الآلاف من المنتسبين إلى جهاز الأمن الوطني يعانون في صمت، لا أحد يلتفت إلى وضعيتهم النفسية، ويتركون لمصيرهم المجهول المفتوح على جميع الاحتمالات. منهم من يكابر إلى أن ينهي «سربيسه»، ومنهم من لا يقو على تحمل ضغط العمل والإرهاق وكثير من الاستفزازات، ليكون مآله الانفجار في أي لحظة، وآخرون يختارون أقصر الطرق وأكثرها «راحة» مفرغين رصاصة تنهي حياة مليئة بالكوابيس. في التحقيق التالي نفتح صفحات ملف «طابو» يتحاشى الكل الخوض فيه، ونعيد ترتيب بعض المشاهد ونستمع إلى شهادات في محاولة لفهم كيف يصير «رجل الأمن» خطرا على نفسه وعلى محيطه وعلى صورة جهاز يفترض فيه أنه وجد ليزرع الأمل ويضمن الأمان. الخميس 26 شتنبر 2008، تاريخ لا يكاد يتذكره أحد، ما عدا قليل من سكان حي المسيرة بمراكش، سويعات قليلة تفصل الصائمين عن موائد إفطارهم لكن دوي طلقة من مسدس كان كافيا ليقلب الحي الشعبي رأسا على عقب، ويقلب معها حياة خديجة، الأم لثلاث بنات، وزوجة الشرطي (..) معلنا بدء فصول جديدة من المعاناة، لا تقل مأساوية عن المعاناة التي كانت مضطرة لتحملها طيلة 18 سنة من العيش تحت سقف واحد مع من يفترض فيه أنه «رجل أمن». ما حصل لخديجة، التي قضت في المستشفى أزيد من سنة ونصف وخرجت منه بعجز حدده الأطباء في نسبة 95 في المائة، لم يكن إلا النقطة التي أفاضت كأس علاقة متوترة عاشتها منذ زواجهما بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، تقول في روايتها، إنها لا تكاد تتذكر عدد حالات الاعتداء التي كانت مضطرة لتحملها في سبيل بناتها، كما لم تعد تتذكر عدد المرات التي هددها فيها زوجها بالقتل بسلاحه الناري، وهي التهديدات التي كان تجري تحت أنظار بناتها الثلاث رغم صغر سنهن، تضيف: «في إحدى المرات صوب مسدسه نحوي وأطلق رصاصة أخطأتني لتستقر في جدار المطبخ، حينها لقنني ما سأقوله لرؤسائه عندما يأتون للتحقيق معه، وهو ما تم بالفعل لأني كنت آمل في قرارة نفسي أن يتغير أسلوب معاملته لي، ونفيت أمام المحققين أن يكون هددني وقلت إنني لم أر شيئا، لكن للأسف لا شيء تغير من سلوكاته». بعد هذه الواقعة، اشتكته الزوجة إلى رئيسه، بسبب توالي حالات التهديد بالسلاح، وهو ما دفعه إلى عرضه على لجنة تأديبية قررت تجريده من سلاحه لقرابة 4 سنوات، وألحق بالمكتب بعدما كان يشتغل في فرقة المرور، قبل أن يعاد إليه مسدسه دون أن تعرف أسباب ذلك. والغريب، تؤكد، «أن رئيسه في العمل أخبرها بأن علاقته بزملائه متوترة دائما وأن صراعاته لا تنتهي، حتى إنهم يتهربون من مرافقته في سيارة المصلحة التي يسوقها، بل إن شكايات عديدة لمواطنين تم تسجيلها ضده، وكأن كل ذلك لم يكن كافيا لكي تتخذ إدارة الأمن الوطني تدابير لتحدد درجة خطورته على محيطه الأسري وعلى باقي المواطنين، وكأنهم كانوا أيضا ينتظرون أن تصيبها رصاصته الثانية كي يقرروا إنهاء خدمته بعد أن أصابها بشلل تام». أسئلة لا بد منها.. حكاية خديجة، لا تختلف كثيرا عن حكايات آلاف الزوجات والأبناء ممن يتقاسمون سقفا واحدا مع منتسب إلى جهاز الأمن الوطني، وقليلة هي الوقائع التي تتسرب بعض تفاصيلها إلى العموم أو يصل صداها إلى ردهات المحاكم، في حين تبقى آلاف الحكايات حبيسة الصدور ولا يطلع عليها حتى أقرب المقربين، وهي الوقائع التي تقود رأسا إلى طرح العديد من الأسئلة عن الأسباب التي تجعل من رجل الأمن، شخصا عدائيا يحطم كل ما حوله، وكيف يصير من أوكلت إليه مهمة حماية المواطنين ودفع الخوف عنهم مصدرا للرعب؟ البحث عن أجوبة لمثل هذه الأسئلة يدفع عشرات الأسئلة الأخرى للتناسل أمام كل باحث في الموضوع، لكن السؤال العريض الذي يتم تغييبه في كل هذا النقاش هو: «ماذا عن التوازن النفسي المفروض أن يتحلى به رجل الأمن؟» ولعله السؤال الكبير الذي يتحاشى الجميع الخوض فيه، لأن مجرد الحديث عن حقيقة الوضع النفسي لرجال الأمن والدرك ومن يدور في فلكهما، يفتح أبواب جهنم التي يصعب إغلاقها. لنعد إلى خديجة التي تقول إنها «حاولت البحث في حقيقة الزوج، واكتشفت متأخرة، حسب ما أخبرتها به عائلته، أنه كان يتابع علاجه منذ طفولته لدى طبيب مختص في الطب النفسي، كما أنه كان يتناول أدوية طبية وكان يتعمد إخفاء الأمر عنها، وحتى بعد زواجهما والتحاقه بسلك الشرطة، كان يتردد بين الفينة والأخرى على طبيب نفسي. وتضيف أنه كان يخفي الأمر عن الجميع باستثناء والدته التي كانت تصحبه إلى جلسات العلاج لدى أطباء اختصاصيين، من ضمنهم متخصص في أمراض الدماغ والأعصاب، بسبب الآلام الشديدة التي كان يعانيها منذ طفولته والتي جعلت منه إنسانا عدوانيا بشهادة رئيسه في العمل». الحقيقة التي وردت على لسان الزوجة تكشف- ظاهريا- أن زوجها كان يعاني اضطرابات نفسية، وهي سبب الحالة الهستيرية التي تصيبه وتدفعه إلى الاعتداء عليها وعلى بناتها في أكثر من مناسبة، وصلت في إحداها إلى حد خنق رضيعته التي لم تتجاوز أربعين يوما من حياتها، بل الأدهى أنه استعمل سلاحه الناري مرتين، أخطأت الطلقة الأولى هدفها سنة 1994، في حين كانت الثانية التي أطلقها سنة 2008 كافية لتحولها إلى جثة بروح، ولهذا سيكون من الطبيعي أن نصوغ سؤالا جديدا هو: كيف يتأتى لشخص مصاب باضطرابات نفسية أن يلتحق بجهاز الشرطة، ويصير حاملا لسلاح وأصفاد وزي رسمي دون أن تكون هناك أي وسيلة تمكن من التقاط أي مؤشر على عدم جاهزيته لمهنة بهذا القدر من الحساسية، في بلد يضم أزيد من 46 ألف عنصر أمن حسب الأرقام المعتمدة سنة 2007، ولا يُعرف بشكل رسمي كم نسبة الذين يحملون سلاحا من بينهم؟. «من الخيمة خارج مايل».. الجواب عن السؤال الأخير يفرض إطلالة سريعة على الشروط التي تتبعها الإدارة العامة للأمن الوطني لولوج سلك الشرطة، وهي الشروط التي يخضع لها الراغبون في الالتحاق بالمعهد الملكي للشرطة للتكوين في عدد من التخصصات، منها حراس الأمن ومفتشو الشرطة الخارجية وضباط الشرطة وضباط الأمن، ثم عمداء الشرطة، وهي التكوينات التي تختلف في بعض التفاصيل، خاصة فيما يخص مدد التكوين وطبيعة المؤهلات الدراسية المطلوبة، إلا أنها تتوحد في عدد آخر من الشروط الأخرى، ومنها أن يكون المرشح أو المرشحة من جنسية مغربية، وأن يكون سنه 21 سنة على الأقل و30 سنة على الأكثر عند تاريخ إجراء المباراة، وأن يكون مؤهلا بدنيا، وألا تقل قامته عن 1.73 