"ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        توقيع اتفاقية بين المجلس الأعلى للتربية والتكوين ووزارة الانتقال الرقمي    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العطري: المعارضة تهاجم بنكيران لأن الانتخابات صدمتها
الباحث السوسيولوجي ل« المساء »: الشباب ما زال ينتظر تنزيلا حقيقيا للدستور
نشر في المساء يوم 30 - 08 - 2012

في هذا الحوار مع الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري يوضح بأن أهم شيء فعلته حركة 20 فبراير بالنسبة
للدولة أنها دعتها إلى مراجعة الكثير من الأسئلة. وبالنسبة إلى بنكيران فيقول إنه كسر الصورة النمطية للوزير الأول، لافتا الانتباه إلى أنه لا يجوز الاستخفاف بالرجل، فليس من المقبول في حروب السياسة الاستهانة بالخصم. وأكد العطري أن الشباب ما زال ينتظر تنزيلا حقيقيا للدستور، وفتح أوراش التشغيل وإعادة توزيع الثروة، بما يضمن العدالة الاجتماعية لجميع المواطنين.
لماذا بهت، في نظرك، بريق حركة 20 فبراير؟ البعض رأى بأنها صنعت من طرف النظام من أجل جعل التغييرات في المغرب مبررة، ولما تحقق ذلك لم يعد لها مبرر للوجود؟
القول بأن حركة 20 فبراير من صنع النظام فيه الكثير من العسف والتخوين، فلا يمكن القبول به بالمرة، أما الحديث عن حدوث اختراقات، فهذا ممكن، لكن ليس بالصيغة التي يتم تصويرها. علينا أن نعي جيدا بأن ما حدث في المغرب في السنة الفائتة، من دستور جديد وحكومة جديدة يقودها حزب كان مهددا إلى حد قريب بالمنع والطرد من اللعبة السياسية، ساهمت فيه إلى جانب عناصر أخرى، ما أطلق عليه حينها «بركات 20 فبراير».
التساؤل عن شروط إنتاج حركة 20 فبراير يفترض الانتباه إلى ثلاثة محددات على الأقل، المحدد الأول يمكن توصيفه بالشرط الإقليمي، بمعنى أن هذه الحركة لا يمكن فهمها في انفصال تام عما يجري الآن في العالم العربي من الماء إلى الماء. ثمة حراك شعبي، ثمة شارع عربي يقول كلمته اليوم بكل امتلاء، بعدما جزم الكثيرون بأنه انتهى ولم يعد قادرا على الفعل ولا حتى رد الفعل، فالسياق كفيل دوما بإنتاج المعنى، فهذا السياق الإقليمي لابد أن حركة 20 فبراير تأثرت به، في إطار ما يسمى بالعدوى الاحتجاجية. الشرط الثاني المؤسس يظل مفتوحا على المحلي، فهو شرط موضوعي متصل بالشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يمر بها المجتمع المغربي، أي أن هذه الحركة هي «رد فعل» احتجاجي على سوء تدبير الواقع الاجتماعي. كما أنها أيضا نتاج تمثلات وتمثلات مضادة تهم الشباب والسياسة والتنمية والفعل الاحتجاجي عموما. الشرط المؤسس الثالث يظل مرتبطا بالقارة السابعة، أي بالإنترنيت، الذي استحال سلطة خامسة تتأسس في الافتراضي، لكنها تربك حسابات الواقعي، بمعنى أن هذه الحركة الاحتجاجية المرتبطة ب20 فبراير، كان الإنترنيت عاملا مساهما في تقويتها، وفي إبرازها، وفي إنضاجها أيضا. وبالطبع ثمة شروط إنتاج أخرى قد تندغم مع هذه الشروط أو تتوازى معها، منها ما يتصل بتاريخية الفعل السياسي والنقابي بالمغرب، وحركية عدد من الأحزاب التي ظلت أكثر انتصارا للهامش.
