في السياسة الأمريكية لا تحدث المنعطفات الكبرى مع تغيّر أشخاص المسؤولين الكبار، فكما يُقال: لأن الدولة الأمريكية قائمة على مؤسسات دستورية راسخة وثابتة، فإن مسيرة السياسة هي نتاج استراتيجية شاملة، قد تتبدل خلالها وسائلُ فهمها وتنفيذها، أما أهدافها الرئيسية فلا ينالُها شيء من التحوير إلا لأسباب قاهرة. على هذا الأساس، لا يمكن أن يتوقع العرب من (أوباما) الثاني تغيّرا يُذكر بالنسبة إلى (أوباما) الأول، في مجال أوضاعهم الإقليمية. فقد اعتاد إعلامُنا على طرح التنبؤات والتوقعات مع كل تجديد رئاسي للدولة العظمى (أمريكا)، وذلك منذ أن أصبحت أمريكا فاعلا شبه أوحد في مصائر القضايا العربية الكبرى، فليس غريبا القول إن الجانب المتعلق بهذه القضايا من تلك الاستراتيجية الشاملة لم تدخل عليه أيُّ تعديلات جذرية، طيلة نصف القرن الأخير على الأقل، فلا يكاد شخص الرئيس يكون أهم من الشخصية المفهومية للدولة الأمريكية، بل يحدث غالبا أن التغيير يصيب الشخص تحت تأثير تلاؤمه مع هذه الشخصية المفهومية للكيان السياسي الأكبر وليس العكس. فإذا أردنا أن نحدد خصوصية الممارسة للرئيس الأسمر خلال سنواته الأربع المنقضية، شعرنا تماما بأن الذي تغيّر قليلا أو كثيرا هو أحلام الرئيس ووعوده، وليس أبدا هو المفهوم الجذري للسلوك الأمريكي خارجيا. أما أن يُراهن البعض على أن الرجل سوف يكون أقوى من الكرسي الذي يحتله خلال الرئاسة الآتية، إذ يصبح أكثر حرية وأقدر على فرض آرائه وأسرع في تنفيذ قراراته، فتلك رهانات برهنت تجارب الرئاسات السابقة على أنها سطحية ولا جدوى منها. ومع ذلك، لعل كل هذه الوثبات المنتظرة تتطلب أن يكون الرجل عند حُسْن ظن المؤمنين برسوخ عدالته، شرْط ألا ينتظروا ما يُشبه المعجزات في تصرفاته القادمة. لسنا، نحن العرب، وحدنا في قرية الأرض الذين يشغلهم الحدث الأمريكي الرئاسي، كأنه يقع في ديارنا وبين منازلنا؛ فأوربا غارقة، شرقَها وغربَها، في التحليلات والتوقعات، وهي في جملتها تحدوها آمال تجديد الثقة بالقائد الأسمر العالمي؛ فمنذ زمن طويل، أصبحت أمريكا أشبه بالدولة العالمية، وبقية الدول كأنها ولايات ومقاطعات تجري في أفلاكها متباعدةً أو متقاربة، لكن جميعها لها مركزية واحدة تقع ما وراء الأطلسي، هذا بالرغم من اختلاف العلاقة والموقف بين كيانات الأطراف والقيادة الرئيسية. إنه الوضع الذي جعل الرؤساء المتتابعين على عرش البيت الأبيض متفاوتين في إحساسهم بحدود مسؤوليتهم الكونية، كأنما لم تعد ثمة خصوصية ضيقة لأية قرارات أمريكية خالصة، بل لا بد لها من الأصداء مترامية الأطراف في أنحاء الدنيا، تحبيذا أو رفضا لها. قد يصدق هذا القانون أو شبه القانون بالنسبة إلى الوقائع التاريخية ذات البعد الشمولي، وخاصة منها تلك الموصوفة بالأزمات الدولية من اقتصادية وعسكرية وسواها. وتتعاظم هذه المؤثرات وقت الكوارث المحلية، لتصيب ما هو أوسع حجما وآفاقاً عالمنا العربي هو ساحة