متر بالنسبة للذكور و 1.67 متر بالنسبة للإناث وألا يقل البصر عن 10/15 بدون نظارات، فضلا عن ضرورة النجاح في المباراة.. هذه هي الشروط الواجب توفرها في أي مترشح، والملاحظة التي تثار بهذا الصدد هي الاقتصار على شرط «أن يكون المترشح مؤهلا بدنيا»، دون البحث في ماضيه وما إذا كان يعاني اضطرابات نفسية، ودون إخضاعه لفحص من طرف طبيب متخصص لتقييم مدى جاهزيته لمزاولة مهنة «رجل الأمن». يقول عبد الحميد، رجل أمن متقاعد، إن «الحديث عن إخضاع المترشح لولوج المعهد الملكي للشرطة لفحص طبي من طرف اختصاصين في الطب النفسي، يعد مثل حكي قصة من نسج الخيال»، مضيفا أن التقييم الوحيد الذي يخضع له المترشح هو مدى قدرته على الصمود خلال الدقائق التي تجمعه بالمسؤول عن فرز المرشحين، والذي غالبا ما يتم اختياره من أكثر رجال الأمن قدرة على نفخ أوداجه وأقدرهم على ترهيب المترشحين وبعث الخوف في نفوسهم، وهو أحوج الناس لعرضه على مختص نفسي». عبد الحميد، الذي قضى قرابة ربع قرن في المهنة، قبل أن يقرر إنهاء مشواره المهني، في إطار المغادرة الطوعية التي أطلقتها الإدارة العامة، قبل قرابة ست سنوات، يشير إلى «أن النظام المعمول به في المديرية العامة للأمن الوطني في ما يتعلق بالمترشحين الجدد يسمح بإمكانية تسرب عدد من الحالات التي لا يتم رصد اختلالاتها النفسية، لأن أكثر ما يتم التركيز عليه هو الحالة البدنية للمترشح وضرورة خلوها من الأمراض العضوية، بل الأدهى من ذلك، أن المترشح يكون ملزما فقط بتقديم شهادة طبية تثبت «أهليته البدنية»، وهي الشهادة التي يمكنه الحصول عليها من طرف طبيب عمومي حتى دون أن يزوره، وقد يكتفي بإرسال بطاقته الوطنية مع أحد أقربائه للحصول عليها». هذا ما تنص عليه اللوائح، يقول المصدر ذاته، «وهذا النظام لم يتغير منذ سنوات، رغم أن الوضع يفرض على الإدارة أن تولي اهتماما متزايدا بهذه المسألة لأن المسار المهني للشخص المقبل على العمل في سلك الشرطة يتحدد منذ اليوم الأول، أما حين يصير «صاحب رقم» فلا مجال بعدها للتراجع، ولننتظر إذاك أي مفاجآت ستكشفها شخصيته». قنابل موقوتة.. إذا كان الأكيد أن المقبلين على العمل في سلك الشرطة غير ملزمين باجتياز أي تقييم يحدد مدى سلامتهم على مستوى الصحة النفسية، فالأمر يزداد استفحالا حين نعلم أنهم لا يخضعون له بتاتا طيلة مسارهم المهني، الذي يمتد إلى حدود سن التقاعد المحدد رسميا في 60 سنة، وقد يزيد عن ذلك في بعض الحالات الاستثنائية. ويكفي أن تطرح سؤالا في الموضوع على منتمين إلى سلكا لشرطة حتى تقابلك نظرات لا تخلو من استهزاء. ولهذا لم يكن غريبا أن ينفي عدد ممن استقت «المساء» آراءهم، سواء منهم المتقاعدون أو حديثو العمل بالأمن، أن تكون الإدارة عمدت في أي مرحلة من مراحل اشتغالهم إلى إخضاعهم لتقييم نفسي، كما هو معمول به في كثير من الدول، خاصة فرنسا التي نستمد منها كثيرا من مقومات نظام الأمن الوطني. يقول أحمد، الذي يعمل في شرطة المرور بإحدى مقاطعات مدينة الدارالبيضاء، في هذا الإطار: «اشتغلت لأزيد من 17 سنة في عدد من المدن، وتدرجت في الرتب، لكني لم أخضع يوما لمثل هذا