جاءني في وقت متقارب خبران من سوريا: الأول موقف البوطي مجددا في إدانة الثورة السورية ومساندة نظام البعث الدموي، فتذكرت وعاظ السلاطين عبر التاريخ؛ والخبر الثاني خبر نقل جثة من موسكو إلى سوريا لضابط رفيع المستوى قيل إنه اللواء جميل حسن، الضابط المعتوه رئيس المخابرات الجوية الذي يروى عنه استعداده لقتل مليون سوري. هذا الكلام قد يصعق بعض القراء، ولكن باعتبار دخولي معتقلات البعث مثنى وثلاث ورباع فعندي تصور عن أمثال هؤلاء الأمساخ من الخنازير والقردة عبدة الطاغوت.. في الحقيقة، إنه أمر جلل ويحتاج إلى عميق التحليل أن تجد رجلا اشتهر بالعلم التقليدي الشرعي يصبح جنديا للطاغوت، ولكنها ليست المرة الأولى في التاريخ. مراجعة بسيطة للعلاقة المشؤومة بين السلطان ورجل الدين أو رئيس الجمهورية والمفتي توضح بجلاء انسجاما رائعا مزدوجا لاعتلاء كتف المواطن المسكين؛ الأول بالجند والمخابرات والخناجر والطبنجات يرعب المواطن، ورجل الدين وواعظ السلطان يقول قال الله أطيعوا أولي الأمر منكم. إنها آية صحيحة في استخدام خاطئ، في المكان الغلط للشخص الغلط في الوقت الغلط للهدف الغلط. أتذكر الشيخ عبد الرحمن في حضرة منصورة، رئيس المخابرات العسكرية في القامشلي، حين دخلت سوريا على أمل خاطئ أن أعيش في بلدي بعد غيبة 17 سنة. فوجئت، وليس الأمر جديدا، بوجود رجل الدين مع رجل المخابرات في جلسة حميمة. سمعت بأن منصورة المسخوط يقود العمليات في وجه الثوار في حلب، أما الشيخ عبد الرحمن الماردلي فلا أعرف أين رست عصاه وفي مجلس أي طاغوت يحاضر ويفتي. المعركة الآن مستعرة في سوريا بين طاغوت وجبت، من جهة (الطاغوت من يخضع الأمة بقوة السلاح للنظام السياسي، والجبت رجل الدين بعمة وطربوش ولفة وديكور بألوان شتى وغرابيب سود وأحيانا كرافتة عصرية، أو بزعم أن ما يجري في الدم كريات حمراء مختومة بختم النبوة) وشباب ثورة بوعي يقدح بزناده ظلمات البعث، من جهة أخرى.. وعلى الثورة أن تعرف صديقها من عدوها، وعليها أن تدرك أن المعركة هي متعددة الجوانب، جانب يقوده سجاح بثينة الصحاف ومسيلمة البوطي كما فعل من قبل أحمد سعيد والصحاف لربهما المصدوم والمهزوم، تساند ذلك فتوى تقول إن المظاهرات لم يعرفها الصحابة والنبي (ص) وليست فيها آية وحديث، وإنها حرام لأنها ممنوعة، وإنها ممنوعة لأنها حرام. وبجانب ذلك قتلة مهرة من القناصين في ضرب الرأس إلى الناصية والجمجمة كما فعلوا منذ نصف قرن وما يزالون. سؤال ما زال يلح علي بدون أن أعثر له على إجابة؟ كيف يمكن رؤية هذا التناقض بين رياض الترك (الشيوعي)، الذي نام في زنزانة انفرادية سبعة عشر عاما من أجل أفكاره في الحرية ويعتبر -حسب لوغاريتم رجال الدين- هرطيقا؛ ووعاظ السلطان من أمثال البوطي الذي أقسم بأن ابن الطاغية الأسد، الذي مات بحادث سيارة متهورة بسرعة شيطانية فخبط تمثال أبيه الحجري في مطلع المطار فنفق! زعم البوطي أنه يطير في الجنة بجناحين ويأوي إلى حواصل طير خضر؟ لا أدري؟ ربما عنده كاميرا ديجتال إلى الجنة مباشرة؟ لا أدري. لقد كانت الكنيسة يوما تبيع تذاكر لدخول الجنة، وتعالج السعال الديكي بلبن الحمير، وتحرق الساحرات والكتب والقطط في الساحات العامة! وفي آشور، كان الكهنة يتقنون الكتابة، ولكنها كانت حرفة للتضليل أكثر من بث الوعي. واليوم يجتمع ثلاثي من «الكهنوت» و«الجبت» و«الطاغوت» في تجهيل المواطن العربي بالكتابة والفضائيات. واجتماع ثلاثة لا يعني ثلاثة، بل أكثر من ثلاثة، وكلٌّ له سلاحه الخاص. فال«الكهنوت» يغتال العقل بالوهم، و«الجبت» يغيب الوعي تحت غبار الكلمات، و«الطاغوت» يستعبد الناس بالقوة. وهكذا يؤكل المواطن بالطول والعرض، فلا يبقى منه مواطن، بل مسكين ويتيم وأسير، في سجن كبير اسمه