قدّمت المقاومة الفلسطينية وحزب الله مفاجأتين غير سارّتين لإسرائيل في الأسابيع الأربعة الأخيرة، الأولى عندما أرسل حزب الله طائرة بدون طيار «أيوب» لتخترق الأجواء الإسرائيلية، وتحلق فوق المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا وسط صحراء النقب، والثانية إطلاق كتائب القسام صاروخا على مستوطنة غوش عتصيون غداة نجاح سرايا الجهاد في إطلاق صاروخ «فجر 5» الذي وصل إلى تل أبيب، وأطلق صافرات الإنذار فيها، ودفع مليون إسرائيلي إلى الملاجئ هلعا ورعبا، وللمرة الأولى منذ أن أطلق الرئيس الراحل صدام حسين 39 صاروخا على العاصمة الإسرائيلية أثناء العدوان الأمريكي على العراق عام 1991، تحت عنوان إخراج القوات العراقية من الكويت. سجلت المقاومة الفلسطينية هذا النجاح والاختراق بينما الحكومات العربية تراقب، وهي التي فشلت في إنتاج طائرة، بطيار أو بدونه، ولم تزود حركات المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية ببندقية صيد، ناهيك عن صواريخ تصل إلى مستوطنة بالقرب من الحدود شمالي قطاع غزة. ما قدمته الأنظمة العربية للمقاومة مبادرة سلام هزيلة قوبلت بالاحتقار الذي تستحقه من قبل إسرائيل وكل الدول الغربية الداعمة لها. الصاروخ، الذي انطلق من غزة وهزم القبة الحديدية وحطّ الرّحال في تل أبيب، أذلّ نتنياهو، وكسر غروره، ومرّغ أنفه في التراب، وقلّص حظوظه الانتخابية، وفضح نواياه العدوانية وغطرسته الفارغة، أما الصواريخ الأربعة الأخرى التي ضربت المستوطنات في الضفة فأثبتت أن ذراع المقاومة أطول مما تتوقعه إسرائيل ومستوطنوها. أراد نتنياهو باغتيال الشهيد أحمد الجعبري، قائد كتائب عز الدين القسام، أن يثبت لأنصاره في اليمين المتطرف أنه «ملك بني إسرائيل» المتوّج، وأنه سيكتسح مقاعد الكنيست، لتأتي النتائج، حتى الآن، عكسية تماما، فقد أصبح مستقبله السياسي مهددا، إن لم يكن في طريقه إلى الانتهاء. تعوّدنا أن يتبارى المتنافسون في الانتخابات، رئاسية كانت أو برلمانية، على احتضان الأطفال وتقبيلهم أمام عدسات التلفزة لكسب تعاطف الناخبين، والفوز بأصواتهم بالتالي، إلا بنيامين نتنياهو، فقد فعل العكس تماما وأقدم على قتل الأطفال في غزة وسفك دمائهم لتعزيز حظوظه الانتخابية، وهذا أبشع أنواع الابتزاز الدموي. تطورات الأوضاع في قطاع غزة متسارعة، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث، فقد نفيق هذا الصباح على الدبابات الإسرائيلية وقد اجتاحته، وارتكبت مجازر جديدة، وقد يحدث العكس تماما، وتنجح الوساطات والضغوط الدولية في التوصل إلى هدنة لتنفيس الاحتقان، وإن كنا نميل إلى الترجيح الأول، أي الاجتياح، لأن نتنياهو وحليفه أفيغدور ليبرمان يريدان الثأر للإذلال الذي لحق بهما وحكومتهما وائتلافهما القديم المتجدد. فالإثنان لا يريدان أن يظهرا بمظهر الضعيف أمام إرادة المقاومة الصلبة المعززة بالعقيدة والإيمان. الخطيئة الكبرى التي ارتكبها نتنياهو، الذي لم يخض اي حرب في حياته غير الحروب الكلامية، أنه لم يقرأ خريطة المتغيرات في المنطقة العربية والعالم، ولم يفهم مطلقا، ونحمد الله على ذلك، أن مصر تغيّرت، وكذلك الشعوب العربية، وما كان يصلح قبل عامين لم يعد يصلح الآن، ولا في المستقبل. الرئيس المصري محمد مرسي كان محقا عندما قال في خطبة الجمعة، التي ألقاها في أحد مساجد القاهرة، إن مصر اليوم هي غير مصر الأمس، ومصر لن تترك غزة وحدها، وأي هجوم على القطاع عدوان سافر لن نقف مكتوفي الأيدي أمامه. مصر طردت السفير وجميع الدبلوماسيين في السفارة الإسرائيلية واستدعت سفيرها، ولا نعتقد أنه سيعود، والخطوة المقبلة إلغاء اتفاقات كامب ديفيد عمليا، فالرئيس مرسي منتخب من شعب وطني شريف، كانت القدس دائما هي بوصلته، وقدم آلاف الشهداء دفاعا عن الحق العربي المغتصب في فلسطين. منذ مائة عام واليهود ومن بعدهم الصهاينة يحاولون قتل روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وفشلوا وسيفشلون، لأن هذا الشعب المدعوم بأمة إسلامية عريقة لن يستسلم، قد يقبل هدنة، أو وقفا مؤقتا لإطلاق النار، ولكنه سيعود طالما لم يتحقق السلام العادل الذي يعيد إليه حقوقه وكرامته كاملة. إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، أرسل دباباته وطائراته وزوارقه الحربية لقصف غزة لثلاثة أسابيع، متوعدا القضاء نهائيا على صواريخ المقاومة، وها هو، وبعد أربع سنوات يعيد الكرّة ثانية، وسيفشل في المرة الثانية مثلما فشل في المرة الأولى. يتغير رؤساء الوزارات في إسرائيل، ولا تتغير المقاومة، بل تشتد عودا وتزداد شراسة في الدفاع عن قضيتها العادلة. إنه موسم الحجيج إلى غزة، يغادرها بالأمس هشام قنديل، رئيس الوزراء المصري، بعد معانقة شهدائها وعيادة جرحاها، ويصلها اليوم وزير خارجية تونس، وبعد غد ربما رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ولكن لا أسلحة ولا جيوش ولا متطوعين، في جميع الأحوال هم يستحقون الشكر على تضامنهم هذا. عندما تصل صواريخ المقاومة إلى مستوطنات القدسالمحتلة الأسيرة، بعد أن قصفت تل أبيب، فإن هذا يعني أن ثقافة الخوف هُزمت، وإلى الأبد، وأن جميع معادلات الخنوع السابقة قد تكسرت؛ فالقدس هي القبلة، قبلة الشرف والكرامة والعزة، أما ما عداها فهو الزبد الذي يذهب جفاء. إنها صواريخ الإيمان التي تخترق كل الحصون والقلاع، وتحمل راية التوحيد، وتبشر ب«فجر» جديد. معركة الكرامة في مارس عام 1968 كانت نقطة تحوّل رئيسية في تاريخ المنطقة، وتمهيدا لحرب الاستنزاف ولانتصار حرب أكتوبر عام 1973 الذي أهدره السادات. ومعركة غزة قد تلعب الدور نفسه، أو هذا ما نتوقعه.