- كثيرون راهنوا على انطفاء لهيب زخم الاحتجاجات بالتقدم في الزمن والابتعاد عن زخم الربيع العربي. هل كان ذلك رهانا صائبا أم أن المجتمع المغربي حابل بالكثير من المشاكل التي تجعله دائما على صفيح ساخن؟
إن سقف المطالب بات يرتفع رويدا رويدا، أمام غياب جواب سياسي واجتماعي من قبل الحكومة، و20 فبراير، كما قلنا قبلا، لم تنته بعد، إنها البداية فقط، والدليل على ذلك أنها تمارس الآن نوعا من «الاختراق الاجتماعي» لكافة حساسيات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية، بل العمرية أيضا. الأمر أشبه ما يكون بكرة الثلج التي تأخذ حجما أكبر في طريق تدحرجها، فالمطالب التي بدت محتشمة، ومدعمة بصور الملك والأعلام الوطنية لم تعد كذلك بالأمس القريب، فالطلب الاجتماعي بات مرتفعا، والانضمام إلى سجل الاحتجاج بات سلوكا مجربا من قبل الجميع.
علينا ألا نعتبر بأن حركة 20 فبراير انتهت بميلاد دستور جديد، أو بصعود حكومة جديدة، ما دامت بعض الإجابات السياسية والاجتماعية مؤجلة، وكما كان يقول دائما وزير الداخلية البروسي إن أي حركة احتجاجية مهما كانت بسيطة يكمن فيها تنين الثورة، ولهذا فهذه الحركات البسيطة يمكن أن تفل نظاما من حديد كما فعلت في مصر وتونس، في أجوبة مقنعة، فالشباب ما زال ينتظر تنزيلا حقيقيا للدستور، وفتح أوراش التشغيل وإعادة توزيع الثروة، بما يضمن العدالة الاجتماعية لجميع المواطنين.
- ما هي آثار هذه الحركة على كل من الدولة والأحزاب والمجتمع؟
أكيد هناك آثار دالة ساهمت في تغيير الأداء والانطراح، لكن قبل تحديد هذه الآثار لنكتشف في البدء دلالات الحركة الاحتجاجية، التي يجب أن نميز فيها بين ثلاثة عناصر أساسية، العنصر الأول، وهو ما أسميه عنصر الفعل، أي أن حركة احتجاجية ترمي إلى إحداث فعل يستتبعه رد فعل معين. والفعل الذي ترمي إلى إحداثه حركة 20 فبراير، ومختلف الحركات الاحتجاجية، هو الانتقال من وضع غير مرغوب فيه إلى وضع مرغوب فيه، أي من وضع اللا تنمية أو التنمية المؤجلة والمعطوبة إلى وضع التنمية الإيجابية أو التنمية المواطنة. العنصر الثاني هو التوزيع أو سؤال التوزيع. كل حركة احتجاجية ترنو بالضرورة إلى إعادة توزيع الثروة (المادية والرمزية) من جديد، وإعادة توزيع العوائد بشكل جديد أو ما نعبر عنه في دارجتنا ب «نعاودو التقاسيمة». ولهذا في كل الحركات الاحتجاجية يظهر بشكل واضح مطلب إعادة توزيع الثروة. العنصر الثالث، وهو ما أسميه بالبناء، يفيد بأن أي حركة احتجاجية ترمي إلى إعادة بناء الواقع وإعادة تشكيله وكتابة تاريخ النسق وفق خطاطة جديدة لا تكون فيها فروق شاسعة بين من يملك ومن لا يملك. هذه العناصر الثلاثة: الفعل، البناء والتوزيع سوف نجدها حاضرة في هذه الحركة، وهذا الحضور الثلاثي يكون له تأثير على أداء من تتوجه إليه الحركة بالاحتجاج، والدولة بالطبع هي أول متأثر بهذه الدينامية، فالدولة التي اطمأنت طويلا إلى كل الأمثلة التي كانت تتردد بصددها، والتي تبرز وتبرر قوتها وتحكمها في كافة تضاريس المجتمع من قبيل «يد المخزن طويلة»، و«المخزن قاد بشغالو»، و «اللي قالها المخزن هي اللي كاينة»...، هذه الترسيمات، التي ترسبت في المخيال الاجتماعي عن الدولة، ربما هي التي منحتها نوعا من الاستئساد ونوعا من التضخم الدولتي الهوياتي. إذن الدولة اليوم صارت في وضعية حرجة، إذ بدأت ترى بأن رموزها التي كانت تستند إليها أصبحت كرامتها تمرغ في تراب الاحتجاجات، يعني بدأت تثار لديها أسئلة وجودية بصدد قوتها.