الوطن. «الكهنوت» هم وعاظ السلاطين ورجال الدين، حيث لا رجال دين في الدين. ومفتي الجمهورية لا يختلف عن كهنة آمون في شيء سوى الاسم؛ أما «الجبت» فهم مثقفو السلطة المتأهبون لطلي مساحيق التجميل لوحش قاضم قارض، وتقديمه إلى الجماهير على أنه ملكة جمال العالم؛ وأما «الطاغوت» فهم رجال المخابرات والجاندرما والحرس الجمهوري المسلحون حتى الأظفار والأنياب، الجاهزون للقتل تحت إمرة فرعون. وكلا من «الكهنوت» والكاهن، والجبت والمثقف، والطاغوت والمخابرات متفاهمون متعاونون. وفي التاريخ، كان فرعون وسيد الكهنة يخرجان على جمهور مخدر؛ فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، أن فرعون من نسل الإله فتخر له الجباه ساجدة. وفي البيان الذي أصدره الشيوعيون في مطلع القرن الفائت، تم التعبير، بشكل فاضح، عن حقائق مغيبة، على شكل طبقات، تمنيت أن أرسل رسمه للاطلاع، فكل له وظيفته في سيمفونية التعذيب: السلطة تحكم بالسيف والسلسال والساطور. وهي في قمة الهرم.. على شكل ملائكي بملابس ملكية جدا وعطور مخملية.. متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان؛ ووعاظ السلاطين يحللون الظلم بنصوص نزلت ضد الظلم، بلحى وقلانس وطرابيش وعمامات مختلفا ألوانها بيض وجدد حمر وغرابيب سود؛ ومثقفو السلطة يخدرون الوعي، مقابل ثمن يقبضونه ومراكز يُمنحونها، فمنهم وزير للسخافة والإفساد القومي ومنهم وزير للتضليل الاشتراكي وآخر من شكله أزواج لا مرحبا بهم، إنهم صالوا النار. وعساكر وضباط وجاندرما ومخابرات، مسلحون بالطبنجة والغدارة والخنجر والعصارة، مدربون على القتل والاغتيال، والتعذيب إلى درجة القتل، من ملة الحجاج، يقتلون محافظة على النوم العام. في فروع تسعة عشر جهنمية من مخابرات جوية وبحرية وتحت أرضية وفضائية. لا شيء يعمل في البلد غير جهازهم، يسبقون دقة «ناسا» وإحصائيات «الترند»، يحصون دبيب كل نملة وطنين كل نحلة، ولا تأخذهم سنة ولا نوم.. وفي أسفل الطبقات، عمال وفلاحون يطعمون كل الطبقات الملكية على ظهورهم طبقا عن طبق. (واعظ السلطان) يصدر الفتوى على المقياس، حسبما أصدره رجال الحزب والزعيم الملهم. وعلى المواطن دخول عصر المعلومات من ثقب أمني يتسع لدماغ قملة ودبيب نملة. ومن يكتب يجب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا. ومن عاش في ظل النظام العربي، فيجب أن يفتح كتاب النبات فيحفظ «وظائف النبات» جيدا، فهذا أسلم للعاقبة؛ فالنبات يتنفس ويتكاثر، ويمكن للمواطن العربي أن يتنفس وينجب أولادا للعبودية. وفي عصر السلطان العثماني عبد الحميد كان من حرك العوام ضد جمال الدين الأفغاني (أبو الهدى الصيادي) مفتي الديار العثمانية. وفي عهد نابليون الثالث، فتح سجن في غويانا الفرنسية أخذ اسم جزيرة الشيطان، وبقي السجن يعمل بكامل الطاقة، بعد أن مات نابليون الثالث بدهر؛ فهذه هي مهزلة التاريخ، أن من يفتح ملفات الشيطان لا تغلق بعد موته. وإذا دخلت الديكتاتورية بلدا فمات الديكتاتور فابنه جاهز وحفيده من بعده أجهز. وأما «مثقف السلطة» فهو يؤكد أن الاعتقالات مؤشر صحة للأمة كما صرح بذلك الرفيق، لأنه دليل المقاومة؛ فلولا العافية في الأمة والاعتراض لما كانت هناك سجون واعتقالات. وهذا يفيد بأن كندا عقيمة سياسيا، لأنه لا توجد بها سجون ومعتقلو رأي. وهذا المثل يذكر بنكتة المجنون الذي سئل عن الجسر لماذا صنع فأجاب: من أجل أن يمر النهر من تحته؛ ومناقشة مثقفي السلطة عقيمة، ويذكر بالحوار الذي جرى بين المجرم الصربي رادوفان كاراديتش ومراسل مجلة «الشبيجل» الألمانية، فعندما سألوه عن اغتصاب خمسين ألف امرأة على يد الصرب، قال: من فعلها هم المسلمون؟ قالوا: فما بال القبور الجماعية؟ قال: هي جثث الصرب؟ وهو يعرف أن الجثث لا تتكلم!