قال عنه البعض إنه «بويا عمر» منطقة جبالة، لأنه يشبه «بويا عمر» ، فهو الآخر مشهور ب«قدرته الخارقة» على علاج المرضى بأمراض نفسية وعقلية عبر تكبيلهم بالسلاسل والأقفال تحت ظلال الأشجار في مرتفعات جبال الريف. «المساء» خلال زيارتها لضريح «مولاي عبد الكريم» الموجود بمنطقة معزولة في غابة بضواحي وزان وقفت على «انتهاكات جسيمة» ترتكب في حق مواطنين مصابين بأمراض نفسية اضطرت عائلاتهم إلى جلبهم إلى هذا الضريح بحثا عن العلاج في ظل غياب مستشفيات للأمراض النفسية بالمنطقة. كما عاينت الجريدة أيضا كيف يكبّل المرضى رغما عنهم بالسلاسل الحديدية والأقفال الكبيرة ويربطون إلى جذوع الأشجار تحت أشعة الشمس أو البرد في مشاهد مهينة لكرامة الإنسان. في مرتفع جبلي، على بعد مسافة تقدر بحوالي 70 كيلومترا في طريق شبه معبدة وجد وعرة تربط بين مدينة جرف الملحة عبر سيدي رضوان ومدينة وزان، يقع ضريح مولاي عبد الكريم المعروف شعبيا بعلاجه للأمراض النفسية والعقلية. الصعود إلى الضريح يعد رحلة شاقة بالنسبة إلى عدد كبير من الزائرين. إذ تضطر أغلب وسائل النقل إلى التوقف عند الطريق الوطنية الرابطة بين جرف الملحةووزان، فيلجأ الزوار إلى السير على الأقدام قرابة خمسة كيلومترات صعودا في اتجاه المرتفع الجبلي، حيث الضريح الذي يقع بدوار «الموْنة». يبدو الضريح أشبه ببناية قصديرية، وشكله يختلف عن الأضرحة المعروفة. كما أنه غير مطلي بالجير كما هو حال معظم الأضرحة. الغرفة التي يرقد بها جثمان الولي ليست أحسن حالا من الغرف الأخرى المبنية بشكل عشوائي، فهي مغطاة بقطعة بلاستيكية صفراء اللون، وسقفها مبني بالقصدير لحماية القبر من تسرب مياه الأمطار، التي تتسرب إليه رغم ذلك، خاصة في السنوات الممطرة. تبدو الغرفة غير مرتبة ومليئة بقنينات المياه (بيدوزات) وقطع الشمع التي يحملها الزائرون ك«بْيَاض للسيد»، إضافة إلى صندوق حديدي ملتصق بجانب قبر الولي، حيث يضع الزائرون «البْياض»، الذي يكون عبارة عن نقود أو شمع أو أشياء أخرى مثل الذبائح إذا ما تحققت أمنية الزائر. القائمون على الضريح يحاولون فتح «شهية» الزوار للاستمتاع بالزيارة ومعاودتها، حيث يقدمون للراغبين في المبيت الأغطية، رغم أنها بالية ولا يمكن أن تحميهم من قساوة البرد الذي تعرفه المنطقة في فصلي الخريف والشتاء، خاصة في الليل. بمجرد الدخول إلى الضريح يصطدم الزائر الغريب عن المنطقة بمشاهد مرضى مصفدين بالسلاسل والأقفال تحت ظلال الأشجار المحيطة بالمكان.يظل المرضى تحت تلك الأشجار إلى أن تغيب الشمس، فيتم إدخالهم إلى غرف قصديرية جنب الضريح، حيث يظلون مصفدين طيلة الليل خوفا من أن يفروا في غفلة من القائمين على شأن الضريح أو أحد أفراد العائلة، الذين يظلون بصحبة المريض لرعايته، لأن هؤلاء غالبا ما تكون حالاتهم حرجة تتطلب رعاية لصيقة. حسن الاستقبال زيارتنا للضريح لم تصادف يومي الخميس والجمعة المميزين بالمنطقة.إذ عادة ما يتوافد الزوار خلال هذين اليومين بكثافة طمعا في بركة الولي، الذي يشفي الأسقام، ويعالج الأمراض النفسية والعقلية، ويبطل السحر، ويمنح الذرية للعاقمين، والأزواج للعانسات. الزوار الذين صادفناهم خلال زيارتنا للضريح كلهم يؤمنون بهذه الكرامات.