أمريكية بامتياز، ربما أمسى يتلقى أفاعيل متغيراتها جميعها أكثر من سواه. هناك من يرى في الكثير من دولنا أنها أشبه بمحميات أمريكية خالصة. أما الدول العربية الأخرى فهي إما أن تكون مرشحة لدور المحمية أو أنها مكافحة بشكل ما ضد السقوط في وعثائها، وبالتالي فإن شعوبنا العربية تشعر بأن (أوباما) كأنه أمسى رئيسها الفعلي الذي تنقاد تحت إشارته بقية السلطات الوطنية لمعظم هذه الشعوب. أما الربيع العربي فقد أتى بالثورة الوحيدة الشمولية ضد التبعية للطغيان بأوسع معانيه وامتدادات شروره. وفي الحس العربي العفوي، تبدو أمريكا والطغيان كأنهما توأمان؛ فالربيع هو في جوهره الثائر ضد الطغيان، لا بد له أن يحسب كل حساب لتوأمه المضاد: أمريكا، والثورة السورية تقدم إلينا هذه الحكمة الأولية، فلم يكن ليتقوَّى عدو هذه الثورة الأول الذي هو النظام الأمني العسكري الأسدي لو لم يكن التوأم الآخر لهذا النظام -وهو مركزية الطغيان متمثلةً في الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية- قرر أن يطيل في عمر هذا الدم المسفوح مدرارا كل يوم. إنه قرار أكثر وحشية من الوحوش الفعلية التي يمنحها حرية الممارسة خارج كل قانون دولي إنساني. كلما أصبح الهدف هو تأجيل نهاية النظام من موعدٍ إلى آخر، كأنما لن يأتي حدّه الأخير يوما ما قريبا، غير أن من عجائب أسرار هذه الاستراتيجية الملغومة أن تغدو (بعض) الضحية نفسها محتاجةً بصورة ما إلى دعم الجلاد أو أعوانه للإبقاء عليه، وليس لانتصارها عليه. تحدث هذه العجيبة مع مسيرة هذا الانفصال المتمادي بين ما يُسمّى ثوار الميدان الداخلي ومعارضة الخارج. فهل هذه الجبهة الثانية إنما أصْطُنعت أو صَنعت هي من نفسها حاجزا غير مرئي بين الثورة وإنجازها الحاسم؟.. (أوباما) الثاني لن يلجأ إلى تكرار بعض سلوكه السابق في التنصّل من مسؤولية الدولة العظمى عن أمن عالمي يخترقه وحشٌ محليٌّ إقليمي لا رادَّ له يوقف فظاعته؛ هل صار (أوباما) مضطرا حقا إلى الانتقال من استراتيجية المراوغة الدبلوماسية إلى نوعٍ من أفعال التغيير على الأرض؟ هل ينصبّ بعض اهتمامه الأول على أحوال هذه المعارضة الخارجية انطلاقا من فكرة أن الجبهة الموحدة أصبحت ضرورة لا يمكن تجاوزها، وفي الوقت عينه تتابع الثورة مخططها الذاتي، ترفع شعار: أوان الزحف إلى دمشق، لن تبقى معاركها مشتتة الأطراف والجبهات الصغيرة العرضية هنا أو هناك، فالعاصمة هي التحدي الأكبر الذي ينتظر المجهود الأهم لثورةٍ طال صبرها، وقدّمت أروع التضحيات حتى اليوم، فهي وحدها تستحق الفوز بنصرها العظيم قبل أن تسرقه منها مخططات «المؤامرة» المعروفة المجهولة. بينما كانت تقتصر إنجازات «المعارضة» على التحرّك الدائري في مجال اللقاءات والمؤتمرات والبيانات، يتابع شباب الثورة تصدّيهم اليومي للوحش بصدورهم العارية، هؤلاء يصنعون مستقبل سورية والمنطقة معها، وإذا كان لنا أن نخشى على مصيرها فلا بدّ لنا من أن نصارح أطراف