اقتحام السفارتين الأمريكيتين في كل من القاهرة ومدينة بنغازي، وإنزال علم الأولى، ومقتل أربعة دبلوماسيين أحدهم رئيس البعثة في الثانية، هو إعادة تذكير للإدارة الأمريكية بأن بلادها ما زالت مكروهة وسط قطاع عريض من الأمتين العربية والإسلامية رغم ادعاءاتها، وأحيانا تدخلاتها، إلى جانب بعض ثورات الربيع العربي. لا أحد يستطيع أن يجزم بوجود تنسيق بين الاقتحامين، لاختلاف الجهات التي أقدمت على هذه الخطوة، ففي مصر كان اقتحام السفارة الأمريكية عفويا، ونتيجة فورة غضب من إقدام مجموعة من الأقباط المتطرفين المقيمين في أمريكا على إنتاج فيلم يسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما كان اقتحام القنصلية الأمريكية في بنغازي مخططا له قبل مدة، ويتضح ذلك من اختيار الذكرى الحادية عشرة لهجوم الحادي عشر من شتنبر كموعد للتنفيذ. تنظيم «القاعدة» موجود في ليبيا، ولا أحد يستطيع نكران ذلك، واعترف التنظيم رسميا بشنّ هجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي في شهر يونيو الماضي، بعد الإعلان عن اغتيال الشيخ أبو يحيى الليبي، الرجل الثاني فيه، في غارة لطائرة بدون طيار في منطقة القبائل على الحدود الباكستانية الأفغانية. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتزامن الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي مع إصدار الدكتور أيمن الظواهري، زعيم التنظيم، شريطا يؤكد فيه استشهاد الشيخ الليبي، ويتوعد بالانتقام من قاتليه الأمريكان. الإدارة الأمريكية تباهت، في أكثر من مناسبة، بإنهاء تنظيم القاعدة بعد اغتيال زعيمه الشيخ أسامة بن لادن في منزله الذي كان يقيم فيه مع أسرته في مدينة أبوت أباد الباكستانية، ولكن هذا التباهي لم يكن في محله تماما، فالتنظيم بات أقوى مما كان عليه في السابق، وها هو يستأنف تفجيراته بقوة في العراق، ويفتح فروعا في سورية، ويحتل مع حلفائه ثلاثة أرباع مالي جنوبي ليبيا، ويعزز سيطرته على منطقة الصحراء الإفريقية الكبرى، وبعض مناطق المغرب الإسلامي. النظام الليبي يرفض الاعتراف بوجود تنظيم القاعدة على أراضيه، رغم أن أعلامه، أي التنظيم، ترفرف في أحياء أكثر من مدينة، وبعض المؤمنين بعقيدته وأدبياته يدمرون الأضرحة والمساجد المبنية فوقها. المفارقة أن هذا النظام، الذي ما زال في طور التأسيس بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فاجأنا بتحميل مسؤولية الهجوم على القنصلية الأمريكية لأنصار العقيد معمر القذافي، وظهر كأنه يستجير من الرمضاء بالنار. نشرح هذه الجملة بالقول بأن إلقاء التهمة على النظام السابق وأنصاره هو تهمة خطيرة، بل أخطر من وجود تنظيم القاعدة على الأرض الليبية، لأن تنظيم القاعدة يحارب الأمريكان والأضرحة مثلما يقول في بياناته، بينما أنصار النظام السابق يريدون خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وتقويض قاعدة النظام الجديد تمهيدا للإطاحة به، مضافا إلى ذلك أن هؤلاء يملكون أسلحة وأموالا، وبعضهم مدربون تدريبا جيدا، وينتمون إلى قبائل ليبية كبرى مثل الورفلّة والمقارحة والقذاذفة والترهونة وغيرها. إن أفضل حليف للتنظيمات الجهادية الإسلامية هو العداء المستشري في أوساط بعض الجماعات اليمينية المسيحية الأمريكية ضد الإسلام والمسلمين، وسيطرة جماعات يهودية موالية لإسرائيل على مقدرات السياسة الخارجية الأمريكية. الإدارة