انتقلت «المساء» إلى مناطق نائية معزولة في الأطلس المتوسط ووقفت على حقائق صادمة تهم تزويج طفلات في عمر الزهور أمام أعين السلطات التي تكتفي بالتفرج. طفلات يتحدرن من دواوير في ضواحي جماعة «بومية» وجماعة «تانوردي»، التي تضم آيت سعيد اوداود، آيت غانم يشو، آيت إبراهيم ، آيت بن علا... تم تزويجهن مكرهات في سن تتراوح بين 12 و14 سنة ، ليجدن أنفسهن أمهات أو مطلقات، يواجهن واقعا شديد القساوة والبؤس لأسباب الغالب فيها البحث عن لقمة العيش والاستجابة لنداء العرف والقبيلة. التقت «المساء» طفلات غادرن الدارسة كرها ليتم تزويجهن دون اكتراث بمضامين مدونة الأسرة، التي حددت سن الزواج في 18 سنة. طفلات لا يفقهن شيئا سوى أنهن وجدن في تلك القرى النائية التي لا تعرف سوى الحرارة صيفا والثلج والبرد القارس شتاء، منهن من هربت من جحيم الأسرة والعرف القبلي وبحثت عن عالم آخر يوفر لها الحماية ويجلب لها المال ويجعلها تعيش في مستوى أحسن، ولكن أي عالم ؟ يتساءل عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، قاشي مولاي الكبير الذي رافقنا في هذه الزيارة، مضيفا أن «قلة قليلة من تستطيع النجاة بنفسها، فغالبية النساء يسقطن في براثن الدعارة التي ينشط سماسرتها في هذه المداشر». هنا قرية «بومية». تركنا خلفنا مدينة مكناس على مبعدة 200 كلم, متسلقين جبال الأطلس المتوسط حيث حقول التفاح والفتيات اللواتي يتم «جنيهن» قبل البلوغ. وجوه شاحبة، مصفرة، علامات التعب بادية عليها. الشارع الرئيسي للمدينة ضاجّ بالناس، رغم التساقطات المطرية. الرجال "متكدسون" داخل المقاهي، ينتظرون توقف المطر، ونساء ملثمات توقفن أمام المركز الصحي للقرية، يبحثن عن وسيلة نقل تقلهن لجني التفاح في حقول الأثرياء. ونظرا إلى غزارة الأمطار دخلنا مقهى في القرية، مليء بالرجال، من أجل الالتقاء بمولاي الكبير قاشي، الفاعل الحقوقي والنقابي، المعروف لدى أبناء المنطقة بنضالاته وخطاباته القوية. هو من كان دليلنا في هذه الرحلة، التي قطعنا فيها مئات الكيلومترات، للبحث والتقصي عن ظاهرة لطالما حيّرت الجمعويين والحقوقيين ورجال القانون، نظرا إلى استفحالها في مناطق الأطلس، وهي ظاهرة زواج الطفلات القاصرات.
طفولة مغتصَبة.. تشتغل عيشة، التي التقيناها في بومية، في حقول التفاح.. هي نموذج لفتاة اغتُصبت طفولتها وزُوِّجت وهي في عمر الزهور، لتجد نفسها مثقلة بطفل في عامه الأول بدون وثائق وبدون أي شهادات تثبت أنها تزوجت، فعلا، وأنجبت. تزوجت هذه الفتاة، التي تبلغ الآن 16 سنة، في سن الثالثة عشرة، زواجا تقول إنه كان تقليديا، حضرتْه بعض القبائل التابعة لجماعة "تونفيت"، التي تبعد عن بومية بحوالي 37 كيلومترا استقرت مع زوجها، الذي يكبرها بخمس سنوات، في بومية، لتبدأ المشاكل معه ومع أسرته. قالت عيشة، التي تتحدث باللغة الأمازيغية: "كان يضربني ويُعنّفي لأتفه الأسباب. لم أتحمل جحيم العيش معه، فهربت إلى بيتنا في تونفيت.. بعد