- أمام هذا نتساءل اليوم هل ما زال «المخزن قاد بشغالو»؟ أم أننا انتقلنا من سجل دولة التدخل إلى سجل دولة التخلي؟
أعتقد أن أهم شيء فعلته حركة 20 فبراير بالنسبة للدولة أنها دعتها إلى مراجعة الكثير من الأسئلة التي تساهم في إنتاج التضخم الدولتي. إذن المشكل هنا هو تغيير القناعات والتمثلات حول الذات وحول الآخر، فهذا الشباب الذي كنا نعتقد بأنه طلق السياسة، وأنه لا هم له إلا وضع قرط في أذنه أو اللهاث وراء أخبار ودلع شاكيرا، هذا الشباب أصبح يغير قواعد اللعب ويربك الكثير من الحسابات. هذا درس آخر أعطته هذه الحركة للدولة. أما على مستوى الأحزاب، فهذه الحركات الاحتجاجية جعلت الأحزاب تغير أداءها وفرضت عليها أن ترفع من سقف مطالبها، فالأحزاب التي لم تكن قادرة على فتح أفواهها إلا في عيادة أطباء الأسنان، أصبحت اليوم تطالب بملكية برلمانية، وأصبح زعيم حزب إداري يقول إن الملك يجب أن يسود ولا يحكم، كما أصبح قياديون وباحثون يوقعون وثيقة ترفض الطريقة التي يتم بها حفل الولاء. هذه الحركة فرضت إيقاعا متقدما على الأحزاب، جعلها تغير أداءها، وجعلها في كثير من الأحيان تغير حتى تمثلها ورؤيتها للشباب. هذا الشباب ليس عازفا عن السياسة، ولكنه يمارسها بصيغة وطريقة أخرى. كما أن هذه الحركة فرضت على المجتمع المدني أن يغير من آليات اشتغاله، كما فرضت عليه إيقاعا يدعوه إلى الانتقال من اللا فعل إلى الفعل، وإلى الخروج من الانتظارية القاتلة إلى المبادرة.
- بعد مرور أكثر من 200 يوم على قيادة بنكيران للحكومة، كيف تقرأ خطاباته ومن خلالها تعهدات الحزب ووعوده للجماهير التي صوتت له؟
كتب الباحث العميق محمد الناجي يوما مقالا دالا يدعو فيه إلى عدم الاستخفاف بالرجل، فبنكيران سياسي ألمعي، يعرف جيدا كيف يمارس السياسة، وكيف «يلعبها» أساسا في ظل مجتمع تنتشر فيه الثقافة الشفاهية، ويولي أهمية قصوى للقول لا للمكتوب، فبنكيران من السياسيين القلائل الذين يعرفون جيدا كيف يشتغلون على هذه القيم المميزة للمجتمع المغربي.
طبعا المعارضة التي فرض عليها وضع المعارضة لم تستطع بعد استيعاب صدمة الانتخابات، ولهذا تصعد من خطابها ضد بنكيران وتتهمه بالشعبوية.
أولا، لا يمكن تقييم عمل أي حكومة من خلال مرور 100 أو 200 أو حتى 300 يوم، إن هي إلا «موضات إعلامية» اخترعتها ماكينة الإعلام لتبرير سعيها وراء الخبر.