التقييم، ليضيف: «المفروض أن رجل الأمن يتعرض لعدد من الحوادث ويتحمل ضغوطا كثيرة سواء تلك المسلطة عليه من طرف رؤسائه أو تلك التي تفرضها طبيعة المهنة التي نزاول في غياب أبسط الشروط، لكن سيكون عليك أن تتحمل في صمت، وإذا حدث أن أقدمت على تصرف ناتج عن ضغط العمل فتوقع أن تتم إحالتك على المجلس التأديبي دون أن تكلف الإدارة نفسها عناء البحث في مسببات ما أقدمت عليه، ويكون آخر مبرر من حقك أن تفكر فيه هو القول إنك تعاني ضغوطا نفسية بسبب العمل». أن تتحمل وتتألم في صمت، هو ما يُجبر رجال الأمن على تعلمه منذ اليوم الأول، يقول أحمد، مضيفا: «لا يمكن أن تتصور عدد حالات الهيجان أو موجات الغضب التي تنتاب العناصر الأمنية كل يوم وفي كل مؤسسة أمنية باختلاف أسلاكها، وقد يحدث أن يصاب بعضنا بحالة هستيرية في الشارع العام، ولكن لطبيعة نظام اشتغالنا شبه العسكري، فالمعطيات التي تتسرب بخصوص مثل هذه الحوادث تكاد تكون منعدمة، ويكفي أن تجالس أي عنصر أمني حتى يشرع في سرد عشرات القصص التي توضح درجة الضغط النفسي الذي نتحمله، وكيف يكون أسلوب تعاطي رؤسائنا في مثل هذه الحالات». يقول عبد الحميد، إنه خلال مسيرته المهنية عاين حالات كثيرة لزملاء انفلتت أعصابهم إما نتيجة الإرهاق بسبب تراكم المهام وساعات العمل الطويلة ونظام المناوبة، أو بسبب الإكراهات الاجتماعية ومتطلبات الأسرة و«حكاية» الترقية الداخلية، أو حتى بسبب حصص تعذيب نفسي يخضعون لها من طرف الرؤساء، ليضيف، ما يحز في النفس أكثر هو اللامبالاة التي تقابلنا بها الإدارة، وكيف يدير المسؤولون ظهورهم لكل من تأكدت إصابته بأعراض المرض النفسي، حتى إنه يندر أن تجد رجل شرطة يمتلك ما يكفي من الشجاعة للإقرار بالأمر، وغالبا ما يضطر الكثيرون إلى إخفاء حقيقة مرضهم، ويفضلون التعامل معه على مشاركته الجهاز الذين ينتمون إليه، لأن الإصابة بنوع من أنواع الأمراض النفسية يعني في عرف الجهاز أن صاحبه لم يعد صالحا للمهنة ويكون مصيره إما التسريح أو على الأقل الإحالة على عمل مكتبي ينهي أي أمل في متابعة المشوار المهني بشكل ناجح». ما يدعم هذا الكلام، يقول أحمد، «هو ندرة الشواهد الطبية التي يدلي بها المنتسبون إلى سلك الشرطة، وتكفي العودة إلى السجلات للتأكد من هذه الحقيقة، وأنا شخصيا كنت أفضل تحمل ثمن شهادة طبية إضافية من طبيب عام وبضعة أدوية يصفها لي لأعالج من داء البواسير الذي أصبت به، أبرر بها فترات غيابي عن العمل، على أن أقدم للإدارة شهادة طبية مسلمة من طبيب نفسي كنت أتردد عليه منذ سنوات خلت». على الأقل، يقول أحمد، «أنا مقتنع بأن من واجبي تجاه مهنتي ومحيطي الأسري وزملائي أن أخضع للعلاج لدى طبيب نفسي، يعينني على تجاوز حالات الاكتئاب التي تصيبني في بعض الفترات، لكني أتساءل كم زميلا مثلي استطاع أن يقنع نفسه بأنه محتاج إلى العلاج وكم واحدا بينهم يملك الشجاعة ليطرق باب المختصين في المجال؟». خلية للتتبع.. من يعرفها؟ كيف تتعامل الإدارة العامة للأمن الوطني في حال تم تسجيل إصابة أحد موظفيها باضطرابات نفسية؟ وهل هناك مسطرة متبعة في مثل هذه الحالات، خصوصا تجاه أولئك الذين تصدر عنهم تصرفات مريبة أثناء مزاولتهم لعملهم، أو أولئك الذين تحرر بشأنهم تقارير، إما من طرف زملائهم أو من قبل رؤسائهم، أو الذين يكونون موضوع شكايات يضعها الأقرباء أو مواطنون متضررون من سلوكاتهم؟ هذه بضعة أسئلة حملتها «المساء» إلى الإدارة العامة، في فاكس طلبت إرساله بشكل رسمي حتى يتسنى للمكلفين الإجابة عنه، لكن الفاكس والأسئلة بقيت معلقة لأزيد من عشرة أيام دون رد، وقد حاولنا معرفة تفاصيل أوفى عن خلية، تقول الإدارة إنها تقوم بدور التتبع النفسي للموظفين المنتسبين إليها، وأنها تضم عددا مهما من المتخصصين في العلاج النفسي وخبراء مهمتهم دراسة سلوكاتهم، لكن قبل التذكير ببعض ما حاولنا الحصول على تفاصيل بخصوصه من الخلية التي بدأ الحديث عن وجودها مباشرة بعد حادث انتحار شرطي بمدينة العرائش شهر يوليوز الماضي، وقالت الإدارة إنها أوفدت بعض عناصرها لتقديم الدعم النفسي لأسرة الهالك، (قبل ذلك) دعونا نلقي نظرة على المعطيات المتوفرة لدى بعض رجال الأمن الذين التقتهم «المساء»، وسؤالنا كان هو: «هل تعرف بوجود خلية أنشأتها الإدارة العامة للأمن الوطني مهمتها مرافقتكم على المستوى النفسي؟ وهو السؤال الذي طرحناه على كل من عبد الحميد المتقاعد وأحمد الذي ما يزال يمارس مهمته، وحتى على عناصر أخرى جالسناها على هامش إنجاز هذا التحقيق. والغريب أن إجاباتهم كانت موحدة وهي نفي أي علم بوجود هذه الخلية، وحتى أولئك الذين أقروا بسماع بعض المعطيات القليلة عنها أكدوا، بالمقابل، عدم معرفتهم بأدوارها، ولا من تستهدف وكيف يمكن الاستفادة من خدماتها، وهل توجد على المستوى المركزي أم لها فروع في مدن أخرى، وهل هي تابعة لمؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لموظفي الأمن، أم هي تابعة لمديرية الموارد البشرية.. يقول محمد أكضيض، الإطار الأمني المتقاعد في هذا الصدد: «إن الإدارة العامة للأمن الوطني أبانت عن قصور كبير في التعاطي مع موضوع الحالة النفسية لموظفيها، حتى إنها تتعامل بسلبية كبيرة مع الحالات المسجلة وتفضل اختيار أقرب الطرق لإنهاء مسيرة العنصر المصاب، سواء بإحالته على التقاعد، أو من خلال إنهاء العلاقة الشغلية في حال صدرت عنه تصرفات عنيفة تمس محيطه المهني أو الأسري، الأكثر من ذلك، يضيف، هناك موظفون بمختلف رتبهم معروف عنهم إصابتهم بأمراض نفسية وتتوفر لدى الإدارة معطيات كافية عنهم، إلا أنها تسمح باستمرارهم في مهامهم ولا تتدخل في اتجاه فرض خضوعهم للعلاج بما يضمن سلامتهم وسلامة محيطهم، وفي حالات قليلة تقوم بتجريدهم من زيهم الرسمي وسلاحه، وتغيير طبيعة المهام الموكولة إليهم في انتظار تحسن حالتهم الصحية». المصدر ذاته يضيف: «طيلة مساري المهني، الذي استمر إلى حدود سنة 2005، لم أحظ بأي تقييم يحدد سلامتي النفسية وقدرتي على العطاء في هذه المهنة، وتركنا نواجه مصيرنا طيلة عقود من الزمن، وكان مفروضا علينا أن نعمل وأن نركن للصمت، ونخضع للرؤساء وهذا الخضوع هو الذي يحدد درجة القرب منهم، ويحدد طبيعة الامتيازات التي نستفيد منها، واليوم صار لزاما على الإدارة أن تزيح الغموض الكبير الذي يلف موضوع خلية التتبع