عز الدين الماعزي من البيضاء انطلقت، وبالضبط من المحطة الطرقية «أولاد زيان»، التي جعلتني أبكّر وحيدا كنخلة الدوار، خوفا ان أصل ليلا. بدويّ في المدينة.. هكذا تخيّلتُ نفسي، قلت، وإنْ كنت ألبس الدّجين وقميصا صيفيا قصيرا.. الجو مشمس والمكان موحٍ بالسفر. وجوه تسرع على أطراف اللقاء. واحدة تحيي وتورق وأخرى حزينة وأصوات لا حدود لها، تنادي الركاب بالتمهل أو الإسراع بالركوب. ركبتُ الحافلة. كان الرفقة أصدقاء الشعر، حضروا قبلي ونبّهوني لكي آخذ هذه الحافلة بالضبط، من النوع الممتاز مريحة وسريعة. لم يكن بالإمكان أن أكون جالسا بالقرب منهم، نعد طبق الحكي. الشعراء يقضمون من الفواكه ما لذ وطاب يتلذذون بذلك وينامون بسرية تامة على الفضح واستمارة التشكي.. طريق من الزفت الأسود، يتشكل كأفعى مرقطة من مدينة الدارالبيضاء مرورا بالعاصمة الرباط في اتجاه تطوان عبر الطريق السيار، المدينة الحمامة، التي دخلناها بعد الزوال بقليل. مدينة تختصر اللحظة في برنس البياض. جمال نادر ومجسم لحمامتان تكمنان للقادمين. تطوان -المدينة تحاصرك بالبقاء والاستلقاء على الشاطئ والتمتع بمنبع الجمال وتختصر، كما امرأة طويلة، نحيلة، وحيدة، فاتنة. كلما أشارت لي تهتُ باحثا بين دروبها عن نفسي، التي أنا فيها مُقنَّع وغامض.. ركبنا تاكسي كبيرا في اتجاه مدينة شفشاون -أو الشاون كما يحلو لأهلها مناداتها- عبر جبال تخلب ومنعرجات تخيف وحرارة تشعرك بالارتخاء والكسل. زحام السيارات وتبرم الشاب المهاجر الشاوني المرافق الذي يعمل في إسبانيا من الحرارة جعلني أكتم امتعاضي وأتعلم بعض الكلمات باللهجة الشمالية. أطيل التأمل عبر زجاج نافذة مفتوحة بالكامل ولا أحد يستطيع أن يوحيّ للشاوني أنه على خطأ بفتحها. مناظر طبيعية اختزنتها في الذاكرة.. طريق كلها منعرجات، وأقصى ما يمكن أن تسير به السيارة العادية هي سرعة 60 كيلومتر في الساعة. ما عليّ إلا إطالة التأمل في منظر الخضرة والجبال وشريط أسلاك أعمدة الهاتف والأشجار تتكفل بالبقية، بينما انحدر أصدقائي إلى صمت مطبق. مرة أخفي عطساتي، لأن الريح قوية وهي توغل في عبير امرأة تمر رقيقة.. متعانقة مرة ومتنافرة أخرى، تلتصق بحافة جبل قبل أن تنفجر وتتشتت بيوتا ومنازل، امرأة قبل أن توغل في عيني بمساحاتها وبريقها تنحني برأسها بين الأشجار العالية الخضراء، مدينة امرأة معبر لسر سحر فاتن.. شفشاون -أو الشاون بلغة أهل الشمال- مدينة مساكنها متقاربة، بيضاء، متفرقة أحيانا، تحت الجبل والأشجار في كل مكان والأزهار تطل أمام عتبة وبوابة كل بيت، ونافذة وطريق نظيفة، أنيقة، تغنى بها الشعراء والمغنون وسكنها ثلة من المولعين بعبق الملحون.. مبهورا كنت بلمسة الجمال وصدى الأمكنة. تناغم جميل بين الجو وعبق المكان. تناسق يبهر النفس، يحسسك بأنك نقطة عبور الى مكامن الروح. شوارع ممتدة وأخرى منحنية من الأعلى إلى الأسفل في انعراج طويل وأزقة وسلالم حجرية تجعلك تطل على أسفل الأسفل، حيث عالم آخر، بيوت ودور بسيطة، أنيقة، لوحات منساقة بالألوان الأبيض والأزرق