من المؤكد أن بنكيران كسر الصورة النمطية للوزير الأول، فلم نعهد وزيرا أول يخاطب الناس في التلفزيون، فوحده الملك من كان يخاطب المواطنين. كما لم نعهد وزيرا أول يرد بقوة على منتقديه، ويتخذ قرارات لم يقدر على اتخاذها أي من سابقيه ويدافع عنها مباشرة، فقرار الزيادة في البترول كان مبرمجا منذ الحكومة السابقة، لكن لا أحد لم يكن يود المغامرة، لكن هذه الجرأة لا تلغي فشل الرجل أحيانا في تبرير خطابه وأسلوبه التواصلي، فالمشكلة الحقيقية التي تواجهه هي أن مساحة الاشتغال المرسومة له ضيقة جدا، ولا يمكنه أن يملأها كليا، فثمة مصالح، وثمة ممارسات متجذرة، لا يمكن الانتهاء منها بصعود بنكيران أو غيره. لهذا كله أضم صوتي إلى محمد الناجي وأقول: لا تستخفوا بالرجل. فليس من المقبول في حروب السياسة الاستهانة بالخصم، كيفما كان هذا الخصم.
- هل من الممكن الحديث عن طبقة وسطى في المجتمع المغربي، بإمكانها إحداث التغيير المطلوب؟
كثيرا ما توصف الطبقة الوسطى بكونها «صمام أمان» المجتمع، بالنظر إلى دورها الرئيس في حفظ التوازن المجتمعي، وإسهامها المباشر في النقاش الحواري التعددي، بسبب تموقعها في وضع بيني يشكل جسر عبور اجتماعي، فملامحها السوسيو اقتصادية والثقافية تسمح لها بأن تكون فاعلة في صياغة الحال والمآل المجتمعي، ولهذا كانت هذه الطبقة تحسم كثيرا من النتائج في لحظات من التاريخ السياسي للوطن العربي، فحركات التحرر و الاستقلال كانت ممهورة بتوقيع منتسبي هذه الطبقة في أكثر من بلاد عربية، كما أن عمليات التغيير السياسي والاجتماعي، في شكل ثورات وحركات ثقافية تنويرية، كانت أيضا من صنعهم.لكن مع استلهام الدرس الكولونيالي واستراتجيات التهميش، التي يجيدها صناع القرار العربي، باتت الطبقة الوسطى تتعرض للتآكل والانمحاء، قبل أن تنتهي من ممارسة أدوارها الطبيعية، وتصير منشغلة ب«قلق اليومي» و«سلطة الخبز» كما الطبقة الدنيا. فالأستاذ الجامعي مثلا، الذي كان محسوبا إلى حد قريب على الطبقة الوسطى، بات اليوم مصنفا ضمن خانة «المهددين بالفقر»، أو في أحسن الأحوال في أسفل تراتبية الطبقة الوسطى، وهذا يعني أن نزيفا متواصلا يحدث في التشكيلات الاجتماعية، خصوصا في ظل تداعيات الأزمة المالية العالمية، مضافا إليها سوء الأحوال السياسية وتدهور الظروف المعيشية. فالفئات التي كانت إلى حد قريب تصنف ضمن الطبقة الوسطى بدأت تفقد مواقعها الطبيعية يوما بعد آخر، ليس فقط في المغرب فقط، بل حتى في الضفاف الأخرى.ولهذا يفهم كيف أن السؤال الاجتماعي كان، وسيظل، من أكبر الأسئلة التي تؤرق بال الفاعل السياسي. إنه سؤال مفتوح على كل الرهانات، ومفتاح لكل الاحتمالات، واعتباره رقما أساسا في معادلات التحرك والاشتغال أمر لا مندوحة عنه، فكل مكونات النسق السياسي تراهن على «الاجتماعي»، وتجعله الهدف الأقصى لممارساتها وخطاباتها.