النفسي، وتحدد مهامها وحدود تدخلها ومن يستفيدون منها، خاصة في ظل التراكمات النفسية لرجال الأمن، فضلا عن أن رجل الأمن لا يعرض نفسه على الطبيب إلا نادرا وفي حالة قصوى لا يتم اللجوء إليه إلا بعد أن يصل إلى مراحل متقدمة من الإصابة بالمرض، ولهذا لا يجب أن ننتظر أن يأخذ المبادرة بل علينا إجراء كشوفات دورية لكل المنتسبين بمختلف رتبهم وهذا كفيل بتحديد أولويات العلاج». ما يثيره أكضيض بخصوص أسلوب تعاطي الإدارة مع موظفيها في هذا الموضوع، يبدو أقل تشاؤما مما يثيره زميله عبد الحميد، المتقاعد أيضا، والذي يقول بخصوص خلية التتبع النفسي: «ما أعرفه وعايشته طيلة مساري المهني، أن للإدارة أسلوبا واحدا في التعاطي مع موظفيها الذين يصابون بأزمات نفسية أو يدخلون في حالات هستيريا، سواء في مكاتبهم أو في الشارع العام، وهي أنها تقيم الدنيا وتتحرك جميع المصالح إلى حيث يوجد العنصر المصاب، وحينها تعمد إلى حجز سلاحه الناري ورصاصاته الخمس والعشرين، وبعدها ينفض الجمع وينصرف كل مسؤول إلى حال سبيله، في انتظار سيارة إسعاف تنقل المصاب إلى أقرب مستشفى وتنتهي الحكاية، هذا إن لم يكن الموظف قد حسم أمره واختار أن يفرغ رصاصة في رأسه تعفيه من النظرات السلبية التي ستلاحقه في ما سيأتي من أيام». تجربتان وعبر.. البحث في موضوع الصحة النفسية للمنتسبين إلى سلك الشرطة بالمغرب، يفرض إجراء مقارنة مع تجارب بلدان أخرى لمحاولة كشف أوجه التشابه والاختلاف في تعاطي الإدارة العامة للأمن الوطني مع القضية. في فرنسا، يكون لزاما على موظف الأمن أن يحيط علما، إما زملاءه أو رؤساءه المباشرين أو ممثليه النقابيين بوضعيته الصحية، ويكون على هؤلاء أن يخبروا المسؤولين الأعلى رتبة بالموضوع وهم من يقررون إحالته على المصلحة الطبية المختصة من أجل تحديد طبيعة إصابته والعلاج الذي يحتاجه. تجربة أخرى تستحق الاطلاع عليها، وتتعلق بتجربة السويد، التي تستمد منها كثير من الدول الأوربية تجربتها، إذ يكون المترشح للالتحاق بأكاديمية الشرطة، والتي تدوم الدراسة فيها لثلاث سنوات، ملزما باجتياز اختبارات نفسية قبل قبوله، كما أنه، بعد الالتحاق بالعمل، يكون ملزما بالخضوع لتقييم مماثل كل سنة، وفي بعض الحالات يخضع له مباشرة بعد عمليات أمنية تخلف ضحايا أو حوادث سير مميتة. أما في حال إصابته بأي عارض أثناء مزاولته لعمله فيكون بمقدور زملاء العمل أو أي فرد من أسرته، أن يطلب لقاء مع رئيسه المباشر، ليخبره بشكوكه حول وضعيته الصحية، يتم بعدها استدعاؤه لجلسة تقييم يحدد خلالها المختص درجة الإصابة، ويقرر نوعية العلاج المطلوب ومدته، والإجراءات الاحترازية الواجب اعتمادها. المناصيفي، الحاصل على دبلوم في سيكولوجية الشرطة من معهد فرنسي متخصص، يشير إلى أن العديد من المصحات المتخصصة في عدد من المدن السويدية، توضع رهن إشارة إدارة الأمن الوطني لتتبع الحالة النفسية للمنتسبين إليها، فضلا عن المستشفيات العمومية، وحتى حين تؤكد الخبرة أن الشخص المصاب فقد القدرة على العمل بشكل طبيعي فإن الإدارة تحتفظ له براتبه كاملا وقد يستفيد في بعض الحالات من تغطية صحية كاملة.
