الغرفة تستعمل كرمز للسجن الكبير ،الذي بنته الإنسانية حوْلها، والزي هو لحماية جسد البطل (أو جسد البشرية) شديد الحساسية، بسبب ارتفاع درجة الحرارة اليومية الناجمة عن انتشار موجات الإشعاع المغناطيسي، والخروج في الليل هو للبحت عن الرزق ولمزاولة مهامّه في شوارع العاصمة طهران (تمثل هنا عاصمة العالم) شبه المهجورة، لملاحقة الصّراصير في الطوابق السفلية للعمارات الشاهقة أو في المنازل الأسرية للقضاء عليها.. كما يتطوع البطل ويخضع لأوامر شخص يهوى الرماية بالرصاص المطاطيّ ويُعرّض جسدَه العاريّ لآثار الألم القاسي من أجل دراهمَ معدودة. وفي نهاية المطاف، وعندما تنتهي رحلته الليلية عند الفجر، يأخذ قسطا من الراحة لكي يستمتع بدفء نور الفجر. لكن إيقاع الفيلم أثّر بشكل كبير على كينونته، إذ لم يتعرض إلا نادرا لطاولة المونتاج بتقنية السينما الوثائقية القوية والقليل جدّاً من الكلام والموسيقى، وسقط في فخّ التكرار المملّ والمَشاهد البطيئة، المليئة بالرمزيّات والمجازات التي لا تناسب إلا السرد. ونحن نفهم جيدا أن المخرج يوجّه فيلمه إلى كبار النقاد بمجاراة أسلوب عبقريّ السينما الروسية أندري تاركوفسكي. لهذا يُصنَّف الفيلم مع النوع الهادف كدراما مجازية عن محنة الإنسان وما يتهدده من أخطار جسام جراء التقدم العلميّ والتكنولوجي بلغته السينمائية القوية، التي سجلت لنا بكل تفانٍ المساحات المقرونة منطقيا، كغرفة البطل المغلقة التي تسبق الأنفاق ومَواقف السيارات التي تمهد للممرات، والمصاعد قبل السلالم الحلزونية، والقصور في المساحات الخالية.. وعلى هذا الأساس توفَّقَ المخرج في الربط بين لمسة العلاقة التي يريدها لفيلمه وبين الصيغة للآلة الكابوسية التي تتسبب للإنسان في شقائه. وتبقى النقطة المحوريّة في الفيلم تحوم حول الإنسانية، والبشر والعالم المعاصر ومستقبله. انه فيلم مليء بالمَشاهد المذهلة اللافتة للنظر والتأملات واستعمال لغة الإيحاء والإيماء، كالهمس للبشرية المحاصَرة في البيئة المحيطة بها، وتخليها عن إنسانيتها والتسبب في عزلتها وخطر ما قد ينتظرنا إذا فقدنا صلتنا كبشر. ويحاول المخرج أن يوقظ في نفس المُشاهِد الرغبة في تفحص ما حققه الإنسان من تقدّم صناعي وتكنولوجي، وكأنه يهمس لنا أنّ البشرية خسرت هويتها الشخصية إلى حد التساؤل عن الفرق بيننا وبين المخلوقات الأخرى.. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أهمّ لحظة في حياة البطل هي عندما ينتظر بزوغ نور الفجر ليستلقيّ على أريكة رثة، خارج مقطورته، تشبه التابوت وتطلّ من رأس قمة جبل على العاصمة طهران. ويبقى البطل مُمَدَّدا عليها، هامدا كجثة في لقطة لأطول من 5 دقائق دون أن تتحرك الكاميرا أو تتوقف، ومن دون أن يعمد المخرج إلى عملية القطع واللصق (editing) بنبرة تنحبس لها الأنفاس.