بعضهم قال إن العديد من المرضى، الذين حلوا بالضريح وهم في حالة مرضية صعبة غادروه وهم أصحاء بعد أن شملتهم بركة الولي الصالح، مؤكدين أنهم ينتظرون دورهم هم الآخرين في العلاج. منهم من يحضر بين الفينة والأخرى في زيارة خاطفة للضريح، ومنهم من طالت إقامته به لأن «اصحاب المكان» لم يؤشروا له بعد بالمغادرة، في إشارة إلى الجن. أحد المرضى قال إن «غابة الضريح تغص بأهل المكان من الجن وهم السبب في شفاء المرضى».قبل أن يؤكد أنهم «المسؤولون عن استقدام بعض المرضى من مدن بعيدة دون أن يكونوا على علم بوجود هذا الضريح». على الرغم من مرضهم وفقرهم يُبين هؤلاء النزلاء عن كرم ضيافته. إذ عادة ما يقدمون الشاي للترحيب بضيوف الولي. «ريّحو تشربو أتاي»، قال أحد النزلاء، وهو يعد «براد أتاي» على الطريقة الصحراوية. ضيق ذات اليد والفقر يبدوان بشكل جلي على النزلاء، الذين صادفتهم «المساء» وهم يحضرون وجبة غداء بسيطة، كانت عبارة عن «بصلة ومطيشة». تمت المناداة على أحد المشرفين على الضريح، الذي حضر في وقت وجيز مقدما خدماته ومرحبا بضيوف الضريح، حيث تم توزيع الخبز وكؤوس الشاي على الجميع. قال المشرف إن الضريح مفتوح في وجه الجميع، وأن بعض المشرفين هم من يقومون برعاية المرضى إذا ما تعذر على الأسر البقاء هنا، موضحا أنهم أشبه بأطقم طبية تقليدية. سرعان ما طلب منا المشرف مرافقته للقيام بإطلالة على باقي الغرف، بما فيها غرفة الضريح، التي يتم إقفالها بإحكام بقفل حديدي كبير الحجم مثلها مثل المرضى، حتى يُطمئننا على الأجواء، التي سيعيش فيها ابننا، بعدما أوهمناه بأن لنا ابنا يعاني من مشاكل نفسية وعقلية. وأكد لنا المشرف بأن شفاء الابن سيتم «بإذن الله وببركة هذا الولي»، الذي يرقد إلى جانب موتى دوار «المونة» بمقبرة اختفت فيها القبور ولم تعد تظهر سوى الأحجار بفعل كثرة الزوار، خاصة يومي الخميس والجمعة، الذي شبهه أحد سكان المنطقة ب«الموسم» بسبب العدد الهائل من المرضى الذين يتوافدون على الضريح طلبا للعلاج، حيث تعمد أسرهم بنفسها إلى «ربطهم» بجذوع الأشجار عدة ساعات قبل أن تغادر المكان. بركة الولي «شايل الله أأولياء الله، توكلنا على الله، يجيب الله الشفا» يردد بعض نزلاء الضريح الذين حجوا إلى الولي طلبا للتخلص من أسقامهم بعد أن «فشل» الأطباء في علاجهم منها، خاصة الأمراض النفسية والعقلية. وحسب هؤلاء، فهذه الأمراض لن تشفيهم منها سوى بركة الولي، الذي ما يزال «سره ظاهر»، مؤكدين أن علاجهم لن يتأتى لهم إلا إذا أحسنوا «النية» في بركته. من هؤلاء المرضى من غادر منزله منذ سنوات نحو الضريح بعد أن حوله المرض إلى شخص «مسعور». محمد(اسم مستعار) كان أحد هؤلاء المرضى. قال إنه قدم إلى ضريح مولاي عبد الكريم «بدون رغبته»، وأن قوة «خفية» هي التي دفعته إليه دون أن يكون على علم بوجوده. قبل أن يضيف بأنه كان بضريح مولاي عبد السلام بتطوان، فناداه «منادٍ» بالتوجه نحو هذا الولي الذي لم يكن يعلم بوجوده من قبل. ويؤكد محمد أنه كان ينوي أن يمكث به ثلاث ليال فقط، فوجد نفسه يقيم به ثلاثة أشهر كاملة، مضيفا أنه يفكر حاليا في أن يعود إلى منزله بكلميم بعد أن غادره مدة 13 سنة قضاها متجولا بين الأضرحة و«السادات» بحثا عن راحة نفسية وجدها أخيرا بضريح الولي مولاي عبد الكريم، الذي قال إن «بركته ظاهرة»، وأنه شخصيا وجد فيه راحة نفسية كبيرة، رغم بعض الصعوبات التي اصطدم بها هو وغيره من النزلاء، الذين يقصدونه من مدن أخرى بعيدة مثل فاس ومكناس والعرائش والدار البيضاء والرباط وغيرها، إضافة إلى سكان وزان والنواحي الذين يزورونه كل يومي خميس وجمعة طمعا في بركته ورضاه. اعتقال كان عبد الله (اسم مستعار) هو المريض الوحيد، الذي عايناه مكبلا ذلك اليوم بضريح مولاي عبد الكريم. كان يبدو في حالة انخطاف، ويعيش في عالم خاص، غير أنه حين بدأ يتحدث إلينا بدا من كلامه أنه شاب متعلم. إذ كان يطعّم كلامه بكلمات بالفرنسية والإنجليزية. كان يبدو سويا.