لأمدٍ طويل ساد الاعتقاد، لدى علماء النفس والتربية، أنّ "الذكاء" مقصور على من يمتلكون استعدادات كبيرة لحلّ العمليات المنطقية والرياضية. وهذا، لعمرنا، تقدير صائبٌ لولا أنه يحكم، ظلما، على أشخاص كثيرين بعدم الذكاء، والحال أنهم، بدورهم، لا يَقلّون عن سواهم في مؤهلاتهم الذاتية لمواجهة تعقيدات المواقف المختلفة. ولعلّ العالِم الأمريكيَّ هاوارد غاردنر هو أولُ من اقترح نظرية الذكاءات المتعدّدة، سنة 1983، لافتا النظر إلى أن مُؤشّرات الذكاء لا تنحصر في حلّ المعادلات المنطقية والرياضية وحسب، وإنما قد تتجلى في أمور أخرى لها صلة بالمجال والناس والجسد واللغة والموسيقى والوجود: (الذكاء المنطقي -الرياضي، الذكاء، البصري -الفضائي، الذكاء اللغوي، الذكاء الحسّي الحركيّ، الذكاء الموسيقيّ، الذكاء التفاعليّ، الذكاء الذاتي، الذكاء الطبيعاتي).. وهي وفق هذا الافتراض تراوح بين ثمانية وتسعة تمظهرات من شأن إغفالها السقوط في الاختزال. الأمر الذي سينعكس سلبا على تقويم السلوك البشري، لاسيما في المدرسة وسوق الشغل. وهذه الذكاءات -على اختلافها- لا تراتبية بينها، أي أنها على درجة واحدة في سُلّم القياس والتقويم، أو هكذا ينبغي أن يكون، من منطلق أن الشّاعرَ الفحل ليس أقلَّ شأنا من العالِم الرياضيّ وأن هذا الأخير ليس أذكى من راقصة الباليه ولا أدنى من بطل في مجال الكرة أو السباحة.. صحيحٌ أن هذه المقاربة لن تُرضِيّ أولئك الذين ظلوا يتوهمون أن "الذكاء" لا يبرح خانة حلّ المشكلات الرياضية، إلا أن الحقيقة كعادتها تأبى أن تُجامل أحدا. والأذكياء، تبعا لهذا، أكثر مما يَتصور بعضُ الأذكياء. فصانع جهاز الكومبيوتر لن يكون أذكى من تشومسكي (اللسانيّ) مثلا. ولأنّ المصائب، لدى الواثقين، لا تأتي وحدَها، كما يقول المثل الفرنسيّ، فقد انضاف إلى هذه الذكاءات ذكاء آخَرُ لا يقل أهمية، ما لم يكن أكثر حسماً، وهو "الذكاء العاطفيّ"، الذي من دونه لن يتحقق نجاح في العمل ولا في الحياة أصلا. ومفاده أن الشخص الذي لا يستطيع التحكم في عواطفه ولا يُراعي عواطفَ الآخرين، من خلال التمييز بين المحفلين، ليس ذكيا تماما، مهْما بلغ معدل ذكائه "المعرفيّ"، حسب الخلاصات التى انتهى إليها سالوفي وماير، في نموذجهما النظريّ، مع بداية تسعينيات القرن الماضي. وعليه فإنّ الذين يمتلكون ذكاء عاطفيا همُ الأقدرُ، مِن سواهُم، على التدبير والقيادة. من ثم فإنّ كثيرا من "الأذكياء"- بالمعنى التقليديّ للذكاء- قد يفشلون في مهامّهم، ما لم يحوزوا "ذكاء عاطفيا" يضع الفعل التواصليَّ والإنسانيّ في مقدمة رهاناتهم.. وكما أن مراعاة مشاعر الآخرين وتفهّم أحاسيسهم من شأنهما أن يقودا إلى النجاح في العمل والحياة، فإنهما يؤثّران بشكل إيجابيّ على الصحة الجسدية والتوازن النفسيّ. ولأن الفطرة البشرية، ومعها الطبيعة، مجبولة على "الذكاء" في طوره الجنينيّ، فإن الأسْرة والمدرسة مسؤولتان عن تطوير هذا الذكاء، والذكاء العاطفي على التخصيص، وإلا فإننا سننجح في إعداد أشخاص يمتلكون ذكاء يعوزه غير قليل من الذكاء!.. كاتب