رجعت بذاكرتي إلى الفترة القلقة التي عاشها المغرب ومعه هذه المنطقة بالخصوص بعد غياب السلطان العظيم المولى إسماعيل (ت 1139ه 1727م) هذا الملك الذي اتخذ من مكناسة الزيتون عاصمة له: مكناس التي سمتها التقارير الدبلوماسية المعاصرة فيرساي (VERSAILLE) هنا في هذه الجهة شبت الفتن التي أشعلها جيش العبيد الذين كانوا يناصرون أحد أبناء السلطان اليوم ليعزلوه غدا!! يجب على المهتمين بتاريخ هذه المنطقة أن يدرسوا الفترة القلقة: فترة الثلاثين سنة التي مر بها المغرب بعد وفاة ذلك الرجل الضخم الذي نسميه مولاي إسماعيل! فترة العقود الثلاثة التي ظهرت فيها، لحسن الحظ، أميرة قوية تحمل اسم خناتة بنت بكار التي تسميها الوثائق الفرنسية كوينتا (تصغير خناتة...) لو لم تكن زوجة مولاي إسماعيل هذه حاضرة في الساحة طوال هذه الفترة المظلمة لهلكت الدولة!! أتذكر هنا وأقترح على زملائي أن يتذكروا معي شهادة هامة للمؤرخ الفرنسي صطيفان كسيل في تأليفه بعنوان: «التاريخ القديم لإفريقيا الشمالية». لقد وصف الملك المولى إسماعيل مع ملوك ثلاثة: كان لهم الفضل في توحيد المغرب: ماسينيسا ويوسف بن تاشفين وعبد المومن. لقد انتصب أمامي سلطان من بين السلاطين الذين كانوا يتنافسون على الحكم بعد وفاة مولاي إسماعيل، هذا السلطان هو الملك أبو عبد الله محمد بن عريبة المدعو الكبير الذي هو بالذات (محمد الثاني) بعد محمد بن الشريف، وقبل الثالث والرابع والخامس، وصولا إلى الملك محمد السادس. يعرف في التاريخ المغربي ملكا باسم محمد بن عريبة: منهم من يقرأه عربية، وأمه فعلا من أصل عربي من إقليم الشاوية، ومن المغاربة من يقرأه بفتح العين وكسر الراء، وهو ما تعتمده المصادر الفرنسية المعاصرة التي كانت تتحدث عن أيامه التي عانت فيها هذه المنطقة ما عانته. الملك محمد الثاني الملك محمد الثاني بويع في قلب فاس في الدار التي ما تزال إلى اليوم قائمة بين الباب الكبير لجامع القرويين المقابل لسوق الشماعين وبين باب الصالحين من الجامع المذكور، وهو ينفتح على سوق السبطريين... وكانت معروفة بدار الشامي... هذا الملك (محمد الثاني) لم ينل حظه في الحديث من كتابنا وخاصة من طلبتنا الذين تقع عليهم وحدهم التبعة في عدم تناوله كرجل دولة، حاول بكل الوسائل أن يوحد كلمة البلاد، كانت ظروف أيامه كسني يوسف كما نعتها المؤرخ ابن زيدان في «الإتحاف». يكون علينا أن نبحث عن الأسباب الاقتصادية التي كانت وراء تعثر خطواته، ذلك التعثر الذي زاده جيش العبيد تعقيدا... كان بعض زعماء جيش العبيد يحتمي في هذه الجهة، في القصبة التي كانت غير بعيدة عن العاصمة مكناس حيث نجد الملك (محمد الثاني) موزعا بين مكناسوفاس من أجل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت الحروب «والجولات» على حد تعبير المؤرخ ابن عبد السلام الضعيف الذي يبدو عليه تأثره بالأحداث الجسيمة التي تعرفها المنطقة، كما يبدو أنه إلى جانب الملك (محمد الثاني) الذي نعته بأنه كان جوادا كالغمام إلا أن أصحابه غلبوه على أمره! صفحات محزنة من تاريخ الضعيف يكثر فيها ذكر فاسومكناس وزرهون() على نحو ما هي ورقات متعبة في تاريخ ابن زيدان! لقد كان الملك اتخذ في بدايته قرارا يقضي بإسقاط المكس (الضرائب عن المواطنين) معتقدا أن ذلك القرار سيدخل الفرحة على المواطنين قبل أن يتضح أن القرار يجانبه الصواب، فقد أفلس بيت المال! وطالب جيش العبيد بأخذ رواتبه. ربما كان يعتمد في قراره السخي على ديون المغرب التي كانت له على بعض الدول ومنها بريطانيا حيث بعث إليها بالسفير عبد القادر بيريس بتاريخ 1 رمضان 1149 الموافق 3 يناير 1737 يطالبها باسترجاع ما عليها من ديون منذ عهد والده السلطان مولاي إسماعيل على ما نقف عليه في رسالة اعتماد السفير بيريس بتاريخ (أول رمضان 1149=3 يناير 1737) لدى الملك جورج الثاني... لكن هذه الدولة (إنجلترا) ظلت تماطل المملكة المغربية التي كانت على ما قلنا... حيث رأينا أن الملك كان يناضل على عدة واجهات. لقد قام الملك محمد الثاني بما يراه اجتهاده في إنقاذ البلاد من التشرذم الذي كانت تعيشه أثناء الفترة الرهيبة التي عرفها المغرب، والتي كانت سببا في هجرة بعض الأدمغة من مكان الصراع الذي كانت مكناسوفاس مسرحا له. ومن جهة أخرى فقد تتبعت النشاط الاجتماعي للملك محمد الثاني بعيدا عن هذه الأحداث المثيرة فوجدت له أيادي بيضاء، كان منها ظهيره الذي «يستقل» به أبناء الإمام القاضي أبي بكر بن العربي دفين فاس عام 543=1148 هذا الظهير الذي يحمل تاريخ 8 ذي الحجة 1107=9 يونيه 1696 وهو يلتفت فيه إلى شريحة من شرائح المجتمع المغربي ويرد لها الاعتبار على نحو ما فعله والده السلطان المولى إسماعيل... سوف لا أنسى بعد هذا أن أذكر أن جمعية مهرجانات بني عمار نظمت لنا حفل شاي في بيت عتيق لقائد سابق للمدينة: القايد حدو اليماني البوجمعاوي، الذي ولد هنا في (مدشر بني عمار زرهون) على ما أطلعنا عليه بعض قرابته... لقد كان هذا القائد اتهم من الإدارة الفرنسية بتعاونه مع المجاهد عبد الكريم الخطابي ومع الزعيم الريسوني... الأمر الذي كان وراء نفيه من «المدشر» الذي كان محل غارات ماحقة من الجيش الفرنسي فيما يسمى بعمليات التهدئة!!. عضو أكاديمية المملكة المغربية