ذلك، طلّقني بموافقة أسرتي، ولكنني رزقت بهذا الابن".. كان الطفل هو ثمرة هذا الزواج، الذي لم يدم طويلا، لكنه خلّف وراءه مآسي للأسرة، التي رفعت دعوى ضد الزوج، الذي أخبر المحكمة أن زوجته كانت «مجرّد خادمة» في البيت.. قصة عيشة أرحم من قصة خديجة (اسم مستعار). رويت هذه القصة على لسان أحد أقاربها، الذي تحدث بأسى كبير عما وقع لخديجة من ظلم، فقد تمت خطبتها وهي في الرابعة عشرة من عمرها، بنيّة الزواج، وفي الوقت الذي كانت عائلتها تسارع الزمن من أجل الحصول على إذن المحكمة في ميدلت، على اعتبار أن الفتاة من بومية، غرّر بها الخطيب وجامعها بدون علم عائلتها.. فحملت منه، فاقترح عليها شرب دواء هو في الأصل عبارة عن مبيد حشرات خاص بالأشجار "تسيس"، قال لها إنه يُستعمَل في حالات الإجهاض.. دواء قال مولاي الكبير، الفاعل الحقوقي الذي رافقنا، إنه ممنوع دوليا. ولجهل الفتاة، فقد تناولته، وبعد أيام، أصيبت بمغص شديد، نقلت على إثره إلى مستشفى في ميدلت، ومن ثم إلى العاصمة الرباط.. ومن خلال الفحوص والأشعة، اتضح للأطباء أن جهازها الهضميّ والتنفسي احترق كليا، فتم إخبار عائلتها، لتلقى حتفها لحظات بعد ذلك.. حالة أخرى رُويت قصّتُها على لسان من قابلناهم، تتعلق بحالة قاصر تبلغ من العمر 16 سنة، زُوِّجت في إحدى القرى، وحملت بمولود، تم نقلها ب"تراكتور"، وفي الطريق توفيت، بسبب صعوبة التنقل وغياب مستوصف قريب وكذا لعدم لتوفر ولو سيارة إسعاف واحدة.. حالات كثيرة سرد تفاصيلَها أقارب لضحايا اغتصِبن في حياتهن وهن طفلات، لا يعرفن شيئا سوى أنهن وُجدن في تلك القرى النائية، التي لا تعرف شيئا سوى الحرارة صيفا والثلج والبرد شتاء.. عدا ذلك فهي في عزلة تامة. يتساءل الفاعل الحقوقي، القاشي مولاي الكبير: ما ذنبهن؟ وماذا اقترفن حتى يفعل بهنّ القدَر ما فعل؟.. منهن من هربت من جحيم التسلط الأبوي والعُرف القبليّ وبحثت عن "عالم آخر" يوفر لها الحماية ويجلب لها المال ويجعلها تعيش في مستوى أحسن، ولكن أيّ عالم؟ فحسب الكبير فإن قلة قليلة تستطيع النجاة بنفسها، فغالبية النساء يسقطن في براثن الدعارة، التي ينشط سماسرتها في هذه المداشر. ومن خلال الزيارة التي قمنا به إلى بعض دواوير الأطلس، وبالخصوص جماعة "تانوردي"، التي تبعد حوالي 30 كيلومترا عن بومية أيت سعيد أوداود، أيت غانم يشو، أيت ابراهيم، أيت بن علا، أيت زيد، أكرسيف وأيت عياش.. اكتشفنا أن الظاهرة في تزايد واتضح أن إقناع العائلات بالجرم الذي تقترفه في حق بناتها هو بمثابة سكب الماء في الرمل.. "لا حياة لمن تنادي"، يقول الحقوقيّ الذي رافقنا في الزيارة، وذلك راجع في نظره إلى أسباب عديدة الغالب فيها المادة والبحث عن لقمة العيش.. فالفتاة في هذه القبائل إذا وصلت سن الثامنة عشرة ولم تتزوج تعد عانسا "بايْرة" في نظر العرف القبَليّ، لهذا من الضروري أن تتزوج قبل تلك السن. وحسب ما أدلى به مجموعة من الأساتذة الذين يدرّسون في الابتدائي في الجماعات