المعارضة بالقول: إن ما يتوجب عليهم أخيرا كتعويض عن مراحل الكسل والعقم السابقة، هو أمرٌ واحد: تعديل ميزان القوى لمرةٍ أخيرة لصالح الثوار ضد الزبانية، بدءا من إمداد الثورة بالأسلحة النوعية المطلوبة، والعون الإنساني لحاضناتها المدنية معها وخلفها. فلا معنى لأية صيغ جديدة من ملفوظات الجمع والتوحيد بين شراذم المعارضة إن لم يتحقق هذا التجاوز الأوحد المتبقي، وهو أن تغدو المعارضة مجتمعا إنتاجيا لأدوات الثورة المادية والمعنوية، ذلك هو الخط الأعلى للمغامرة الفاصلة. إنها الوحدة الحقيقية المطلوبة بين عون الخارج ونضال الداخل، ولا شيء آخر يمكن أن يتدخل من أطرافها إلا إذا بدّدها وشرذمها من جديد. إنها وحدة الممارسة الثورية المتمردة على كل العناصر الطارئة عليها، والمغتربة عن لسانها ولحمها وعظمها، إنها الوحدة العملية الفريدة التي تجعل كل الأغراب يُفاجؤون بأحداثها، ينتظرون إنجازاتها دون أن تنتظر هي أحدا بعيدا عن اسمها ووطنها، فلندع (أوباما) جالسا في غرفة الانتظار وحده، يترقب ماذا يمكن لوحدة الممارسة السورية أن تفعله مجددا.. أصبح اللاتدخل الأوبامي مطلبا صميميا لمستقبل الثورة، شرط ألا تشوب هذا الموقف أية آثارٍ من تدخلاته السابقة المانعة والعاملة على تأجيل ثمار الثورة بحجج واهية. الأهم من كل هذا هو اجتماع كلمة الجبهات المفتوحة في سورية حول الهدف الذي ينبغي ألا تعتريه أية تحريفات تلحق بها من أمزجة متباعدة عن بعضها. ما يعنيه مصطلح الوحدة الثورية ليس هو اجتماعا كميا لتيارات واتجاهات وإيديولوجيات متوزعة ومتعارضة في ما بينها، فالجبهات تفترض تآزر العمل الثوري ما بين قواعده وقياداته المنسجمة في ما بينها، ولقد تخطت تجارب الثورة السورية أشكالا مختلفةً كثيرة من تلك التجمعات، فلا نقول إنها زالت جميعها مع تقدم الكفاح اليومي، لكن هذا الكفاح هو الذي أسبغ على التناقضات نوعا من التجانس السريع ما دام الهدف مجسدا أمام المقاتلين؛ فالجبهة العسكرية هي أفضل بيئة لإظهار الحقائق كلها مهما كانت مبهمة ومشتتة، وأوُلاها هي حقيقة التصميم على إعطاء الأولوية إلى فعالية الإنسان الثائر، ومدى تلبيته الآنية المباشرة لمتطلبات الصراع المادي المداهم له من كل جهة. قد لا تكون الثورة حتى الآن في جبهاتها الداخلية والذاتية قد فازت بأعلام النصر كلها، لكنها أصبحت حقيقة يومية مادية وإنسانية في مشهد الواقع السياسي، وحتى الثقافي وإن لم تظهر نتائجه الإبداعية بَعْدُ. إن إبداع العمل الثوري هو الذي كان ينقص مذاهبنا السياسية والإيديولوجية، واليوم لا بدّ من أن نصيخ السمع لحوار الجبهات والكلمات، هناك لغة أخرى جديدة لم نتعلم النطق بها أو كتابتها بعد، وأهمها ولا شك كلمة الحرية عندما تتجسد أفعالا نضالية كبرى تفيض بها أرواح شبابية، أخذت عهدا على ذاتها ألا تكرر حياة العبودية السابقة لآبائها وأجدادها مهما كان الثمن، وإنها لفاعلةٌ حقا وبالغةٌ حدودَها القصوى يوما بعد يوم..