لعله من اللافت من الوجهة الموسيقية الصرفة، صعوبة حصر مختلف الفنون المغربية الأصيلة، سواء العالمة منها أو الشعبية، لاعتبارات متعددة مرتبطة أساسا بالغنى الحضاري والإثني والعرقي للمغرب، فعلى مدى قرون تعاقبت على هذا البلد، حضارات وأجناس وإثنيات، شكلت بشكل تراكمي، مجموعة من الألوان الفنية، والتعابير الموسيقية، الحبلى بالعديد من التفاصيل، والتي غالبا ما لا نلتفت إليها، عن قصد أو غيره، مكتفين بظاهر الأمر عوض البحث عن بواطنه. ولعله من نافلة القول إن تراثنا بمختلف مكوناته، يعاني من إجحاف ما بعده إجحاف، فكثيرا ما يختزل في جوانبه الفلكلورية، وغالبا ما يبخس حقه في التبريز والإظهار، فلا يمرر في وسائل الإعلام إلا على مضض، وبأشكال تسيء إليه أكثر مما تفيده. هذه الحلقات ستحاول أن تسلط الضوء، على مجموعة من فنوننا التراثية، بغية إظهار جوانبها المشرقة، عن طريق مقاربتها من وجهة أكاديمية صرفة، علها تساعد في إعادة النظر في هذه الثروة الفنية التي يحق للمغرب الافتخار بها. ثاني مكون للمتن الأدبي للموسيقى الأندلسية المغربية: الموشحات، وهي تستغرق الجزء الأكبر من هذا المتن. وقد وصف الباحثون الموشحات بالشعبية، لاستخدامها اللغة العامية في بعض فقراتها، أو أجزاء من أغان شعبية محلية بالقشتالية أو بالرومية، ولعل هذا ما جعل بعض الكتب العمدة في الأدب تتحفظ في إيرادها، فأبو الحسن علي ابن بسام الشنتريني في «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، يعلن صراحة أنه لن يتعرض لها في مؤلفه «لأن أكثرها على غير أعاريض شعر العرب»، ويعتذر عبد الواحد المراكشي صاحب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» عن إسقاطه الموشحات من كتابه، لأن العادة لم تجر على إيرادها في الكتب المخلدة، على حد تعبيره، واكتفى المقري في «نفح الطيب» وفي «أزهار الرياض»، ولسان الدين ابن الخطيب في «جيش التوشيح» بإثبات مختارات من أشهر الموشحات. وتكلم ابن خلدون في مقدمته، بلسان ابن سعيد وكرر ما أورده هذا الأخير في «المقتطف» عن الموشحات. ومن أهم المصادر التي أفردت صفحات مهمة للحديث عن الموشح وأنواعه وأوزانه «دار الطراز في عمل الموشحات» لابن سناء الملك. ولعل أول الإشكالات المرتبطة بالموشحات، هي إشكالية النشأة، ففي الوقت الذي تجعله أغلب المراجع، أندلسي المنشأ، في القرن التاسع الميلادي، على حكم الأمير عبد الله نتيجة ازدهار الموسيقى والغناء من جهة، ونتيجة تمازج العامية العربية والعامية اللاتينية «الرومانث» من جهة ثانية، ينسبه البعض للمشارقة، اتكاء على موشحة تنسب خطأ للشاعر العباسي عبد الله بن المعتز، وهي موشحة: أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع بينما وردت هذه الموشحة، منسوبة لابن زهر الحفيد (حفيد أبي مروان عبد الملك ابن زهر) في كثير من المصادر الموثوقة، كجيش التوشيح لابن الخطيب، والمغرب لابن سعيد، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة... وتكاد تجمع المصادر على أن واضع الموشحات هو مقدم ابن معافى القبري، نسبة إلى قبرة بلدة قرب قرطبة، وإن اختلفت المصادر أحيانا في التسمية، فابن بسام مثلا يجعله: «محمد بن محمود القبري الضرير» وابن خلدون في المقدمة، وإن نقل عن ابن سعيد يحور الاسم إلى: «مقدم ابن معافر الفريري». ولقد