البعيدة عن بوميا بحوالي 20 كيلومترا أو أكثر، فإن هناك مجموعة من الظروف التي تساعد على تحقيق ذلك، أولها عدم إتمام الفتيات دراستهن بسبب بعد المدرسة عنهن، فتكون أحسن طريقة ل"التخلص" منهن هي تزويجهن لأيّ كان، حتى وإن ذرفن الدموع، بغضّ النظر عن أخلاق أو سلوك هذا "الزوج"، الأمر الذي جعل العديد من الفتيات يسقطن في فخ أشخاص منحرفين، دمّروا حياتهن. المشكل المطروح، والذي أكده الأساتذة، هو أن مسألة تقبل هذه الظاهرة في هذه الدواوير هي غاية في الغرابة، حيث قالوا إن الأسر تقبل تزويج فتاة تبلغ من العمر 12 أو 14 سنة "غصبا"، وهو الأمر الذي يعد -في نظرهم- "انتحارا" وليس زواجا. كما أكد الأساتذة أن هذه الزيجات تتم أمام أنظار الشيوخ والمقدّمينْ في هذه القبائل، التي ينتشر فيها الزواج بالفاتحة، أما مسألة إثبات الزواج، فتطرح عندما يتم تطليق الفتاة، خاصة في حالة وجود أطفال، موضحين كيف أن القوافل التي نظمت في ما يخص إثبات الزواج لم تستفد منها هذه المناطق، رغم الحملات التي كانت قد نظمت من طرف الوزارات المعنية، والتي كانت لفترة معينة ثم توقفت، وكأن الأمر انتهى في الوقت الذي ما يزال مستمرا. ثمار المدونة يأتي موضوع الطفلات القاصرات اللواتي زُوِّجن في المغرب، إما برضاهن أو رغما عنهن، بعد صدور تقرير عن صندوق الأممالمتحدة أكد أن تزويج الفتيات دون السن القانونية، المحددة في 18 سنة, ما يزال ظاهرة لم يتم القضاء عليها بعدُ، فواحدة من أصل ثلاث فتيات، حسب التقرير، يتم تزويجها قبل أن تبلغ ربيعها الثامن عشر.. وأوضح التقرير أنه رغم المجهودات المبذولة في هذا النطاق فما تزال في نظره "غير مؤثرة "وتجعل الزواج المبكر مرشحاً للارتفاع في غضون العشرين عاماً المقبلة، بنسبة 14%، إذ سيتم الانتقال -حسب التقرير ذاته- من 14.2 مليوناً في 2010 إلى 15.1 مليونا عام 2030.. ومن المرتقب أن تطال الظاهرة 130 مليون فتاة إلى ذلك الحين. وفي مناطق الأطلس الكبير والمتوسط في المغرب يعد زواج القاصر أمرا "عاديا" جدا، حيث نجد فتيات زُوجن في سن مبكرة وحملن وأنجبن أطفالا يشاركوهن اللعب!.. فالحملات التي قامت بها وزارة العدل والجمعيات الحقوقية لتوعية العائلات بضرورة توثيق عقد الزواج ومنع تزويج الطفلات -لأن مكانهن هو المدرسة وليس بيت الزوجية- لم تُعطِ، حسب من تحدثنا إليهم، أي نتيجة. فرغم المضامين التي جاءت بها مدونة الأسرة، التي حددت السن القانونية للزواج في 18 سنة، فإن تزويج الفتيات دون السن القانونية و"بالفاتحة" هو السمة المُميِّزة لدواوير هذه المناطق، التي توجد فقط في الخريطة، أما في الواقع فهي "منسيّة" ومهمَّشة اقتصاديا واجتماعيا... ورغم الجهود المبذولة من وزارات العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية والداخلية في هذا الباب ورغم مدونة الأسرة، التي منحت القاضيَّ الحقَّ في الإذن بالزواج في حالات استثنائية، ورغم الزيارات التي قام بها الجمعويون لهذه القرى، البعيدة