في مذكراته «متهم حتى تثبت إدانته»، يحكي الصحافي خالد الجامعي كيف ارتمى في عالم الصحافة تاركا جَمل وزارة الثقافة، التي كان يشتغل في ديوان وزيرها، بما حَمل، متنازلا عن السيارة والتحية العسكرية التي كانت «تُقرقب» له كل صباح. ذات صباح من ماي 1973 سيقتاد الجامعي معصب العينين من مقر «لوبينيون» نحو المجهول، والتهمة: نشر صورة لطفل، لم يكن غير الأمير مولاي رشيد، إلى جانب بدويات يفترشن الأرض. في «متهم حتى تثبت إدانته»، التي تنشرها «المساء» على حلقات، فصول مشوقة حتى الإيلام لصنوف من التعذيب، ومفارقات بالجملة لوجوه كانت تعبر زنزانة خالد الجامعي، طيلة ستة أشهر من اختطافه، فيما هو ينتظر الذي يأتي: الجلادون، والذي لا يأتي: الفرج. وبين كل «علقة» وأخرى يردد ما أوصاه به والده بوشتى الجامعي: «إذا اعتقلوك يا بني فتماسك، واحذر أن تتخاذل أبدا». في «متهم حتى تثبت إدانته» نتعرف على شخصية خالد الجامعي التي تجمع بين كارل ماركس وعلال الفاسي، على ما بينهما من تناقض. ويتوصل خالد الجامعي، أخيرا، إلى أن اعتقاله لم يكن بسبب صورة الأمير الصغير، بل بسبب اقترابه من شخصين مسجلين خطر: أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي. - سي خالد؟ - نعم. - « المعلم» يريد رؤيتك... تبعت الرجل مترقبا وحدسي يقول لي «بأنهم» جاؤوا في طلبي ما في ذلك أدنى شك... كان في انتظاري رجلان صامتان كعمودين من الصخر، فبادرتهما بلهجة واثقة: - لقد جئتما إذن من أجلي. - .... أحاط بي الرجلان بكيفية مؤدبة وأومآ لي أن أتقدم معهما. أخذنا المصعد في صمت ثقيل كالرصاص، فأحسست كأني خارج المكان والزمان، وبدا لي أن المصعد يتلكأ في الهبوط. لما وصلنا أخيرا إلى الطابق الأرضي، وجدت الحارس الليلي «با العوني» لم يغادر العمارة بعد. وقف في مكانه متسمرا بوجه ممتقع لا أثر فيه للحياة. وفجأة، ندت من حنجرتي جملة ألقيت بها إليه كالمستغيث: - قل لهم بأنهم اختطفوني... في لمح البصر، انقضت على رقبتي يد غليظة ودفعتني إلى الأمام... جلت بعيني في الشارع، لمحت سيارة سوداء بمحرك مشغل وهي على أهبة الانطلاق.. انفتح الباب الخلفي فدفعت بسرعة إلى الداخل لأجد نفسي مضغوطا بين عملاقين. ومرة أخرى، انقضت اليد الغليظة على رقبتي وأرغمتني على دس رأسي بين ركبتي. بعدها مباشرة انطلقت السيارة بسرعة جنونية لتدوم بذلك عملية اختطافي دقائق معدودات. لم أحس بأي شيء. لا خوف ولا انفعال ولا غير ذلك. كنت ككائن أفرغت منه الروح فغدا بلا إحساس ولا شعور... تعطلت خلايا مخي وأصيبت عواطفي بالسكتة القلبية. استحلت إلى مجرد مخلوق آلي يتحرك تحت الطلب. وقفت السيارة هنيهة فانفتح أمامها باب ولجته هابطة في شبه منحدر، توقفت نهائيا. جرتني أيادي خشنة إلى الخارج، غطت رأسي مباشرة ب«كاغولة». دفعتني إلى الأمام وأجبرتني على التقدم خطوة خطوة. صعدت بعض الدرجات، بعدها خطوت خطوات معدودة في فضاء منبسط. مرة أخرى صعدت درجا ت وصوت أجش ينهرني في كل مرة صارخا: «حيد...» أزالوا عن رأسي «الكاغولة». طرفت بعيني طرفتين وتركتهما نصف مغمضتين من شدة وهج النور الذي أحسست به كالإبر المنغرزة في بؤبؤ أحداقي. وجدتني في مكتب صغير يؤثثه كرسي يتيم. أجلسوني عليه. أغلقوا خلفي الباب وانصرفوا... تراقصت في ذهني تساؤلات شتى، ولكني طردتها بسرعة وحدثت نفسي ناصحا: «لا مجال هنا للتفكير والتخمين، ينبغي أن أجعل من ذهني علبة فارغة يصفر فيه الخواء. لا تفكر لا في ماضي ولا في مستقبل، عش فقط للحظة التي أنت فيها...» ولكن اللحظة التي كنت فيها تمددت وتمططت حتى خلتها عمرا أبديا. دام انتظاري لربما ساعات طويلة، وفجأة، تناهت إلى سمعي المترقب أصوات آتية من الدهليز وأخرى تعطي أوامر صاخبة كمن تطلب فسح الطريق لشخص بعينه. انفتح الباب... ارتمت مباشرة بعده إلى عيني أيادي خبيرة وعصبتهما بعصابة سوداء شدت بإحكام خلف رأسي... إنها «الباندا» المشهورة لدى الضحايا والجلادين المغاربة على السواء. أوقفتني أياد غليظة شديدة ثم دفعتني إلى الأمام بعنف. همس أحدهم في أذني: - «لا تخف، إنهم يريدون ترهيبك فقط...» اخترقتني هذه الجملة كالسهم المارق، لكني سرعان ما طردتها وأنا أشرع في عد الدرجات التي دفعوني إلى نزولها. 