لكن في لحظات معينة تتيه منه الكلمات، تضطرب وتتداخل مشكلة خليطا عجيبا تمتزج فيه «الصحافة بالإنترنيت وبالحروب وبالمشاكل الاجتماعية الخاصة ودول غربية وبأخبار الصحف والقنوات الإخبارية». خلال لحظات صحوه أخبرنا عبد الله بشكل مقتضب قائلا: «أسرتي جاءت بي إلى هنا، رغم أنني أرفض أن أبقى هنا». كانت حالته تتطلب التكبيل، بشكل يستحيل معه فعل أي شيء سوى الجلوس فوق جذع الشجرة، إذ كانت رجلاه مصفدتين بسلاسل حديدية ومربوطة بقفل من الحجم الكبير. مثل هذا الوضع يتطلب من المريض أن يظل متسمرا تحت الشجرة مدة 12 ساعة إلى حين غروب الشمس، فيتم إدخاله بعد ذلك إلى الضريح، ويظل الليل كله مكبلا خشية أن يفر إلى وجهة مجهولة. كان محمد يلوح ببصره في كل الاتجاهات، غير أنه بين الوقت والآخر يركز نظراته على قدميه وكأنه «يستغيث» لنزع السلاسل الحديدية من قدميه «المنتفختين»، اللتين ظهرت عليهما الكدمات، وبدأ لونهما يستحيل إلى السواد، وهما مرشحتان للتعفن بسبب هذه السلاسل. نزلاء آخرون كانوا أحسن حالا من محمد، منهم من ينكمش في زوايا الضريح، ولا يتفوه بأي كلمة مفهومة، وحين يتحدث يفعل ذلك بصوت خفيض. فيما آخرون كانوا يبدون مثل الأسوياء، لكنهم اعتادوا المكوث هنا لأسباب لا يعلمها سواهم. عيد أسبوعي يعتبر يوما الخميس والجمعة عيدا بالنسبة إلى زوار الضريح، حيث يحج العشرات من المرضى وعائلاتهم إلى الضريح محملين بالطعام والشراب. منهم من يقضي اليوم الأول فقط بالضريح ومنهم من يقضي اليومين معا، فيما مرضى آخرون «يستقرون» بالضريح مددا أطول لإحساسهم براحة نفسية افتقدوها في منازلهم. وهم يظلون على حالهم هاته إلى أن «يناديهم المنادي» الذي «لا يعرفه غيرهم» بمغادرة المكان ويبشرهم بالشفاء. ورغم أن المنطقة نائية فالكثيرون يتكبدون الصعاب للوصول إليها، مثلما يتحملون وضع السلاسل ساعات وأياما، بل سنوات، يقول سعيد أحد أبناء المنطقة، مضيفا أنه في هذين اليومين «يحج إلى الضريح زوار عديدون يربطون أقاربهم إلى الأشجار مثلما تربط الحيوانات، حتى تغص أغلب الأشجار بالمرضى في حين ينام الأقارب بالقرب من المرضى في انتظار التزود ببركة مولاي عبد الكريم». ويشير سعيد إلى أن بعض الزوار يقومون بزيارات منتظمة للضريح من أجل التبرك به وطلب العلاج، وأن منهم من يكتفي بجلب التراب والماء من «السيد» دون مرافقة المريض إلى الضريح، فيأخذ بعضا من الماء والتراب ويمزجهما ويضعهما في قطعة ثوب أبيض نقي، يعلقها في عنق المريض على شكل «حجاب»، وبعد ذلك يرش جسده ببعض هذا التراب لطرد المرض عنه. ويؤكد سعيد أن بعض العائلات تفضل أن يظل أبناؤها مكبلين بالسلاسل إلى أن يستعيدوا صوابهم، فيظلون «أمانة» في أعناق القائمين على الضريح، خاصة «المقدم» المشرف الرئيسي عليه، الذي يعتني ببعض النزلاء الذين تعجز عائلاتهم عن البقاء إلى جانب مرضاها لوقت طويل. وهذا ما يجعل الضريح، يقول سعيد، مكانا «للتخلص» من عبء مريض نفسي أصبح مصدر مشاكل لأسرته مع سكان الحي الذي تقطن به، فعلى الأقل هنا يتيح له «المقدم» فرصة العيش