بمسافات طويلة عن التمدّن، فإن الطفلات القاصرات في هذه المناطق يدفعن -حسب حقوقيي المنطقة- ضريبة الزواج صغيرات لآبائهنّ، حتى يعيشوا بسلام. تغادر الفتاة في هذه المناطق فصولَ الدراسة في سن مبكرة، حسب مولاي الكبير، فيكون مصيرُها هو الخدمة في البيت. أما الفتى إذا حالفه الحظ وأكمل دراسته، فهو يستمر حتى المستوى السادس، وبدوره، يغادر المدرسة ليرعى الغنم. يتم تزويج الفتاة، بعد مضيّ عام في المنزل، لأول من يطرق الباب، وإنْ كانت لا تقبل به، المهمّ هو الحصول على موافقة الأب. يعَدّ مولاي الكبير، بصفته أستاذا، حاصلا على الماستر في القانون وعضوا في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الوجهة التي يقصدها المواطنون في بومية ونواحيها، والذين يلجؤون إليه للاستفسار عن الإجراءات الإدارية والمساطر القانونية التي يجب إتباعها في حالة رغبتهم في الحصول على الإذن بالزواج أو في حالات الطلاق. وقال الكبير، في حديث مع "المساء"، إن المادة الرابعة من مدونة الأسرة تقول إن الزواج هو ميثاق تراضٍ، قبل أن تكون غايته بناء أسرة، بمعنى أنه عندما نقول "ميثاق تراض" فإن هناك رضى وقبولاً بين طرفي العلاقة الزوجية، فإلى أي حد يمكن الحديث عن التراضي ما بين طفلة في عمرها 12 عاما وطفل في عمره 14 أو15 عاما؟! فهو في نظر القانون يُعدّ قاصرا، ما زال لم يبلغ بعدُ سنّ الرشد القانونية، يضيف الكبير، موضحا أن المادة ال19 من مدونة الأسرة حدّدتْ سن الزواج في 18 سنة، ولكن ما منحته باليد اليمنى عادت وانتزعته باليد اليسرى، حيث أعطت المدونة، في المادة ال21، الصلاحية المطلقة للقاضي لكي يوافق على الزواج أو يرفضه، ولم تحدد له السنّ: "يا ريت كون لزماتو بأن يكون الإذن في حدود 16 سنة"، فالقاضي، حسب الفاعل الحقوقيّ دائماً، إذا رفض الإذن بتزويج القاصر أو قبل بذلك لا يُقبل رفضه أو قبوله للطعن، أي أنّ القاضي عندما يقول لأسرة الفتاة التي تبلغ من العمر 14 سنة إنّه يمكنها الزواج فلا أحد يمكن أن يطعن في قراره، بعد ذلك.. وتابع الفاعلُ الحقوقيّ قائلا إنّ من بين وثائق الإذن بالزواج هناك وثيقة إدارية يتمّ التوافق عليها بين وزارتَي العدل والداخلية، تتضمن توقيع "المقدّمْ" و"شيخ القبيلة".. فعندما يعلم القاضي أن الفتاة تزوجت في سنة 14 سنة ينتظر إلى أن تتم 18 سنة ويمنحها شهادة العزوبة بأنها غير متزوجة.. واعتبر مولاي الكبير أنّ هذا الأمر يُكرّس النظرة الدونية إلى المرأة في هذه المناطق. مباركة العائلة اكترينا سيارة انطلقت من قرية بومية في اتجاه دوار أيت سعيد أوداود، الذي يبعد عنها بحوالي 30 كيلومترا تقريبا. كان السائق يتحدث تارة بالعربية وتارة بالأمازيغية، معي ومع عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، مولاي الكبير، الذي يترجم لي كلامه. تجعلك مسافة الطريق الطويلة تتمعن كثيرا في تلك المناطق الجبلية الشاسعة، وتتأمل العيش فيها بالمقارنة مع مدينةٍ كالدار البيضاء، المكتظة