هو أمر مألوف أن تلجأ الأنظمة المأزومة إلى سياسة الهروب إلى الأمام للالتفاف على أزمتها، لكن يندر أن تجد نظاما أكره على استخدام مختلف وجوه هذه السياسة كما النظام السوري، ربما بسبب عجزه المزمن عن مواجهة ثورة شعبية أوشكت أن تكمل عاما ونصف العام. وربما لأن التهرب من الوقوف وجها لوجه أمام الأزمات ووضع الحلول الناجعة لها هو نهج أصيل عند سلطة دأبت على اللعب بأوراق النفوذ الإقليمي على حساب أولوية الاهتمام بالوضع الداخلي، وربما لأنه نظام لا تهمه الحلول السياسية ومطمئن إلى ما أنتجته وفرة من تجاربه القمعية بأن السبيل الوحيد لضمان السيطرة هو الاستمرار في إرهاب الناس وشل دورهم، وربما لأنه نظام اعتاد الرهان على عامل الزمن ويأمل -بهروبه إلى الأمام- كسب مزيد من الوقت عساه يحمل له جديدا يساعده على إعادة الأمور إلى سابق عهدها. والحال، لقد نهضت الثورة السورية جراء احتقان مجموعة من الأسباب والمشكلات التي لم تجد طريقها إلى الحل، ولنقل كرد على أزمة شاملة وعميقة طاولت مختلف حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، لكن ما عمق أكثر هذه الثورة وزادها عزما وتصميما هو استهتار النظام بها، وإصراره على اتباع كل أشكال التهرب من معالجة أسبابها! أولا، هروب بإنكار الوقائع والحقائق القائمة على الأرض والاستخفاف بحقوق الناس ومطالبهم المشروعة والاستعاضة عن ذلك بالتجييش ضد مؤامرة كونية وضد عصابات مسلحة وقوى إرهاب سلفية، بما في ذلك إفشال كل المبادرات العربية والدولية التي حاولت وضع الأزمة السورية على سكة الحل السياسي، بالتوازي مع تصعيد منطق العنف بصورة غير مسبوقة، ليغدو التنكيل المعمم ومحاصرة المدن والمناطق وعمليات القصف والتدمير والمجازر المروعة أشبه بالخبز اليومي! وتعجب وتأسف في آن، بعد عام ونصف تقريبا، من تكرار المشهد السوري المأساوي ممن لا تعنيه النتائج الوخيمة التي ترتبت عن سياسة إنكار الأزمة، من لا يزال يفتنه الحديث عن وطن بخير ومجتمع معافى، من يستهزئ بالمحتجين على أنهم قلة قليلة لا وزن لها ولا قيمة. ومن لا يزال يستهتر بآلام الناس والدم المراق ولا تهمه أعداد الضحايا والمعتقلين والمشردين، ويشدد على خياره الأمني وعلى أولوية الضرب بيد من حديد لسحق الثورة. ربما لإقناع نفسه قبل الآخرين بأن ما يواجهه ليس ثورة شعب، وبأن ثمة جدوى من الاستمرار والتوغل في طريق العنف، وربما كمحاولة للإيحاء أمام أنصاره بأن القوة لم تستخدم بعد، وبأن ما جرى ويجري ما زال لعب أطفال وليس حربا شعواء أو محاولة مستميتة استخدمت فيها أشد أنواع التنكيل والفتك للدفاع عن الوضع القائم. إن النظام الذي يأبى الاعتراف بأزمات المجتمع ومشكلاته هو نظام يتخلى عن المسؤولية الطبيعية الملقاة على عاتقه، وأولها البحث عن حلول حقيقية لما يعانيه الناس، فما سياسة الهروب من المرض وإنكار وجوده إلا تواطؤ مع أسبابه، ولا يقود التشخيص الخاطئ إلى علاج خاطئ فحسب بل ويزيد من حدة الداء ويفاقمه وإن خفف لبعض الوقت من أعراضه. الأمر الذي يتضح من معاينة الحالة السورية أن ثمة سلطة لا تريد -وبعد عام ونصف من تجريب العنف- الإقرار بفشل خيارها وأن ما تمر به البلاد هو نتاج أزمة سياسية وتحتاج إلى حلول سياسية، بل قاعدتها الوحيدة هي الهروب ثم الهروب نحو تصعيد العنف أكثر فأكثر وتوظيف مختلف وسائل القمع والقهر التي تمتلكها، متوهمة القدرة على حسم الأمر لمصلحتها! ثانيا، هروب نظام طالما هدد بإشعال المنطقة نحو تصدير أزمته إلى بلدان الجوار وتفجير الصراعات فيها مستندا إلى عمق الترابط والتأثير بين ما تعيشه سوريا وبين جيرانها بفعل مكونات