تعددت التفاسير التي أعطيت للموشح، فمن قولهم إنه سمي كذلك من التوشيح بمعنى الوشي والتنميق والتزيين، إلى ربطهم له شكلا بالوشاح الذي تتجمل به المرأة، إلى محاولة تلمس العلاقة بينه وبين ما أورده الكندي في إحدى رسائله الموسيقية، قائلا: «الضفير أو الموشح فهو المبتدئ من نغمة ينتقل منها إلى أخرى، إلى غير ذلك من التفاسير. والموشح عند ابن سناء الملك، في «دار الطراز»: «كلام منظوم على وزن مخصوص، وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له التام، وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له الأقرع» ، فالتام ما ابتدئ فيه بالأقفال، أما الأقرع فما ابتدئ فيه بالأبيات. ويمكننا أن نستنتج من هذا التعريف، ما يلي: على المستوى العروضي، يسجل ابن سناء الملك كون الموشح على وزن مخصوص، ومعلوم أن سمة الموشحات تغير الوزن والقافية. يذكر ابن سناء الملك مصطلحي القفل والبيت، كمكونين رئيسيين للموشح، والقفل يتكون من جزء إلى ثمانية أجزاء بل إلى عشرة أجزاء أحيانا. أما البيت فهو خلاف البيت في القصيدة التقليدية، أي صدر وعجز، وإنما هو مجموعة أشطار تنتهي بقافية متحدة فيما بينها، وحتى يصبح كلامنا ملموسا، سنمثل القفل والبيت، بهذا الجزء من موشحة لابراهيم ابن سهل الإشبيلي، الذي مات غرقا، مع والي سبتة ابن خلاص عام 649 ه، على عهد الموحدين، وهي أول ما ننشده في ميزان قائم ونصف العشاق: أهدى نسيم الصباح مسكا ذكيا وعنبر فاح شذى الخندريس من خد ساقيها تعصر هذا هو القفل، وهو مكون من أربعة أجزاء، ويسمى كل جزء منه غصنا، أما البيت فمكون من أسماط: اليوم يوم أغر كما تراه طليق زهر وظل ونهر وشادن ورحيق وذيل سكر يجر ومنتش لا يفيق ويسمى القفل الأول من الموشحة، بالمطلع أو المذهب، مثال ذلك قول شهاب الدين العزازي، المتوفى عام 710 ه، في موشحة تغنى في ميزان قدام الحجاز الكبير: يا ليلة الوصل وكأس العقار دون استتار علمتماني كيف خلع العذار أما القفل الأخير من الموشحة، فيسمى الخرجة، يقول ابن سناء الملك في دار الطراز: «إبزار الموشح وملحه وسكره ومسكه وعنبره»، ويشترط فيها أن تكون باللفظ العامي أو العجمي، إلا إذا كانت تتعلق بممدوح، أو استعارت بيتا شعريا، أو كانت غزلة جدا، فيجوز أن تكون فصيحة، ومثال الخرجة العامية، قول ابن زهر الحفيد: من خان حبيبو الله حسيبو يعاتبو ويثيبو أما مثال الخرجة الفصيحة، فقول نفس الشاعر، في موشحته المشهورة «أيها الساقي إليك المشتكى»: قد نما حبك وزكا لا تقل في الحب إني مدعي أما الخرجة باللفظ الأعجمي، فمثالها هذه الخرجة ب»الرومانث»، وهي موشحة لأبي بكر ابن بقي، أحد أعلام الوشاحين في العصر المرابطي، توفي سنة 545 ه، يقول: ألب دي إشت دي دي د العنصرة حقا بشتري مو المدبج ونشق الرمح شقا ألبا (Alba) معناه الفجر، إشت بالرومانث هي إست بالقشتالية أي اللغة الإسبانية الرسمية Este، أي اسم الإشارة هذا، دي Dia أي اليوم، العنصرة عيد من أعياد الأندلسيين، بشتري Vestire من الفعل Vestir في المستقبل (el futuro) تعني سألبس، مو Mio تعني لي أي في ملكي، المدبج أي المزين والمنمق، ومعنى هذه الخرجة واضح، أن يوم عيد العنصرة هو يوم سعيد سألبس فيه أحسن الثياب وسأفرح أشد الفرح. (يتبع) أستاذ مادة التراث الموسيقي المغربي بالمركز التربوي الجهوي بالرباط