بالسكان.. وصلت السيارة إلى عين المكان وقطعت قنطرة حديثة الصنع، تتراءى لك بيوت مصنوعة من الطين، قصيرة ومغطاة بالقصدير والخشب. يبدو المكان شبه خالٍ إلا من بعض الحيوانات والطيور، فقد جعل المطر وبرودة الجو الساكنة تلوذ بمساكنها. الكل داخل منازلهم الطينية.. اتجهنا صوب منزل عائلة المحجوب، أسرة بسيطة جدا، يُعدّ الأب معيلَها الرئيسي. ليس من السهل أن تخوض في موضوع من طبيعة زواج الطفلات القاصرات مباشرة. بل يجب، أولا، الخوضُ في مشاكلهم اليومية الاعتيادية، وهي المهمة التي تكلف بها مولاي الكبير، الذي تحدَّث مع سكان المنزل وشرح لهم المهمّة التي أتينا من أجلها، والتي تتمثل في تسليط الضوء على معاناتهم وإقصائهم، الاجتماعيّ والاقتصاديّ. بصدر رحب، استقبلنا المحجوب وشرع يتحدّث عن الصعوبات التي تعترضهم، بدءاً ببُعد المدرسة عن أبنائهم وقلة فرص الشغل والطريق التي لم يتمَّ إصلاحها, رغم أن المقاول "نال نصيبه من المال من الجماعة".. و في خضمّ الحديث، طرحنا قضية زواج الطفلات القاصرات وانتشار "زواج الفاتحة". لم ينكر المحجوب ذلك، بل استشهد بابنه "سعيد"، البالغ من العمر 19 سنة، والذي زُوِّج في سن ال16 سنة بفتاة من القرية، تبلغ من العمر 14 سنة، ولديه الآن طفل عمرُه ثلاثة أشهر، والأب هو من يتكلف بمصاريفه ومصاريف الزوجة.. في حديث مع الأب، تبيّنَ أنه لا يمانع مثل هذا الزواج "حتى لمن بْعد ويْدير العْقد"، يقول بالعربية، شارحا العراقيل التي يواجهونها في الحالات التي يحاولون فيها الحصول على الإذن باتباع الإجراءات القانونية، إذ نظرا إلى بعد القرى من المدن التي يجب عليهم أن يتحملوا أعباء ومصاريف إضافية من أجل إنجاز الوثائق اللازمة فيها فإنهم يكتفون ب"زواج الفاتحة"، فهو المعروف هنا، والذي يكون بمباركة من الفقيه. وأكد الأب أن تزويج سعيد كان بغاية جلب فتاة تساعدهم في المنزل، أي كخادمة وليس زوجة.. أما سعيد فبمجرد الحديث معه، احمرّت وجنتاه خجلا، وطأطأ رأسه، معبّرا عن قبوله الوضع. تدلّ ملامح سعيد على أنه مازال في سن المراهقة، و يتابع أقرانه في المدن الكبرى دراستهم في الإعداديات والثانويات، بينما وجد هو نفسه مكبلا بامرأة وطفل، لا يصرف عليهما, بل إن والده هو من يتكفل بذلك، وليس المشكل في هذه النقطة، بل إن الإشكال يتمثّل في أنّ زواجه تم بالفاتحة، ولا وثيقة لديه ولا لزوجته ولا لابنه.. في الزيجات التي تتم بقراءة الفاتحة يحضر الشهود و«يبارك» الفقيه الزواج، أما الفتاة فتزين لاستقبال عريسها بدون أي حماية قانونية، يقول يوسف، وهو أستاذ ونقابيّ تابع للاتحاد المغربي للشغل، إذ تتم التضحية بالفتاة ككبش فداء لإنقاذ الأسرة من الجوع، وفي حالة الطلاق والإنجاب يظل الأطفال في الغالب بدون وثائق. حالة من الضياع والتشرد، يضيف يوسف، تعيشها الطفلات القاصرات، هنّ وأبناؤهن، الأمر الذي يجعلهن يزاولن أقدمَ مهنة في التاريخ، وهي الدعارة.. مضيفا: "إنْ كانت املشيل تنظم زواجا جماعيّاً