هم مهووسون بمتابعة القضايا المعروضة على المحاكم، دون أن يكونوا أطرافا فيها، جعلوا من قاعات الجلسات متنفسا لهم، وأصبحوا مدمنين على متابعة ملفات المتقاضين... ترددهم على المحاكم أكسبهم تجارب في الحياة من خلال الاطلاع على مشاكل المجتمع المغربي، وتشكل قضايا الاغتصاب والفساد والدعارة الملفات الأكثر متابعة من قبل المترددين على المحاكم. هم أناس بسطاء تبدو على وجوههم الهشاشة الاجتماعية، ليسوا أطرافا في الملفات المعروضة على القضاء ولا تربطهم علاقة بها، يخصصون أوقاتا من حياتهم للتردد على قاعات المحاكم، لا لشيء سوى لمتابعة أطوار الجلسات المثيرة، حتى أصبحوا مهووسين بالاطلاع على مشاكل الناس وهمومهم داخل المحاكم، ودفعهم هذا الهوس إلى ترك أشغالهم والحضور إلى المحكمة. قاعات الجلسات بدت في الساعات الأولى شبه فارغة من عائلات المتقاضين بالمحكمة الابتدائية في سلا، كان سعيد (50 سنة)، يجلس بمقهى قرب المحكمة بشارع عبد الكريم الخطابي بسلا، وعينه على ساعته اليدوية، إذ كان يتأهب لدخول قاعة الغرفة الجنحية، قصد متابعة ملف قضائي يتعلق بالشعوذة، أدمن هذا الرجل الخمسيني منذ 10 سنوات على التردد باستمرار على المحكمة الابتدائية، وأصبح يخصص جزءا من وقته للتوجه إلى قاعات الجلسات كلما أخبره أصدقاؤه بوجود ملف مثير يروج داخل ردهات المحكمة. أدمن سعيد على متابعة طرق ارتكاب الجرائم وقضايا النصب والاحتيال والسرقة والقتل والاغتصاب والفساد... «أصبحت مهووسا بمتابعة قضايا كثيرة لأن مشاكل المجتمع المغربي لا يمكن أن يعرفها الإنسان إلا من خلال المحاكم» يقول سعيد، الذي يرى أن إدمانه على متابعة القضايا أكسبه خبرة في حياته، بحيث أصبح ملما بجميع مشاكل المواطنين، وأصبح على دراية بمعطيات خطيرة حول أسرار المجتمع المغربي من خلال القضايا والنزاعات التي تنظر فيها المحاكم. مهووس بطرق النصب علميات النصب والاحتيال المثيرة التي تسقط الضحايا في الفخ، تدفع بالمترددين على المحاكم إلى اكتشاف طرق خطيرة وملتوية، سعيد سبق أن تعرض في سنة 2000 إلى عملية نصب فريدة، جعلت منه مدمنا على متابعة القضايا المعروضة على المحاكم، يحكي سعيد أنه عندما رغب في شراء قطعة أرضية بمنطقة بولقنادل بضواحي سلا، كان جالسا في مقهى شعبي، فقصده «النصاب» وعرض عليه قطعة أرضية للبيع بثمن منخفض، فوافق على شراء القطعة الأرضية. وبعد تسليمه المبلغ المالي إلى «النصاب» اكتشف صدفة أن المالك الحقيقي للقطعة الأرضية يتطابق اسمه مع اسم المتهم بالنصب، فاتضح لسعيد وقوعه ضحية نصب واحتيال، وسجل شكاية لدى وكيل الملك بسلا. المثير في القضية أن سعيد اكتشف ضحايا آخرين إلى جانبه في المحكمة، فتابع أطوار محاكمة المتهم النصاب، وخلال حضوره اطلع على وقائع قضايا أخرى معروضة على المحكمة في جرائم أخرى، كما استمع إلى وقائع طريفة مكنت هذا المحتال من جلب مبالغ مالية أثرت في نفسية سعيد الذي خسر الملف المعروض على القضاء، بحجة عدم وجود شهود في الملف، فكانت متابعته لهذا الملف دافعه للتردد على المحاكم ومتابعة أطوار الجلسات بعد الخيبة والفشل في استرجاع