بسلام، كما أن دوره الأساسي هو مده بالأكل والشرب، وإخراجه من «زنزانته» بالضريح صباحا، وربطه إلى جذع الشجرة ليأخذ قسطا من الراحة في الهواء الطلق، على أن يعيده إلى «الزنزانة» نفسها مساء، في حين تقوم العائلة بزيارة تفقدية لمرضها مرة في الأسبوع أو مرتين، ومد «المقدم» ببعض النقود حتى يظل ملتزما برعاية المريض. الضريح يغطي الفراغ الطبي تساءلت إحدى شابات المنطقة عن الجدوى مما يقع بهذا الضريح، مؤكدة أنها شخصيا تعرف مرضى نفسانيين يعيشون حياة سوية، «منهم موظفون ومتزوجون وآباء وأمهات لأطفال، وهم يحيون في سلام لأنهم ببساطة يتابعون علاجهم الطبيعي بالمستشفيات، ويتناولون بانتظام أدويتهم الطبية، وعندما تأتيهم النوبات المرضية الحادة يستقرون في منازلهم ويتلقون العلاج والرعاية التامة لأنهم ببساطة من الأثرياء ولهم القدرة المادية على الاعتناء بأنفسهم والاستفادة من العلاج عكس الفقراء الذين يلجؤون إلى الشعوذة و«التبرك» بالأولياء الصالحين طلبا للعلاج في ظل الصعوبات التي يواجهونها بالمستشفيات». وتضيف «عندما يتعلق الأمر بالطب العقلي تزداد المأساة وتتفاقم الصعوبات والعراقيل، خاصة في ظل «الخصاص الكبير» للأطباء في إقليموزان». فيما يقول نور الدين هريدو، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بوزان، إن ما يقع بمولاي عبد الكريم يعود إلى القرون الوسطى، وهو «وصمة عار على قطاع الصحة»، مضيفا أن أغلب الوافدين عليه يلجؤون إليه طلبا للعلاج من بعض الأمراض، خاصة النفسية والعقلية، وأن هؤلاء المرضى يتلقون «معاملة وحشية». ويؤكد هريدو أن بعض العاملين بالضريح يحتاجون أنفسهم إلى العلاج. ودعا وزارة الصحة والحكومة المغربية إلى سد الخصاص في الأطباء، الذي وصفه ب«المهول»، مؤكدا أن الإقليم يعاني «أزمة صحة حقيقية» في جميع التخصصات الأخرى دون الحديث عن الصحة العقلية والنفسية التي تكاد تنعدم. ويضيف هريدو أن الإقليم يعاني من مشكل صحي حقيقي يتطلب تدخلا عاجلا، مشيرا إلى أن واقع قطاع الصحة بإقليموزان كان موضوع مناظرة تم خلالها الوقوف على أزمة القطاع الصحي بالمنطقة، حيث يسجل خصاص في الأطر الطبية في التخصصات المرضية العادية دون الحديث عن الأمراض العقلية والنفسية. وطالب هريدو الوزارة بضرورة إحداث مستشفى للأمراض النفسية والعقلية بالإقليم للقطع مع هذه الممارسات.فيما أكد مصدر من المنطقة أن وزارة الصحة بهذا الفراغ الصحي تساهم في «نشر ثقافة اللجوء إلى الشعوذة عوض العلاج الطبي بالعقاقير»، التي يعوضها التبرك ب«أحجار وأتربة ومياه الأولياء الصالحين». رأي علم النفس قال أبو بكر حركات، أخصائي الطب النفسي والجنسي، إن الجهل والأمية هما العاملان الأساسيان في انتشار ظاهرة اللجوء إلى الأضرحة وكذا طقوس الشعوذة، مشيرا إلى أن المثقفين أيضا يلجؤون إلى الأضرحة بحثا عن العلاج بعد أن يتسلل إليهم اليأس لأن همهم هو البحث عن العلاج لأن المرض النفسي ليس مرضا عضويا بيّنا وعلاجه ليس بيّنا كذلك. وأضاف المصدر ذاته أن من يلجؤون إلى هذه الطرق التقليدية ينقصهم الوعي لأنهم يخضعون للضغط الاجتماعي، خاصة أن المريض يتمسك في سبيل العلاج بأي طريقة علاجية حتى لو كانت مرتبطة بالخرافة، غير أن «ما بني على باطل فهو باطل». ويؤكد حركات أن «الفراغ الطبي هو ما يولد هذا النوع من التفكير، واللجوء إلى الأضرحة ليس سوى بحث عن العلاج الذي لم يوجد في الواقع الخارجي للمجتمع».