لفتيات قاصرات بشبان قاصرين، وهو الموسم المعروف باسم "إيسْلي دْتسليتْ" (العريس والعروس) فإن إملشيل ليست الوحيدة في هذا الموضوع، بل تتشارك معها جميع الدواوير المحيطة ببومية وبجبال الأطلس المتوسط".. قسوة العيش الفقر والأمية ووعورة التضاريس.. كلها عوامل تجعل من الصعب على هؤلاء توثيق زيجاتهم بشكل قانونيّ واستخراج الوثائق الإدارية، كعقد الولادة ودفتر الحالة المدنية. وقد ازداد الوضع تعقيدا مع مدونة الأسرة -حسب زهير- وهو أستاذ التعليم الابتدائي، حيث قال إن المدونة حدّدت السن في 18 سنة، وإن أراد الشخص تزويج ابنته يجب أن يقطع مئات الكيلومترات للحصول على "الإذن" من القاضي. ويعد دوار أيت سعيد أوداود ونواحيه من بين المناطق الأكثر تضرّراً من الظاهرة، حيث يعرف كثرة في الفتيات المطلقات، اللواتي يعيش جل أطفالهن بدون وثائق، فهُم موجودون في الواقع، ولكنْ في نظر القانون لا وجود لهم على وجه الخريطة، وفق تعبير الأستاذ المذكور. "الدّنيا خايْبة والزواج سْترة".. هكذا تحدثت يطو بالأمازيغية، عندما سألها مرافقنا عن سبب تزويج بناتها القاصرات، معللة ذلك بأنّ الفتاة بمجرد امتلاء جسمها يجب أن تتزوج، لأنها إنْ ظلت بدون زواج ستجلب "العار" للأسرة. وتابعت يطو قائلة إن الفتاة عندما تكبر تزداد مصاريفها، فهي تريد أن ترتدي أحسن الثياب وتتزين بالحليّ، ولكن الأب فقير "معدوم"، كما أن مسألة "الإذن" عقّدت الأمر، مما يضطر الآباء إلى تزويج بناتهم دون الحصول عليه. وكان للسائق الذي كان يقود السيارة ويتجوّل بنا في هذه القرى والمداشر رأي في الموضوع كذلك، فقد تزوج في سن 16 عاما وكانت زوجته تبلغ في ذلك الوقت 12 سنة ولديه الآن ابنة تدرُس في الجامعة في مدينة مكناس. وتابع، ضاحكا: "اللّي قالت ليهْ الواليد لا يصدّقها". وبضحكته المميَّزة، تابع السائق حديثه قائلا: "إذا بلغت الفتاة سنّ العشرين سنة ولم تتزوج: مصيبة"، مضيفا: "قانون الزواج في ثمانية عشر ما صالحشْ ليهومْ".. رغم صعوبة العيش في هذه المناطق، المعروفة ببرودة الطقس ووعورة التضاريس، فقد اعتاد الناس الوضعَ ولا يرغبون في مفارقة منازلهم المبنيّة من التراب والطين. وفي الزواج لديهم طقوس خاصة من خلالها يتغلبون على مصاريفه، حيث قالت يْطّو إنّ مهر الفتاة قد يبلغ 5000 درهم ويَلزَم الأسرة كمصاريفَ لإحياء العرس حوالي مليونَي سنتيم، ويُحيى العرسُ بموسيقى "أحيدوس"، لهذا تلجأ غالبية الأسر إلى الزواج الجماعيّ، فيتم تنظيم زواج واحد، يجمع القبيلة ويكرّس روح التضامن فيما بين عائلاتها. واعتبرت عائلة حدّو، التي استقبلتنا ورحّبت بنا، أنّ الأعراف والتقاليد هي المرجع بالنسبة إليها. وخلال جلسة شاي، قال أحد أبناء العائلة "البنتْ بْحال اللّفتْ، ملّي تكبرْ خصّك تحيّدها.. إلى خلّيتيها غادي تْخسرْ"!.. دعارة القاصرات "فتحنا المغربَ كسوق للسياحة.. بْغينا نوْفّرو ليهومْ حتى البضاعة، اللحوم البشرية الرخيصة باشْ يجيو يْستهلكوها".. قال مولاي