قرنفل: على الإدارة أن تواكب المنتسبين إليها نفسيا يرى حسن قرنفل، الباحث في علم الاجتماع، أنه «من الضروري الاهتمام بالوضعية النفسية لرجل الأمن بصفة عامة، على غرار الاهتمام الكبير الذي يتم إيلاؤه لتحسين الوضعية المادية لهذه الفئة، من خلال الرفع من أجورها، وللأسف يتم إغفال التوازن النفسي وضرورة إنجاح عملية الاندماج في المهنة والاندماج في المجتمع بشكل إيجابي، مضيفا ألا شيء يمنع الإدارة المعنية من إخضاعهم لاختبارات سيكولوجية لمعرفة مدى قوتهم وصلابتهم وقدرتهم على الاندماج مع مختلف الوضعيات، ولا يجب أن نعتمد فقط على مقاييس القوة البدنية أو النجاح في الامتحانات الكتابية والشفوية. قرنفل يرى، أيضا، أنه من الضروري وجود طاقم طبي خاص تابع لإدارة الأمن الوطني متخصص في الطب النفسي على غرار المتخصصين في الطب العضوي، ومن الضروري أيضا إنجاز عمليات مراقبة واختبارات دورية أو مباشرة بعد حصول حوادث أو سلوكات عن بعض رجال الأمن، ويتم عرضهم على مختص في الطب النفسي ليحدد أسباب هذه التصرفات، وعلى سبيل المثال لا يجب أن يحال أي عنصر تورط في عدد من الصراعات داخل المؤسسة حيث يشتغل سواء مع زملاءه أو مع المواطنين، على المجلس التأديبي مباشرة دون فهم دواعي إقدامه على هذا التصرف، وفي حال كانت حالته النفسية تستوجب متابعة طبية فمن اللازم أن يخضع لها بشكل مستعجل، ويجب معرفة أن كثيرا من الأمراض النفسية أو العضوية التي يصاب بها رجال الأمن تكون أثناء ممارستهم لمهامهم، لذا فمن واجب الإدارة الأخلاقي أن تواكب المنتسبين إليها على مستوى الصحة البدنية والصحة العقلية. ولا يعقل أن نتخلى عن رجل الأمن الذي أصيب بأزمة نفسية يصعب تحملها، وندفعه إلى اختيار التقاعد النسبي أو العمل المكتبي، بل يجب الحرص، ما أمكن، على إعادته إلى وضعيته الطبيعية.
نهايات مأساوية.. انتحار وتكتم شديد كم رجل أمن اختار إنهاء حياته مستعملا سلاحه الوظيفي، أو أي وسيلة أخرى؟ سؤال تبدو الإجابة عنه صعبة على اعتبار أن كثيرا من الحالات لا تتسرب تفاصيلها إلى الرأي العام، وتنجح الإدارة في إبقائها طي الكتمان، وبالمقابل كم حالة انتحار تقر الإدارة أنها كانت نتيجة ضغوط العمل وظروفه المرهقة والمتاعب التي يتسبب فيها الرؤساء لمرؤوسيهم؟ وهل كشفت التحقيقات التي تنجزها المصالح المختصة عن وجود تاريخ مرضي لدى المنتحرين، وما إذا كان معروفا خضوعهم للعلاج لدى مختصين أو حُررت بشأنهم تقارير من رؤسائهم. الإجابة عن هذه الأسئلة تبدو صعبة في ظل التكتم الشديد الذي تصر إدارة الأمن الوطني أن تحيط به الموضوع من الأساس، يقول الشرطي المتقاعد عبد الحميد، «هذا الأمر يتأكد من الصيغة الرسمية المعتمدة في كل التوضيحات التي تصدرها عقب أي عملية انتحار، إذ غالبا ما تستعير البلاغات عبارة «كل المؤشرات ترجح وقوف مشاكل عائلية، وراء واقعة الانتحار المؤلمة» أو حتى الحديث عن وجود «مشاكل عاطفية أو أخلاقية» لكن الأساسي هو ألا تكون لظروف الاشتغال بالمؤسسة أية علاقة بهذه الحوادث، وللأسف فأسلوب التعاطي هذا مع القضية لا يساهم أبدا في فهم مسبباتها، ومن ثم المساعدة على الحد من الظاهرة».