أن تكتب عمودا صحافيا معناه أن تخوض في أشياء مهمة وأخرى تافهة، أن تكتب عن قضايا خطيرة وأخرى سخيفة، أن تتحدث عن كل شيء وعن لا شيء لقراء لا تعرفهم، لكن تتعرف على ملامحهم وأمزجتهم مع مرور الأعمدة والرسائل. في بداية المشوار، تكون مثل شخص يريد أن يلفت الانتباه إليه، ويصرخ بأعلى صوته كي يسمعه الآخرون. لذلك يحدث أن تكتب بعض الحماقات، وقد تسيء إلى أشخاص ومؤسسات وقيم ومبادئ، دون «عقدة ذنب»، لأن كل اهتمامك يكون منصبا على خرق ما تعتبره «طابوهات»، تصبح محترفا في القفز على الخطوط الحمراء... لتحقيق عدة أهداف، على رأسها: أن يلتفت العالم إليك، ويمكن أن نضع ذلك في النهاية على عاتق «طيش الشباب»، «أنا أصرخ إذن أنا موجود». في البدايات، تكون الكتابة الصحافية مزيجا من الصراخ ضد الظلم والحاجة إلى الاعتراف. بعد أن يتحقق الهدف، وتثير انتباه الآخرين، ويصير لك قراء يراسلونك وبعضهم يتعرف عليك في الشارع أو يتحدث إليك في القطار أو في المقهى ويناقشك في فكرة أو جملة أو قفشة، حينها يصبح القراء أصدقاءك، ولا تحتاج بعدها إلى الصراخ كي يسمع صوتك. تتحول الكتابة إلى ما يشبه كلاما عفويا، بلا بروتوكولات ودون شكليات. تصير كمن يتحدث إلى شلة أصحاب تعرفهم واحدا واحدا وتقضي رفقتهم أوقاتا ممتعة. يصبح العمود الصحافي ثرثرة عفوية في مقهى. في هذه اللحظة بالضبط، إذا لم تنتبه، يصيبك الغرور. تجد نفسك تتكلم والآخرون ينصتون، تتوهم أنك أصبحت «صانع رأي» و«ملهم شعب»، وسرعان ما يتحول «الشاهد» إلى «واعظ» و«ملقن دروس». تصبح «معلما» يطلب من القراء أن «يقفوا كي يوفوه التبجيلا»، حينها تكون على حافة بحيرة اسمها «مستنقع السخافة». تتحول مقالاتك إلى دروس مملة وعتيقة، ينفر منها الجميع. على الأقل، من يملكون حسا نقديا يبتعدون عنك، فيما يتحلق حولك المريدون والأغبياء، وتفرح حينما يطلق عليك البعض لقب «الأستاذ» و«الدكتور»، رغم أن الأستاذ هو المحامي والدكتور هو الطبيب، الذي يعالج الظهر والأسنان والمفاصل. ولا يمكن للصحافي أن يكون إلا صحافيا. لحسن الحظ أن مرض الألقاب، مثل «الدكتور» و«الأستاذ»، غير منتشر لدينا كما عند إخوتنا المشارقة. رغم أن الصحافيين يعرفون أن بعض الأشخاص لا يمكن أن يجيبوا عن أسئلتك إن لم تنادهم ب«الدكتور»، وبعضهم معروف، لا تكتشف مقدار تفاهته إلا عندما تتحدث إليه على هامش عملك الصحافي، علما بأن الناس في الدول المتقدمة يحملون عشرات الدكتورات ولا أحد يناديهم ب«الدكتور». كلما سمعت أحدهم يصر على أن يضع أمام اسمه لقب «الدكتور»، لا أعرف لماذا أتذكر ذلك العبقري الذي كان يبيع أدوية لكل الأمراض في السوق الأسبوعي، وكي يضمن الرواج لمنتوجاته، يمسك في يده ميكوفونا ويتحدث عن الأخطار التي تتهدد صحة الإنسان مع تقدم العمر مستشهدا بالآية الكريمة: «إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر»... المشكلة أنه كان ينطقها بضاد مفخمة: «وما يهلكنا إلا الضهر»، ويضرب براحة كفه أسفل ظهره، «وما يهلكنا إلا الضهر». ثم يبيع الأقراص والأدوية منتهية الصلاحية ل«بوزبال». وحدث مرة أن اقترب شخص يلبس «فيستة» وهمس في أذن «الدكتور»، الذي كان يبيع دواء البرغوث والجربة أيضا، وما إن فرغ «بوفيستة» من الهمس في أذن «الدكتور» حتى صرخ الأخير في الميكروفون: «آعطي الأستاذ دوا البرغوث اعطي للأستاذ دوا لقمل»... ضاربا له الطر وسط الجموع... من يومها أصبحت أخاف أن أتحول ذات يوم إلى «أستاذ» أو «دكتور»!