ندرك جيدا أن الحملات البذيئة المسيئة إلى الإسلام والمسلمين، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، هدفها الاستفزاز وإشعال فتيل الاحتجاجات الغاضبة في عواصم العالم الإسلامي ومدنه، وتخريب العلاقة بالغرب الذي يحتضن هذه الحملات، أو يغضّ النظر عن الذين يقفون خلفها تحت ذريعة احترام حرية التعبير، مثلما ندرك أن هناك مدرستين: الأولى تطالب بضبط النفس وعدم الانجرار وراء هذه الاستفزازات المتعمدة لأن الاحتجاج ضدها، والعنيف منه بشكل خاص، يخدم أصحابها ويلفت الأنظار إلى الأفلام والرسوم الكارتونية المسيئة، مما يحقق لها ولأصحابها الشهرة التي يريدونها. أما المدرسة الثانية فيرى أصحابها أن الاحتجاج حق مشروع، بل هو فرض على كل مسلم، لأن الدفاع عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، والعقيدة الإسلامية «فرض عين» وواجب على كل مسلم لوضع حد لمسلسل الإهانات المستمر، لأن الصمت يعطي نتائج عكسية تماما. وجهتا النظر تستحقان الاحترام وتنطويان على الكثير من المنطق، شريطة أن تقدم المدرسة الأولى البديل الحضاري والعملي الذي يمكن أن يعطي مفعوله في وقف هذه البذاءات، وأن تلتزم المدرسة الثانية بالاحتجاج السلمي بعيدا عن العنف، حتى لو كانت السفارات تمثل دولا ترتكب كل الموبقات، ولا تعير أي اهتمام للقوانين والمعاهدات الدولية. ما يخذل المدرسة الأولى ويرجّح كفة المدرسة الثانية، وخاصة المؤمنين بالعنف في أوساطها، أن العالم الغربي، والولايات المتحدةالأمريكية زعيمته، لا يقدم على خطوات قانونية لوقف مسلسل الإهانات والبذاءات، بل يصرّ على توفير الحماية لأصحابه، وهو يعرف جيدا هويتهم وأهدافهم، تحت مبررات غير مقنعة، مثل نصوص الدستور الأمريكي الداعمة لحرية التعبير. الدساتير الغربية لا تنصّ على غزو الدول وترميل الملايين من نسائها، واحتلال أراضيها، وارتكاب مجازر في حق مواطنيها؛ ومع ذلك تقدم هذه الدول، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، على هذه الجرائم في العديد من دول العالم الإسلامي. الاحتجاجات التي قام بها أكثر من ألف مسلم في بريطانيا نجحت في منع عرض برنامج مسيء إلى الرسول الكريم في القناة البريطانية الرابعة، والمظاهرات الصاخبة أمام السفارات الأمريكية في القاهرة وبنغازي وطهران وبيروت وإسلام أباد وجاكرتا، وكل العواصم الإسلامية، هي التي دفعت الحكومة الأمريكية إلى اعتقال منتج الفيلم المسيء إلى الرسول الكريم، وإن كان ذلك في قضايا أخرى. العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب ليست وردية، ولا يجب أن تكون طالما أن هذا الغرب يغزو بلادنا، ويدعم الاحتلال الإسرائيلي لمقدساتنا وعمليات التهويد التي تتعرض لها بطرق منهجية ومدعومة جزئيا من أموال دافع الضرائب الأمريكي. نحن لا نكره أمريكا، ولكن أمريكا لا تحبنا، ولا تريد أن تحبنا، نحن نكره انحيازها إلى إسرائيل، ونظرتها الانتقائية للديكتاتوريات العربية، ودعمها لصنف ومحاربتها لآخر، والمعيار هو استمرار إسرائيل قوية مهيمنة في المنطقة. بالأمس فقط، فاجأنا قاض أمريكي في منهاتن بإصدار حكم يجبر هيئة النقل في مدينة نيويورك على نشر إعلان لجمعية أمريكية موالية لإسرائيل (مبادرة الدفاع عن حرية الأمريكيين) يقول: «في أي حرب بين الإنسان المتحضر والإنسان الهمجي ادعم الإنسان المتحضر.. ادعم إسرائيل.. اهزموا الجهاد». الجهاد، الذي يعتبر أحد أركان العقيدة الإسلامية الأساسية، أصبح عملا همجيا بمقتضى هذا الإعلان، أما إسرائيل التي يطالب بدعمها فهي الدولة الحضارية المتقدمة، بغض النظر عن استخدامها الفوسفور الأبيض لحرق أجساد أطفال غزة، والصواريخ لتمزيق جثامين أهالي قانا في جنوب لبنان، وارتكاب عملائها في لبنان مجزرة صبرا وشاتيلا. الغزو الأمريكي للعراق، والمجزرة التي ارتكبتها القوات الأمريكية في مدينة الفلوجة حيث دمرت البيوت فوق رؤوس أهلها، وجرى إعدام الجرحى في المساجد بدم بارد، فهذا ليس عملا همجيا على الإطلاق، فقط المسلمون هم الهمج وهم المتخلفون وغير الحضاريين. هذا القاضي، الذي حكم بإجازة هذا الإعلان وفرضه على هيئة النقل لتعليقه في محطات المترو، ألا يعلم بأنه يجرح مشاعر حوالي ثلاثة ملايين مسلم أمريكي، علاوة على مليار ونصف المليار مسلم، ويمكن أن تؤدي فتواه هذه إلى صدامات دينية وعرقية توقع ضحايا أبرياء؟ مسلسل الإهانات للإسلام والمسلمين يجب أن يتوقف، وكفى التذرع بحرية التعبير، ففي بريطانيا التي أقيم فيها جرى اعتقال فتاة مراهقة من أصل باكستاني لأنها كتبت قصيدة تعرب فيها عن تأييد خجول لتنظيم «القاعدة»، بحجة التحريض على الإرهاب. التحريض ضد المسلمين والإساءة بكل البذاءة ضد رسولهم الكريم هو حرية تعبير، أما قصيدة ركيكة من فتاة صغيرة مراهقة ومحبطة فهو تحريض على الإرهاب؛ أي عدالة هذه؟ المسلمون لا يريدون الحروب ولا يتطلعون إليها أو يحرضون عليها، فهم لا يملكون حاملة طائرات واحدة، ولا يوجهون صواريخهم نحو أمريكا أو أوربا، يريدون العيش الكريم والتعايش مع كل الحضارات، وهم دائما الطرف الذي يتلقى الصفعات والركلات الصاروخية. يريدوننا أن نتلقى ضربات سياطهم دون أن نصرخ من الألم، مثل البهائم تماما.. لا، المسلمون ليسوا بهائم ولن يكونوا كذلك، وتجاوزوا مرحلة المطالب بالصراخ إلى مرحلة الدفاع عن النفس، وها هم يهزمون أصحاب حاملات الطائرات في العراق، وبصدد هزيمتهم في أفغانستان، ويجبرونهم على الانسحاب أذلاء.