الأمريكية منعت تيري جونز، قس ميامي العنصري الحاقد على الإسلام، من الإقدام على جريمة إحراق القرآن الكريم، وكان بإمكانها، بالحسنى أو بالقانون، منع حلفائه الأقباط من إنتاج فيلم يسيء إلى الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وإطلاقه في ذكرى الهجوم على برج التجارة العالمي بهدف الفتنة وخلق قلاقل وصدامات بين المسيحيين والمسلمين في مصر لضرب الوحدة الوطنية. لا تستطيع هذه الإدارة وأجهزتها التذرع بالقانون وحرية التعبير لعدم الإقدام على هذه الخطوة، فقد اخترقت المباحث الفيدرالية الأمريكية كل القوانين والأعراف عندما أثارت الرعب في أوساط الأمريكيين المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، وحققت واستجوبت أكثر من عشرة آلاف منهم، بعض هذه التحقيقات كان مهينا، طابعه الإذلال. ما زالت الأجهزة الأمنية الأمريكية، وبعد 11 عاما من أحداث شتنبر تعامل معظم الأمريكيين المسلمين والزائرين العرب والمسلمين، بطريقة تمييزية تعتبر كل إنسان مسلم موضع شبهات، ويتعرض لاستجواب المجرمين في المطارات الأمريكية، حتى إن الكثير من الزوار العرب، وأنا واحد منهم، قرر عدم زيارة أمريكا ورفض دعوات عديدة لإلقاء محاضرات في جامعاتها. مقتحمو السفارتين الأمريكية في القاهرة وبنغازي لم يفعلوا ذلك عندما تعمّد رسام كاريكاتير نرويجي الإساءة إلى الرسول الكريم، بل ذهب أقرانهم، في أكثر من عاصمة إسلامية، للاحتجاج أمام السفارتين النرويجية والدنماركية. التعلل بحماية المتطاولين على الإسلام والأنبياء والمسلمين بحرية التعبير أكذوبة لا يمكن أن تنطلي على أحد، لأن السيدة أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا التي كرمت صاحب الرسم الكاريكاتوري المسيء، أوقفت رسما مماثلا مسيئا إلى المسيح؛ كما منعت القناة الرابعة البريطانية بث شريط وثائقي مماثل، بل أكثر إساءة، تحت دواع أمنية وبعد احتجاجات وتهديدات. تصعيد الكراهية وحملات الاستفزاز الموجهة إلى الإسلام والمسلمين هو الذي يخدم التشدد وجماعاته، واحتضان جماعات عنصرية طائفية قبطية من قبل الإدارة الأمريكية هو الذي سيؤدي إلى تعرّض السفارات والمصالح الأمريكية للمزيد من الهجمات، فالتطاول على الرسول الكريم خط أحمر، بل شديد الاحمرار لدى مليار ونصف المليار مسلم من أتباعه، معتدلين كانوا أو متشددين. ندرك جيدا أن الذين أنتجوا هذا الفيلم المسيء لا يمثلون أقباط مصر، بل يشكلون خطرا عليهم أكثر من المسلمين أنفسهم، فهؤلاء ما زالوا يعيشون إلى جانب أشقائهم المسلمين، ويعتزون بانتمائهم إلى التراب المصري، ويتمسكون بالوحدة الوطنية لوطنهم، ولهذا أدانوا بشدة هذا الفيلم المشبوه وأصحابه وتبرؤوا منهم. مصر مستهدفة في ديمقراطيتها ووحدتها الوطنية الديموغرافية والجغرافية، وثورتها أكثر استهدافا لأنها تريد إعادة الكرامة إلى تسعين مليون مصري، واستعادة مكانة مصر وسيادتها ودورها وقرارها المستقل، ومن الطبيعي أن يجد من يقفون خلف هذا الاستهداف من هم مستعدون لإشعال فتيل الفتنة الطائفية. التدخلات الأمريكية في الشؤون العربية والإسلامية لمصلحة إسرائيل واحتلالها وتهويدها للمقدسات، واحتضانها لجماعات معادية للإسلام والمسلمين، كلها تشكل أساس البلاء وعدم الاستقرار بل والحروب في بلادنا، ولذلك يجب وقف هذا الاستفزاز فورا إذا كانت أمريكا تريد ضمان مصالحها وأمن سفاراتها ومواطنيها.