- هل باتت الدولة تتخلى عن كثير من نفوذها وسلطتها لفائدة فاعلين آخرين؟ هل انتقلنا من دولة التدخل إلى دولة التخلي؟
إن تعميق نفوذ تدخل الدولة يتأسس على التخريج التالي: «الدولة يفترض فيها أن تنهض بكل شيء». إن معطى النفوذ هذا كان من أبرز نتائجه عسر الانتقال من المخزن إلى الدولة، أي من التقليد إلى العقلانية، ومن مجتمع الرعايا إلى مجتمع المواطنين. كما أنه جعل الدولة ذاتها «تطمئن» لصورتها المعطاء التدخلية في كل شيء، وهو يعد سببا رئيسا وراء انبناء تصورات سلبية عنها، تمنع الأفراد والجماعات من المبادرة والفعل خارج التوجيه الدولتي.
إن خطاب الدولة ينتقل اليوم من الانتصار للدولة التدخلية إلى الدولة المتخلية، وهو ما يلوح في جملة من المشاريع التنموية، التي تجعل من المقاربة التشاركية سندا لها، لكن التصورات المنغرسة في أعماق القرويين وغيرهم من الحضريين عن الدولة القادرة على فعل كل شيء، كانت سببا رئيسا وراء فشل كثير من المشاريع في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
طبعا كان هذا الانتقال من دولة التدخل إلى دولة التخلي، وفي كثير من ملامحه، تنفيذا مباشرا لتعليمات البنك الدولي وتحديدا مع سياسة التقويم الهيكلي واستكمالا مباشرا لنفس التعليمات مع تنفيذ مخطط الخوصصة، الذي تخلت بسببه الدولة عن أهم المؤسسات وأكثرها ربحية. وفي نفس السياق يأتي التدبير المفوض كصيغة جديدة لمشاريع التخلي وتفويت اختصاصات الدولة لفائدة المعمرين الجدد، أو ما يصطلح عليهم الآن بأقوياء «حزب فرنسا» المغربي، الذين باتوا يسيطرون على تدبير النقل والماء و الكهرباء والتطهير السائل والنظافة والاتصالات ومواقف السيارات، دون أن تكون للدولة القدرة على الاحتجاج على إخلالهم بمقتضيات دفاتر التحملات.
يمكن اعتبار التراجع عن مجانية كثير من الخدمات التي يقدمها المرفق العمومي على درب تجذير وتبرير دولة التخلي، تماما كما هو الأمر بالنسبة للخدمات الصحية، التي لم تعد بالمجان بالمرة. وعليه فإن «ارتفاع الطلب الاجتماعي وتنامي السلوك الاحتجاجي» يظل العنوان البارز لمغرب الهشاشة، فبؤر التوتر والاختلال تلوح في أكثر من مناسبة و على أكثر من صعيد، في تأشير دال وقوي على التهاب الاحتقان المجتمعي، فأرقام البطالة تستمر في الارتفاع، والموت في مقبرة المتوسط تظل أخباره الحدث الأبرز بصورة يومية، وفوق ذلك كله فدوائر الفقر والفاقة والتهميش، المنتجة بامتياز لكل بواعث الخلل والجنوح تواصل اتساعها على حساب حق المواطن في العيش الكريم.
- انسحاب الدولة هل يهم جميع القطاعات؟
علينا أن نعترف بأن التخلي كخيار جديد لا يهم كل القطاعات، بل يهم التدبير التنموي فقط، أما ما يتعلق بالتدبير السياسد ي والأمني، فإن الدولة ماضية في خيارات التدخل والمخزنة، وهذا يبدو جليا في الوقت الذي أسندت فيه إدارة التراب الوطني إلى وزارة البيئة والسكنى والماء مع محمد اليازغي، فبالرغم من تنظيمه آنئذ حوارا وطنيا حول المجال الترابي المغربي، فإن هذا القطاع ظل شأنا خالصا لوزارة الداخلية، ولم يكن لتفرط فيه يوما، بالرغم من «قسم» تجربة التناوب.