الكبير، مشمئزا من الوضع. أما عبد القادر، مدرّس الفرنسية، فاعتبر أن هذه القرى معروفة بكثرة الإنجاب، ويتحمل الأب -باعتباره معيلَ الأسرة- عبء مجموعة من المصاريف. وطرح عبد القادر حالة سيدة "منتجة" للأولاد بشكل غريب، حيث لديها سبعة أطفال الفرق بينهم سنة واحدة، ولا يتوفرون على أي وثائق، وهي في نظره لم تلد أطفالا، بل أنتجت "مصائب" لهذا المجتمع.. واستعرض المدرّس مشكلَي الجهل والأمية وتأثيرَهما على عقول الأسر، فضلا على تواطؤ السلطات المحلية، من قياد وشيوخ، والذين اعتبر أنهم يعملون على التستر على الوضع، مستفيدين من "الولائم" التي تقام في إحياء تلك الأعراس. واعتبر المتحدّث نفسُه أن الرجل في هذه المناطق ينظر إلى المرأة ك"وصمة عار"، من الأفضل أن "يتخلص منها"، فالتلميذات التي يدرُسهن لا يتجاوزن، في الغالب، مستوى السادسَ من التعليم الابتدائيّ، قبل أن يُزوَّجن. ولكن الخطير في الأمر، حسب عبد القادر، هو أن تزويج الطفلة القاصر في بعض القرى هو غاية من أجل إدخالها في عالم الدعارة، التي قال إنها هي الوسيلة التي تجلب بها الفتيات "رزقهن"، خاصة المطلقات منهن.. وتحدث عن أسر يعرفها عن قرب لا تنزعج من الطلاق ولا تعتبره عارا بل بالعكس، تعتبر الفتاة آنذاك "حرة" يمكن أن تفعل ما تشاء، فالمهم أنها زُوِّجت في سن مبكرة وتفاخروا ب"شرفها"، أما في ما بعد فتصول وتجول، بدون حسيب ولا رقيب.. وقد وقعت كثير من الفتيات في فخ الدعارة، الذي نُصب لهنّ شراكه مجتمع لا يرحم، مجتمع يؤمن بالمال والجاه فقط، لا مكان فيه للكرامة ولا للإنسانية.. هناك عائلات ما زالت تحتفظ بسمعتها في هذه المناطق، ولكن أسرا أخرى قد خيّم على وجوهها البؤسُ والسواد، فرمت بناتها في الشارع، كما فعلت عائلة "سمية" (اسم مستعار) التي جاءت من منطقة تدعى "زايدة" إلى بوميا لتشتغل عاهرة، في حي معروف لدى أبناء المنطقة بذلك. تستقبل الزبائن ليل نهار، وكل واحد منهم يرمي لها دريهمات تعيش منها "كل واحدْ ووجّهو".. قالت "سمية"، في حديث إلى "المساء"، إنها تزوجت في سن ال12 سنة، ولما طلقها الزوج رفضتْ زوجة الأب استقبالَها، لتجد نفسها في الشارع. عملت في جني التفاح وفي المقاهي، لكنها اليوم تستقبل الزبائن في ذلك الخندق الذي تكتريه. ظاهرة الدعارة هي بالنسبة إلى بعض العائلات في الأطلس مورد رزق، إذ أكد كل من حدثنا الظاهرة ولم ينفها. ومن خلال هذا التحقيق، اتّضح أن هناك آباء ينتظرون طلاق بناتهن أو "يشجعنهنّ" على ذلك، كي يمنحوهنّ كبضاعة يباع لحمها ويُشترى.. وكل يمنح الثمن الذي يريد، فعالم الدعارة بالنسبة إليهم هو عالم الاسترزاق السريع، الذي يأتي بدون أي جهد، فيكفي أن تكون الفتاة ذاتَ قدْر من الجمال لتطرق هذا العالم، الذي تجد أبوابَه مفتوحة في وجهها، حتى إنّ أغلب الفتيات اللواتي رأيناهنّ قيل لنا إنهن عاهرات، فأبناء المنطقة يعرفونهنّ ولا تخفى عليهم تصرفاتهن، من طريقة لباسهن ومشيتهن، والسبب في كل هذا هو "الفقر". أكد محمد، وهو طالب جامعيّ، أن الفتاة في هذه المناطق تعتبر سلعة رخيصة لا أقل ولا أكثر، "إلى قلتي لأيّ شخص أنك تعمل في الأطلس يجيبك: بلاد النشاط"، مضيفا أن الجمال الذي تتميز به فتيات الأطلس عن غيرهنّ ساهم، بدوره، في انتعاش الدعارة وفي تزايد أعداد الباحثين عن محترِفاتها.