عرقية ودينية وثقافية متداخلة، عسى أن يخفف، من خلال توسيع رقعة الصراع وتحويل الانتباه العالمي والعربي إلى أحداث أخرى، من شدة الضغط عليه ويربح بعض التغطية كي يتوغل أكثر في خيار القمع والعنف. وفي هذا السياق، لم توفر السلطة أية فرصة لنقل أزمتها إلى التركيبة اللبنانية الهشة، فإلى جانب التضييق عبر حلفائها على شروط حياة اللاجئين وحاجاتهم، شهدنا استفزازات متكررة وتجاوزات للحدود بحجة ملاحقة معارضين فارين. ثم اللعب على توتير الأجواء في طرابلس وبيروت لجر اللبنانيين إلى اقتتال طائفي يمكنه أن يعيد بناء الاصطفافات والتحالفات على أساس حربي داعم للنظام، وأحد أهم الأدلة ما كشفته التحقيقات مع الوزير السابق ميشال سماحة، وأيضا التوظيف السياسي المبالغ فيه لبعض المعونات الإنسانية التي ترسل إلى الداخل السوري ولقضية المخطوفين اللبنانيين هناك! لكن جهود تصدير الأزمة إلى لبنان لم تحقق النجاح المطلوب بل لا تزال تلقى صدّا قويا؛ والأسباب كثيرة، منها إصرار مختلف الفرقاء على سياسة النأي بالنفس التي أعلنت رسميا في التعاطي مع الحالة السورية، ومنها تحسب القوى الحليفة للنظام من هدر قواها في معركة تبدو خاسرة وقد تفقدها ما تبقى لها من وزن ودور وطنيين، ومنها إدراك قيادات المعارضة لحقيقة ما يحدث وحرصهم على مزيد من ضبط النفس وعدم الانجرار نحو هذا الفخ. وفي المقابل، نجح الأردن في امتصاص المناوشات والهجمات المحدودة للقوات السورية على حدوده، وأبقاها طي الأدراج كي لا يبنى عليها وتتصاعد أكثر. واللافت أن حكومة عمّان آثرت الاستمرار في سياسة عدم التصعيد مع النظام السوري، وهي سياسة اتبعتها منذ بدء الثورة، فأحكمت سد الأبواب والذرائع أمام انتقال الأزمة إليها، مكتفية بتحمل مسؤولية الحد الأدنى عما تعتبره دورا إنسانيا تجاه اللاجئين والمنشقين السوريين! واستدراكا، يبدو أن حكومة أردوغان تعي أيضا حقيقة أهداف النظام السوري ونواياه من تصدير أزمته، فعلى الرغم من تكرار التحرشات العسكرية السورية على الحدود والتي وصلت حد إسقاط طائرة حربية تركية، فضلا عن خطورة تمكين بقايا حزب العمال الكردستاني من السيطرة على المناطق الكردية في شمال وشرق البلاد، لم تقع أنقرة في الفخ ولا تزال تتحسب من الدخول منفردة في صراع مكشوف ومفتوح مع النظام السوري ردا على استفزازاته. والقصد إفشال رهانه على خلط الأوراق أو على دفع حلفائه، روسيا وإيران وحزب الله وبعض القوى العراقية، إلى وضع ثقلهم كاملا في الميزان ما دام على يقين بأنهم لن يتركوه وحيدا في معركته، وما يستتبع ذلك من تداعيات قد تضع القطار التركي على سكة لا يريدها، وربما تستنزف قواه وتهدد استقرار البلاد في حال طال زمن المعركة واتخذت مسارات متعددة! ثالثا، الهروب من معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة بافتعال حرب مع إسرائيل، مباشرة عبر الجولان المحتل أو بالتنسيق مع حزب الله عبر الجبهة اللبنانية، كورقة أخيرة يمكن أن يلجأ إليها نظام اهتزت شرعيته بصورة غير مسبوقة ويعاني من عزلة شديدة، وبات مصيره على المحك بعد فشل كل وسائل القمع والتنكيل في القضاء على الثورة أو كسر شوكتها. وما يعطي هذا الخيار زخما إضافيا هو إدراك أهل الحكم أن الركون إلى عامل الوقت لم يعد في مصلحتهم، وأن التوغل في أساليب العنف لم يعد يجدي نفعا، وأن النتائج لن تكون مختلفة في حال الانكفاء والتراجع أو الرضوخ للحلول السياسية، والأهم استشعار السلطة ببداية تبدل الموقف الإسرائيلي من «الستاتيكو» القائم ومن الشروط القديمة للحفاظ على الاستقرار الداعمة لبقائها، ربما ردا على تصريحاتها