لا أجد مبررا لحالة التنطع -أي الغلو والتطرف- التي دفعت فريقا من المتنطعين المنتمين إلى بعض فصائل جماعات الإسلام السياسي إلى إثارة المعركة الخاصة بتعديل المادة الثانية من دستور 1971، التي كانت تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، وهي معركة بدأت عقب الثورة مباشرة بمطالبة هؤلاء بإحلال كلمة «أحكام» محل كلمة «مبادئ»، وانتهت، في المداولات التي تجري الآن في تأسيسية الدستور، إلى المطالبة بحذف الكلمتين وإضافة عبارة أخرى إلى المادة ليصبح نصها «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، والأزهر الشريف هو المرجعية النهائية في تفسيرها». هذا هو النص الأساسي الذي يدور حوله الجدل الآن، وتتفرع عنه تنويعات تدور في الإطار نفسه، يطالب بعض القائلين بها بأن تبقى كلمة «مبادئ» على أن يظل الأزهر -أو بالتحديد «جماعة كبار العلماء» فيه- هو «المرجعية النهائية للدولة في جميع الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية ومبادئها طبقا لمذاهب أهل السُّنة والجماعة»، ويهدد الأكثر تنطعا منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا ظل نص المادة على ما كان عليه في دستور 1971، ويحرض العوام علنا على النزول إلى الشوارع لحماية الشريعة الإسلامية باعتبار أن تعديل النص استنادا إلى ما يطالبون به هو آخر فرصة لتطبق الشريعة! والمنطق الذي ينطلق منه هؤلاء هو أن كلمة «مبادئ» تفرغ المادة الخاصة بالشريعة الإسلامية من مضمونها، لأن أحكام المحكمة الدستورية العليا فسرت «مبادئ» الشريعة الإسلامية بأنها «الأحكام قطعية الثبوت.. قطعية الدلالة من الشريعة»، وهذه الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، في تقديرهم، محدودة جدا، مما يعنى أن معظم ما جاء في الشريعة لن يطبق، لأن بعض آيات القرآن الكريم ولو أنه قطعي الثبوت فإنه ليس قطعي الدلالة، بسبب اختلاف المفسرين حول معانيه، كما أن كثيرا من الأحاديث النبوية ليس قطعي الثبوت حتى لو كان قطعي الدلالة. وما يقوله هؤلاء قراءة ناقصة ومشوشة لأحكام المحكمة الدستورية العليا في تفسير النص الوارد في دستور 1971، وهي تقول صراحة إن هذا النص لا يجيز صدور نص تشريعي -أي قانون- يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا أو تبديلا ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها، أو إقرار أي قاعدة قانونية على خلافها، ومهمة المحكمة الدستورية -كما تقول أحكامها- هي «أن تراقب التقيد بها، وأن تغلبها على كل قاعدة قانونية تعارضها». أما أحكام الشريعة الإسلامية الظنية، أي غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا، فقد ذهبت المحكمة الدستورية إلى أنه يجوز فيها الاجتهاد تنظيما لشؤون العباد، بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعا، واشترطت هذه الأحكام أن يكون الاجتهاد دوما واقعا في إطار الأصول الكلية للشريعة، بما لا يجاوزها كافلا المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وفي هذا السياق أجازت أحكام المحكمة الدستورية للمشرع أن يختار من مذهب دون مذهب أو أرجح الأقوال في مذهب من المذاهب، لكي يلزم القضاء بالتقيد به، وفقا لما يراه ملائما لظروف المجتمع، ولم تجد مانعا شرعيا من الأخذ بأقوال الفقهاء من غير المذاهب الأربعة، إذا كان الأخذ بأقوالهم يؤدي إلى جلب صالح عام أو رفع ضرر عام. ذلك هو تفسير المحكمة الدستورية لنص المادة الثانية الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية، وهو التفسير الذي أخذ به المشرع حتى قبل استقرار هذه المادة بنصها الحالي في التعديلات التي أدخلت على دستور 1971 عام 1980، حين صاغ قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، ثم القانون المدني، إذ أخذ من مختلف المذاهب الإسلامية ما يتفق مع تطور المجتمعات، وما ييسر على المسلمين شؤون حياتهم، واجتهد في ما ليس فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في إطار مقاصد الشريعة. وهو تفسير يؤكد أن الذين يزعمون أنه يهدر تطبيق الشريعة يفتعلون معركة لا أساس لها، لا تدفعهم إلى إثارتها إلا شهوة التنطع التي تتملكهم لكي يظهروا بصورة الغيورين دون غيرهم على دين الله، ولكي يفرضوا على المسلمين تفسيرهم الخاص للأحكام ظنية الثبوت ظنية الدلالة من الشريعة، وأن يسدوا أمامنا أبواب الرحمة التي بعث الله عز وجل الرسول، عليه الصلاة والسلام، ليفتحها أمامنا وإلا فليقولوا لنا: ما هي على وجه التحديد أحكام الشريعة التي يرون أن هذا التفسير قد أهدرها؟ هل يريدون، مثلا، أن يلزموا مجلس الشعب القادم بإصدار قوانين تقضي بتحريم التماثيل وتحطيم القائم منها باعتبارها أوثانا، وأن تلزم المسلمين بإطلاق اللحية وحف الشوارب وتحرم المعازف وتبيح رضاعة الكبير؟! ويا سيدنا المستشار حسام الغريانى، أرجوك أن توزع على أعضاء الجمعية التأسيسية نص أحكام المحكمة الدستورية في تفسير النص الخاص بأن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، قبل أي مناقشة خاصة بهذا النص، لكي يتأكد الجميع من أنه ليس في حاجة إلى تعديل أو إضافة.