والأرجوانيّ ولا حدود للنظر. وصلنا الأوتيل (الفندق). معالم تاريخية على أسماء مدن إسبانية وبلدان صورة طبق الأصل من تاريخ الأندلس والمغرب الجديد. لوحات على الجدران وباقات أزهار وأشياء قديمة من جغرافيا تاريخ مشترَك: سيوف، بنادق، مرايا بأحجام كبيرة وزرابي ومكاتب وموائد وأوانٍ نحاسية وخشبية وموائد لها طابع خاص.. المكان موحٍ من تاريخ قديم وحديث يمتزج ويتشكل في واحد أصيل معاصر، وجوه أصدقاء وعبق لحظة من الذكرى والذاكرة.. ونحن نمشي بين أزقة وساحات المدينة، أدوخ كأني بين اليقظة والحلم. أمشي واترك قدميّ تتلمسان الطريق الناعم. سكون على وجه المارة واحترام متبادَل حتى وسط السوق الشعبي وصرخات الباعة والاكتظاظ، فهناك تناغم موسيقيّ على الوجوه. سلع وأوانٍ وأشياء تنسج رقصة واحدة إلى أسرار مدينة متربعة في حضن جبال الريف، جبال شامخة تدعوك إلى ظلال وارفة وطريق منحدرة. على وجه الحسناوات ما يزيدها بهاء، كأنها رحلة القلب، تتماشى مع تحولات الواقع وأسئلة الذات، قال صديقي ذلك وهو يرى السكان بكافة الطبقات. هنا الكثير من الشعراء والمدينة تقودهم إلى فوهة القبض على جمرة الشعر والنار.. طريق تسلمك إلى طريق، وكل الطرق منافذ وفنادق بنجوم ومنازل بأبواب مختلفة ومتشابهة اللون بطقوس رفيعة وأعمدة من الإسمنت أو من الخشب المصقول، مساجد ترفع هامتها بالأذان وصدى موسيقى أندلسية تعبق.. أمرّ بين الدروب وأصغي إلى هذا الهسيس. أصوات رقيقة متناغمة بلثغة ما، لينة، رقيقة، حالمة. رغبة أكيدة للانغماس في حياة أخرى وصمت يطوّق بثوب الاستسلام المخدر إلى مقاهٍ للاستراحة، حيث لا شاي إلا في كاس كبيرة.. كل الزبائن يتلذذون بقهوة (بن) له مذاق خاص أو عصير برتقال أو تفاح.. أدور، أدور، أمامي القصبة العتيقة المسجد، البوابة، الأبراج، الأدراج الزرق، آخذ صورا من مصورتي وأفرح بانسياب الأطفال الذين كأنهم مكثوا أكثر من سنين هنا وأنا أصغي إلى تعاليق صديقتي فطومة التونسية وعلية. أحس بخطوي يطول، يطول وأني أريد أن أحصل على أكبر عدد من المعلومات، عن أسرار مدينة متلحفة بالبياض، تضمّ الكثير من الشعراء الكبار (الميموني والطبال وأحمد بنميمون وبنرحمون).. ما استطعت قراءته الآن هو فصل ومشروع من رواية لم تكتمل وحب الاستماع والاستمتاع للشعر، إلى موسيقى مياه هادئة تنساب من يد امرأة تعزف، والآخرون في صمت منساب.. أي سر لهذه المدينة، الواقعة بين تجاويف الأرض وسر ملكوت السماء بثوب البساطة والبهاء، بيني وبين هذا كله أفتش، تضيع عيناي، ألتمس طريقا بيدي، نورا وراء نور مندرج، منغرس لكي أعرف ما أريد. يلزمني الكثير.. كان عليّ أن أفتح حدقتَيْ عينيّ لأستجليّ الأمر والسر.. سحر هذه المرأة الشاونية أو سر شفشاون، مدينة الحب والشعر والجمال، سفينة على سفح جبل.. وكمن يكتشف سرا آخر في الليل، تبدو وتظهر عروسا مضيئة، متلألئة خلف الأضواء الهاربة، وأكاد أسمع وغيري الأهازيج والأغانيّ القروية خارج تضاريس المدينة، تأتينا من بعيد، مُضمَّخة برائحة العطر والأشجار، تقترن بترانيم موسيقى أندلسية.. كاتب