الخطيرة حول إمكانية استخدام الردع الاستراتيجي وترسانتها من الأسلحة الكيماوية في حال تعرضها لهجوم خارجي! إن أهل الحكم يتطلعون، من خلال الهروب إلى خيار الحرب أو التهديد به، إلى تحقيق عدة أهداف، ولنقل ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، منها توظيف أجواء الحرب وسلاح التعبئة لتعزيز الضبط الداخلي وتمرير المزيد من القمع والقهر بأقل ردود أفعال، ومنها الرهان على الشعارات الوطنية في تمييع الشعارات المتعلقة بالحرية والكرامة والعدالة، وتاليا في تمزيق وحدة الحراك الشعبي وشق صفوف المعارضة وتشويه سمعتها، ثم التعويل على هذا الخيار لترميم قاعدتهم الاجتماعية المتهالكة عبر مغازلة القوى والجماعات التي لا يزال الهم الوطني يحتل الأولوية لديها. هذا ناهيكم عن الرهان على مناخات الحرب في إعادة رص صفوف القوى العسكرية التي بدأت تعاني من تصدع وانشقاقات متواترة، وفي الطريق تحرير الذات من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع والتنصل من مخلفات الدمار والخراب ومن مفاعيل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع والمرشحة لمزيد من التفاقم. فضلا عن التطلع إلى أن يفتح الصراع العسكري مع إسرائيل بوابة جديدة كي يستعيد النظام الحاكم بعضا من دوره الإقليمي المفقود، أو يفضي إلى خلط الأوراق العربية والإقليمية والعالمية ويفتح الأفق أمام مسار جديد واصطفافات جديدة، بما في ذلك تخفيف حدة الموقف العربي الذي صار أكثر حسما تجاه النظام، وخلق تبدل في التفاعلات السياسية الجارية في الغرب حول الوضع السوري تزيد قلق المتشددين وتشجع دعاة التريث والتعاطي الاحتوائي. هو رهان خاسر اليوم التعويل على أجواء الحرب مع إسرائيل وما تثيره من مشاعر وطنية في كسب تعاطف السوريين والشارع العربي وفي إزاحة مشاعر الغضب والألم التي رسخت في النفوس من مشاهد الفتك والتنكيل التي فاقت كل تصور، أو في إعادة بناء موقف جديد للصف العربي، الذي خبر جيدا لعبة الحروب وتوظيفها في أزمات الأنظمة وصراع المحاور؛ فقد ملّ الناس شعارات المواجهة والممانعة وعافتها أرواحهم لأنهم خير من أدرك كيف وظفت هذه الشعارات لتعزيز أسباب التسلط والاستئثار والفساد، فكيف الحال وقد رسخت في نفوسهم مشاعر مقززة من مشاهد العنف والتنكيل المروعين باسم الممانعة والمقاومة، بل لعل إقحام هذه الشعارات اليوم سوف يسرع في كشف عمق الهوة التي تفصل بين مصالح نظام خسر شرعيته حين لم يتردد في استخدام أشنع وسائل القمع ضد الشعب وبين مصالح هذا الشعب وتطلعاته الوطنية. في أيام الخطوب والكوارث عادة ما يجري البحث عن الأسباب والدوافع، لاستخلاص الدروس والعبر ورسم الخطوات الكفيلة بالتجاوز، لكن في سورية، وعلى الرغم من مأساوية ما يكابده المجتمع ومرارة ما يعانيه، يظهر أن أهل الحكم لم يتخلصوا بعد من ظاهرة التهرب من المسؤولية بإنكار الوقائع القائمة والاستهتار بأسباب الأزمات ووسائل معالجتها، معولين على عنفهم وفتكهم وعلى كل فرصة تسنح لهم لتصدير أزمتهم وافتعال صراعات خارجية، دون الأخذ في الاعتبار أن إشعال الحرائق في أجواء مضطربة هو سلاح ذو حدين، إذ غالبا ما ترتد على موقدها! والحال، هي أمر خطير سياسة الهروب إلى الأمام، والأخطر الاستهتار بالنتائج السلبية العميقة على مستقبل الأجيال إن أحكم النظام التوغل أكثر فأكثر في العنف والتدمير والقتل المجاني، وإن دفع البلاد إلى معارك وحروب غير متكافئة، وغير مبررة سياسيا وقانونيا، ربما هو خيار يائس، وربما هو خيار مقامر يطلب «الصولد» في لعبة البوكر، مغامرا بكل أوراقه، إما ربح كل شيء أو خسارة كل شيء!