حقوقه، حتى أصبح شخصا يعلم بالكثير من الخبايا والأسرار المرتبطة بوقائع المجتمع. الآثار النفسية التي تتركها وقائع المحاكمات على المتقاضين، تساهم في دفع المهووسين غلى حضور أطوار الجلسات، ويرى المحامي عمر غفران من هيئة الرباط، أن المهووسين بمتابعة المحاكم، غالبا ما يبتلون بهذا المرض، حينما يخسرون ملفاتهم المعروضة على القضاء، حيث تصبح المحاكم متنفسا لهم ويكسبون خبرة في التقاضي، «تجدهم يحملون ملفات قديمة بين أيديهم ويترددون على مكتب وكيل الملك على الرغم من أنهم فقدوا الأمل في الأحكام التي صدرت في ملفاتهم» يقول غفران، ويعتبر المتحدث ذاته أن العديد من المترددين على المحاكم غالبا ما يصطدمون بوقائع تكون غير منتظرة في حياتهم. حالات الاغتصاب على رأس القائمة لايزال الاغتصاب يعتبر من «الطابوهات» وسط المجتمع المغربي، وغالبا ما تثير مثل هذه القضية جدلا وسط الأسر المغربية، بين مؤيد لإحالة ملف الاغتصاب على القضاء وراغب في التستر عليه لعدم جلب العار لشرف العائلة، وحل المشكل بطريقة ودية دون الوصول إلى القضاء. أحمد واحد من المهووسين بمتابعة قضايا الاغتصاب بغرفة الجنايات الابتدائية بالرباط، يخصص جزءا من وقته لمتابعة مثل هذه الملفات، أدمن أحمد هو أيضا منذ خمس سنوات على متابعة مثل هذه القضايا، «لا بد من أن يعرف أي مواطن أسباب الاغتصاب في بلادنا». يحكي أحمد أن قضايا الاغتصاب والقتل تكون من ورائها دروس يكتسبها الإنسان في حياته، حيث يعتبرها هذا المهووس بمثابة عبرة في الحياة. المحامي غفران يعتبر أن الاغتصاب لا يزال فعلا من الطابوهات في بلادنا، ومعرفة طرق وقوعه ووصوله إلى ردهات المحاكم تثير شهية المهووسين بمتابعته، وخصوصا إذا كان المتردد على المحكمة سبق أن خسرت عائلته مثل هذه الملفات. أحمد يبدو من كلامه أنه اكتسب خبرة كبيرة في ملفات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، ويقول إن هذه الملفات يتابعها المحامون والموظفون والصحافيون داخل المحاكم، خصوصا إذا ارتبطت بقضايا الدعارة والفساد، «أسرار مثيرة تكون وراء هذه الملفات» يقول أحمد الذي ينتابه شغف كبير بمتابعة أطوار القضايا المتعلقة بالفساد. علي شعباني، الباحث في علم الاجتماع، يرى أن التردد على ملفات الدعارة والقضايا المرتبطة بالأخلاق، تبقى مرتبطة بالمجتمع المغربي الذي لا يزال يعيش على القمع الجنسي، وهو ما يتسبب برأيه في «كبت» وسط المهووسين، فالتردد بكثافة يعزوه الباحث في علم الاجتماع إلى قضايا تثير فضول المترددين على قاعة جلسات المحاكم، ويجده المهووس وسيلة لتفريغ أهوائه من خلال الاطلاع على بعض الأسرار في هذه الملفات. متابعة الجلسات... تحقيق للمتعة فتح رئيس الجلسة بغرفة الجنايات الابتدائية، ملفين يتعلقان بالاغتصاب والدعارة، وحينما نادى على أصحاب الملفات، عم الصمت القاعة، فبدأت الأسئلة تتقاطر على المتهمين والضحايا في الملف، بينما ركز المهووسون نظرهم على وجوه المتقاضين، للاستماع إلى طرق الاستدراج والاغتصاب وممارسة الدعارة، فبدا على وجوه المترددين على قاعة الجلسة تحقيق نوع من المتعة من خلال