طرحت الورقة الثقافية التي قدمت إلى المؤتمر الأخير لاتحاد كتاب المغرب، نقاشا حادا حول تفكيك وتمثل المسألة الثقافية في المغرب، كما حضر المفكر عبدالله العروي من خلال حواره الأخير كظلال واهتداء. وقد تلمس المؤتمر في إجابات العروي قراءة عميقة للمرحلة الراهنة بتشابكاتها السياسية والاجتماعية وأثر ذلك على الحقل الثقافي. عود المثقف المغربي مرة أخرى إلى طرح السؤال القديم الجديد، والمتمثل في سؤال الهوية، في الوقت الذي تفشل فيه حداثة معطوبة وتجد فيه أصالة مستوهمة جدارات عالية، بينما تجري مقاربات مبتسرة إلى المشهد دينامية الثقافة المغربية. في الورقة الثقافية التي تقدم بها اتحاد كتاب المغرب نقرأ: يفرض التعدد الثقافي نفسه سؤال الهوية التي لا تمثل معطى قبلياً جاهزاً أو كينونة جامدة. بل إنها نتاج للتمثيل المشترك الذي يساهم في صياغته مجموع الفاعلين الذين ينتمون إلى هذه الهوية كصيرورة متحركة تجري في التاريخ، ومن هنا تأتي أهمية إعادة صوغ وتشكيل الهوية الثقافية وتحديد ملامحها عند المنعطفات الكبرى. ويمكن حصر ملامح هذا التعدد، الذي يطبع وجودنا وذاتيتنا الوطنية، في المكون الأمازيغي الذي اغتنى بمختلف ثقافات شعوب البحر المتوسط من الفنيقيين إلى الرومان، قبل الإسلام، فاستمرت أشكال التعبير والتواصل الشفوي وسلوك المعيش الأمازيغي حاضرة وفعالة في النسيج المجتمعي المغربي. ثم المكون اليهودي، إلى جانب المكونين الإسلامي والعربي اللذين مثلا منذ قرون واقعاً حقيقياً، وعمقا تفاعل الثقافة المغربية مع ثقافات أخرى. وقد عمل واقع القرب الجغرافي من أوروبا بدوره على تبادل التأثير والتأثر الثقافيين بين المغرب وبلدان جنوب أوربا، سواء عن طريق الوجود المغربي في الأندلس أو من خلال الحملات الاستعمارية المتكررة على بلادنا، أو عبر سهولة التنقل بين ضفتي المتوسط. وما زالت الثقافة الأوربية، بلغاتها، خاصة الفرنسية والإسبانية، وبالترجمة رغم ضعفها، تعمق تأثيرها في الثقافة المغربية المعاصرة. فظل المغرب بموقعه الجغرافي المتميز، وما يزال، بوتقة لمختلف الإثنيات واللغات والأديان والثقافات الإنسانية، ومعبرا رئيسيا لكل الأفكار والموجات والنماذج الثقافية والاجتماعية التي تجوب العالم. وطبع ذلك الثقافة المغربية بطابع متميز وأثريا التعدد والتنوع الثقافيين في البلاد.... لذلك لابد أن نتعامل مع ثقافتنا في تعدديتها المركبة وفي ديناميتها الدائمة، وفي طبيعتها المغربية المتميزة، وفي انفتاحها العام على الكونية». تؤشر الورقة الثقافية على الحقوق اللغوية باعتبار الحقل اللغوي، ملتقى الدينامية الاجتماعية والفاعلية الثقافية، وتقر الورقة على أن المسألة الثقافية ببلادنا محكومة بالتضاد والتعارض الذي يصل إلى المواجهة، بين استراتيجيتين متصارعتين، تمثل الإستراتيجية الأولى مؤسسات الدولة التي كانت تختزل دور العمل الثقافي في مواقف متذبذبة تنحاز كليا لصف التقليد والمحافظة، وتمثل الاستراتيجية الثانية الصف الديمقراطي المكون من أحزاب وطنية ومؤسسات جمعوية ونخب من المفكرين والفنانين المستقلين، في أفق بناء ثقافة وطنية. على مستوى آخر خضعت الممارسة الثقافية في المغرب إلى مقاربات مختلفة، وبعد أكثر من خمسين سنة من التجريب ومن محاولة إيجاد مسافة بين المثقف كدور وكمؤسسة مستقلة قادرة على التأثير في مجريات الحياة العامة وبين دواليب السلطة المسكونة بالامتلاك، والمحصنة بآليات الحجب والإقصاء. لقد انتهى الحال بالكثير من رموز الثقافة المغربية إلى امتهان المشي في ركاب السلطة، وأصبح مشروعهم الفكري والثقافي ،متخصص في إنتاج خطابات براغماتية. هذا المثقف الذي يتحول إلى لاعب سيرك ماهر يقفز على كل الحبال. لقد بلغت الخطة الناجعة للدولة في جر المثقف إلى جوقة المرددين والهتافين غايتها، عندما أصبحت القيم الثقافية سواسية في ميزان هؤلاء. من هذا المنطلق يتخذ الحديث عن الفساد الثقافي في المغرب مظاهر مختلفة لكن أشدها هو التمظهر الأخلاقي للظاهرة، ونعني بذلك التنصل من كل التزامات الماضي، ومن مشاريع التغيير التي دافع عنها هذا النوع من المثقفين، والتي كشف الزمن بالملموس على أنها مجرد ادعاءات واهية. و أكبر تجليات العبث هو في الإستهانة عموما بالشأن الثقافي واعتباره شيئا ثانويا أو غير ذي فائدة، فحين لا تقدر هذه المؤسسات الثقافة حق قدرها تكون قد ساهمت في إقبار ممارسة ثقافية حقة، وبالتالي فإن الحديث عن فساد ثقافي يكتسب خصوصية مفارقة حين الحديث عن فساد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. العبث الثقافي يرتبط أساسا بغياب ممارسة ديمقراطية وتدبيرية لكل ما هو رمزي أو القيم الرمزية، وأصبح المغشوش هو سيد الموقف، وبدا أن صلاح حال البلاد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا هو من قبيل المستحيلات. غير أن من أهم أسباب تقهقر وفساد الممارسة الثقافية هو طبيعة التصور الرسمي لقطاع الثقافة ككل، وتصور وزارة الثقافة نفسها والتي تقصر مفهومها للثقافة في مجال التراث والفنون والكتاب في الوقت الذي يمتد فيه مفهوم الثقافة ويتسع ليشمل كل الحركة السياسية والاجتماعية مما ينتج عنه في نهاية المطاف تصور غير حركي وغير ديناميكي، واستمرار لهيمنة ثقافة «التأخر» والأسئلة المرتبكة. قد تكون سلة مقترحات، خارطة طريق نحو إقلاع ثقافي من قبيل :تخصيص يوم وطني للثقافة، يتم فيه تبادل وجهات النظر حول مسار الثقافة المغربية. وتطوير دور المنظومة التعليمية، خاصة العمومية، في بناء مجتمع مغربي حديث، وذلك بإخراجها من اضطرابها، ومن أحد تجلياته: المناهج القائمة على التلقين ومصادرة الفكر النقدي، و عدم ضبط لغات التعلم. مما يدعو إلى تحديد وضبط إستراتيجية تعليمية ناجعة..