1. 2. 3. 4. 5. 6. 7. 8. 9. 10. 11 ... أخجلتني تفاهة موقفي ثم عدت إلى ميكانيكية الانسان الآلي الذي صرت أمثله. انفتح باب آخر. هرع أحدهم يزيل العصابة عن عيني... وجدت نفسي وسط غرفة واسعة فسيحة أدركت فيما بعد أنها الغرفة المشهورة ب «غرفة الطابق الخامس». في أقل من ثانية، وبدون أدنى مقدمة، انقلب الإنسان الذي كنته إلى مجرد كرة للتنس تتقاذفها الأيدي والأرجل باللكم والصفع والركل المصحوبين بشتم وسباب من قبيل: - «شد لدين مك»... أرغمتنا على السهر ليلة بكاملها.» استمر سيل اللكمات والركلات بعنف وحشي دون أدنى محاولة مني للدفاع عن نفسي. كنت أدرك مسبقا أن لا جدوى من ذلك، سيما وأنهم لم يطرحوا علي أي سؤال بعد، إذ كانوا منشغلين بتفريغ غيظهم والتنفيس عن كبتهم انتقاما لليلة قضوها مؤرقين في انتظار فريستهم. إذن، لقد عوقبت لجهلي بعادات «أصحاب الحال» لكوني لم أكن في الموعد الذي كان ينبغي حسب تقديرهم أن أكون فيه. انتهت أخيرا تلك الحصة الجهنمية بعد إشفاء الغليل. لم أعد أدري من أكون وأين أوجد. كنت وأنا في ذلك الانهيار الشامل والانسحاق التام، أشبه شيء بخرقة بالية مهلهلة. - تجرد من ملابسك... نزل الأمر على مسمعي نزول السوط اللاسع على الجلد الطري، فتلقفته أذني عميقا عميقا وكأنه آت من قعر بئر غائر. وبآلية «الروبو» شرعت في امتثال للأمر. علق أحدهم بحنق وهو ينظر إلي عاريا كما ولدتني أمي ويومئ برأسه إلى رجل ضخم ملون: - انظر إلي هذا الجلف، إن له قضيبا في حجم «العتلة»... وفجأة، بدأت أزرار تفتح وتفرج عن شيء أسود... كنت في عجز مطلق، ولم يكن لي من حيلة سوى الاستسلام رغم تمرد عقلي ورفضه تصديق ما كان يمارس علي. كنت كالنائي البعيد عن ذلك المكان والزمان، أحتمي بفضاء آخر، أتشبث به كما يتشبث الغريق بخشبة النجاة. لم يعد جسمي مني ولا أنا منه. غاضت منه الأحاسيس وانطفأت منه الحياة فغدا كجسم ميت لا يشعر بألم ولا عاطفة ولا انفعال... كان مجرد فريسة مبتورة الأعضاء، منهوشة الأمعاء، رميت إلى كواسر مسعورة جائعة. اغتصاب حدث في يوم 23 أبريل 2003 (مقتطف من أسبوعية «ماروك إيبدو» بتاريخ 3 إلى 9 أبريل 2003 ) من داخل سجنه، توجه محمد رشيد الشريعي برسالة إلى العدالة جاء فيها: في يوم 22 أبريل، بينما أنا متوجه إلى مقر عملي، اعترضت سبيلي مجموعة من رجال الأمن، يتقدمهم الضابط عبد المجيد أيت العدراوي، أوسعوني ضربا في عرض الطريق قبالة مقهى عصام المتواجد بالحي الكرسيكي. وضعوا القيود بعد ذلك في يدي وعصبوا عيني ثم نقلوني على متن سيارة من نوع «فولسفاكن» سوداء اللون إلى شقة لا تبعد كثيرا عن المكان الذي اعتقلت فيه. هنالك تعرضت من جديد على امتداد ساعة من الزمن لأفظع أنواع التعذيب قبل أن يقتادوني إلى مقر الشرطة القضائية حيث استأنف التعذيب الجسدي والمعنوي بشكل أبشع. بعد أن أشبعت لكما وركلا علقوني من أيدي الموثقة على قائم حديدي (وضعية الطيارة). وأخبروني بأنهم عازمون على رميي في خط من خطوط السكة الحديدية وأنهم سيفعلون كذلك في المستقبل مع جميع مناضلي الجمعية المغربية لحقوق الانسان. بعد ذلك، أدخلوا عمودا في دبري موضحين أنهم جاؤوا بي إلى هنا من أجل تسديد فاتورة الدعم الذي تبذله الجمعية التي أنتمي إليها لسكان المدينة. هذه الممارسات الهمجية تشكل خرقا سافرا لكل القوانين والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان الموقعة من طرف الدولة المغربية. لأجل ذلك، قررت ابتداء من يوم 28 أبريل، الدخول في إضراب غير محدود عن الطعام احتجاجا على هذا التعذيب الفظيع الذي تعرضت له، وكذا على الاتهامات الجائرة التي أتابع بها والتي لم يكن لي بها أدنى علم إلا عندما وقفت أمام وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية. إني أدعوكم، بناء على كل ما سلف، أن تفتحوا تحقيقا دقيقا للوقوف على هذه الحقيقة المخجلة. وفي هذا الاطار، فإني أوافيكم بهوية بعض الأشخاص الذين استطعت التعرف عليهم من بين الجلادين. لا فرق بين الأمس واليوم... ترجمة- أحمد المرزوقي