محجوبة.. من فصول الدراسة إلى بيت الزوجية والمصير: الطلاق محجوبة فتاة جميلة، هادئة، استقبلتنا في بيت والدها بابتسامة. جلستْ إلى جانبي وعلامات الحياء ظاهرة، جليّة على وجهها. كانت محجوبة، بشهادة مدرّسها، طفلة مؤدبة، نجيبة، نجحت في المستوى الرابع ابتدائي، وانتقلت إلى منطقة تدعى «أتزر» لإتمام دراستها، لم يصبر عليها والدها، فانتزعها من مقعد الدراسة وزوّجها، غصبا، لشاب قريب من العائلة. تحدثت محجوبة باللغة العربية -بفضل التعليم الذي تلقته- عن معاناتها وألمها وعن الظلم الذي طالها فقالت: «خرّجْني الواليدْ من لْقراية في عمر 12 سنة، كنت مازالْ صغيرة وزوّجْني.. ما قدرتش نْواجهو».. بعد الزواج، اكتشفت محجوبة أن الشخص الذي تزوّجته لا يلائمها، لأنه كان سكيرا، «شمكار». كانت تتمنى أن تتزوج شخصا يناسبها، لكنْ لسوء حظها تزوجت شخصا قالت إنه كاد يدمّر حياتها. انتظرت محجوبة حتى أنجزت عقد الزواج وطلبت الطلاق منه. عام وستة وأشهر كانت المدةَ التي قضتها في بيت الزوجية، لم تنجب خلالها، لحسن حظها. قالت محجوبة: «ذرفتُ الدموع ولكنْ بدون جدوى، لا أحد فهمني حينها، في تلك اللحظات العصيبة التي كنت أمرّ بها أرادوا التخلص مني ب2000 درهم».. لم تطق محجوبة الزوج وتصرفاته. تابعتْ، بنبرة حزينة، وهي تواصل سرد فاجعتها: «ظلموني بزّافْ، ولكنْ هادشّي اللّي كتاب عليّ».. سألها عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان: إذا عاد بك الزمن إلى الوراء، هل كنتِ ستقبلين بهذا الزواج؟ فأجابت: «لم أكن لأقبل، كنت سأواجههم.. دابا تيجيو يْخطبوني أشخاص بْحالو ولكن أرفضهم».. وفي خضمّ الحديث، سألنا محجوبة هل تتمنى العودة إلى الدراسة، فأشرق وجهها ابتهاجا، وأجابت بالقبول, ولكنْ كيف؟.. أسهل طريقة -حسب عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان- هي التعليم الحر، ولكنْ هل ستقبل عائلتها الأمر؟ تمنّت محجوبة أن ترسم مسارا آخر غير المسار الذي حيك لها، ولكنْ من أين تبدأ؟ كيف وبأيّ إمكانيات وفي أي ظروف وحيثيات؟.. أسئلة تراودها ولكنْ محجوبة لا تجد سبيلا للخلاص من واقعها، فتقاليد العائلة والقبيلة تحاصرها من مختلف الجوانب. قالت، والألم يعتصرها: «كلما تذكرت ما حدث لي وكيف دمّرتْ أسرتي مستقبلي بهذا الزواح تَنتّعْقّدْ».. وتابعتْ: «كنت عايْشة ما خاصّني حتى خيرْ، ما زيداشْ عليهومْ.. أتساءل عْلاش رماوني؟ ودابا راني تطلقت، الحمد لله»، وهي الكلمة التي ختمت بها كلامها، كأنّها راضيّة عن حالها، رغم أنّها في وضعٍ لا تُحسَد عليه، إذ تتربّص بالفتيات القاصرات مصائرُ مجهولة في بيئة مكبَّلة بالجهل والفقر والإقصاء.