فهل يقود تسجيل معطى الانسحاب الدولتي من مسؤولية تدبير الشأن الاجتماعي و إنتاج الرفاه والاكتفاء بدور المتفرج (حالة غرق الدار البيضاء مؤخرا، ولا قدرة الدولة على توجيه اللوم لشركات التدبير المفوض)، هل يقود هذا الوضع الملتبس إلى استعادة ما أنتجه إدمون عمران المالح قبلا بصدد الدولة، وهو يقول: «لا وجود للدولة، إذن، في المنطلق في شكلها المؤسسي، لكن هناك زمرة اجتماعية ذات بنية محددة مع صلاحيات سلطوية لا تقل عنها تحديدا ولها تمثلات دينية معينة أيضا. إن للوضعية قيمة النموذج بعيدا عن النظام المرجعي المغربي. وهو بالتالي نموذج مجتمع بدون دولة، بل ضد الدولة»؟؟. فهل المخزن ما زال «قاد بشغالو»، خصوصا مع انكتاب نص «الانتقال من دولة التدخل إلى دولة التخلي»؟


«تسونامي الإفتاء» مهووس بالجسد ومتبرم من السياسة
- ما رأيك في الفتاوى التي بات يطلقها البعض بخصوص الحريات الفردية للأفراد وخطرها على المجتمع والديمقراطية وحرية التعبير؟
ما أثاره رضوان السيد في كتابه «الصراع على الإسلام» ينطبق، إلى حد بعيد، على الحالة الدينية بالمغرب، وإن كان الصراع في هذا الهنا والآن يتخذ طابعا آخر سمته ومحوره «الصراع على أنماط التدين»، فالكل راغب في «الكلام» باسم الدين، والكل معتقد بأن شمس الحقيقة تشرق من جبينه هو. في ظل هذا السياق ظهر ما أسميه «تسونامي الإفتاء»، وهو انفجار إفتائي لا يهم المغرب وحده، فالصراع على أنماط التدين أنتج الكثير من المفتين والدعاة والحركات الدينية، التي ترى في أطروحاتها «المنقذ من الضلال». إلا أن ما يميز «تسونامي الإفتاء» هو تركيزه على الجسد والجنس والمرأة، وتبرمه كثيرا من الإفتاء في السياسي وما يتصل أساسا بمصالح مالكي وسائل الإنتاج والإكراه. ما يميز هذه الفوضى الإفتائية أيضا هو السرعة والتسويق، فنحن أمام فتاوى شبيهة بالأكلات السريعة، علما بأن الفتوى في الثقافة الإسلامية، كما الأطعمة الجيدة، تنضج على نار هادئة، وتستوجب بحثا و استقصاء لآراء فاعلين من حساسيات متعددة، دونما ادعاء في الختام بمطلقيتها، إذ يختم المفتي دوما عبارته الشهيرة «هذا ما بلغه علم الحقير الفقير إلى الله فلان بن فلان والله أعلم». أما اليوم فالمفتي بات يؤسس لنفسه سلطة فوق السلط، ويتوفر على موقع إلكتروني يطلق فيه على نفسه ما شاء من توصيفات العلامة والفهامة، علما بأن المتخصصين في كتابة وفيات الأعلام هم من يجوز لهم إطلاق ذلك، لكن مفتينا لا يترددون في توشيح أنفسهم بأنفسهم بهذه التوصيفات.
يمكن القول بأن ما يعرفه الأفراد من إحباطات واقعية يدفع باتجاه الهجرة إلى السماء، فعندما تغيب العدالة عن الأرض ولا يتحقق في الواقع ما نحلم به تتواتر الهجرة إلى مساحات أخرى، تكون السماء، بما تحيل عليه من تدين، بديلا عن الواقع المفترى عليه، و هذا ما يبرر الإقبال على طلب خدمات الإفتاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.