تفاصيل المتابعة. أحمد يعتبر أن مواجهة المتقاضين تدفع بهم إلى قول الحقيقة أمام القضاة، خصوصا في القضايا المرتبطة بالدعارة والفساد، «أرتاح نفسيا حينما أكتشف الحقيقة المعروضة على القضاء» يقول أحمد، الذي وجد في تفاصيل المتابعات القضائية فرصة للترويح عن نفسه. شعباني يرى أن متابعة الملفات المرتبطة بالأخلاق تحقق لأصحابها نشوة واستمتاعا يكون من ورائه تفريغ المكبوتات بالنسبة إلى المهووسين، حيث يقتنعون بوقائع مثيرة شكلت لهم عقدا في مسار حياتهم، وهو ما يدفعهم إلى متابعة مثل هذه الملفات المثيرة، كما يدفع الفضول المهووسين إلى الاطلاع على التجارب الشخصية للمتهمين بالاعتداءات الجنسية. خبرة مهمة في الميدان متابعة القضايا المعروضة على المحاكم باستمرار، تكسب المهووسين تجارب فريدة في حياتهم، حيث يصبح هؤلاء على دراية كبيرة بخبايا المجتمع المغربي، فسعيد يرى أن تردده على المحاكم أكسبه الكثير من أسرار الحياة، حيث اطلع على الكثير من الأسباب التي تدفع بالمواطنين إلى ارتكاب الجرائم المختلفة، حالة سعيد تشبه إلى حد كبير حالة أحمد، الذي أصبح بفضل متاعته للقضايا المعروفة يصدر أحكاما مسبقة قبل النطق بالحكم من قبل القضاة، بعدما اطلع على قضايا تتوفر على قواسم مشتركة، فأصبحت طريقته في الوصول إلى مآل الملف سهلة. «المهووسون أصبحت لهم خبرة كالمحامين» يقول المحامي غفران، الذي يرى أن المترددين على المحاكم أصبحت لهم خبرة بعدد من الأسرار المرتبطة بالقضاء والمحاماة، بل أصبح منهم من يمارس مهنة السمسرة داخل المحاكم بحكم ارتباطه اليومي بالقضايا المعروضة على الغرف واحتكاكه بالمواطنين. أحمد أصبح قادرا على إصدار الأحكام المسبقة قبل النطق بالحكم، «خاصني نشوف غير المحضر والاعترافات والسوابق القضائية نحكملك قبل ما يمشي الملف لعند الوكيل» يحكي أحمد بفخر عن مسار تجربته التي بفضلها أصبح على دراية كبيرة بوقائع الجرائم المختلفة، ولم يخف أحمد تقديم بعض الاستشارات التقنية لفائدة المتقاضين في حالة طلبها، حيث أصبح يلقب ب«المحامي المتمرن» من قبل معارفه على الرغم من عدم دراسته للقانون. المهووسون بالتردد على المحاكم، يصبحون بمثابة مرجع في العبر والتجارب، بحيث تمنحهم هذه الخبرة فوائد في مسارهم الحياتي، «من خلال تجربتي في الميدان أعتقد أنه لا يمكن أن أتورط في القضايا المعروفة» يقول سعيد، الذي يعتبر أن تردده على قاعات الجلسات منحه ثقة في نفسه، وأصبح متيقنا من أن الإقدام على ارتكاب أي فعل جرمي أو جنحي يكون من نتائجه الندم، ويحكي سعيد أنه يحاول دائما تحاشي الدخول مع عدد من الأشخاص في ملاسنات، بعدما أدرك أن القانون الجنائي لا يحمي المغفلين. للطلبة والباحثين نصيب من الهوس المحاكم لا تستقبل فقط المهووسين بمتابعة قضايا الإجرام، بل أصبحت تستقطب عددا من الطلبة والباحثين الحقوقيين، شبان دفعتهم الرغبة في ممارسة المحاماة أو القضاء مستقبلا بعد إنهاء دراستهم، إلى اختيار أوقات محددة لزيارة قاعات المحاكم لكسب التجربة الميدانية. سعاد واحدة من الطالبات التي رسمت صورة إيجابية عن مهنة المحاماة، وأصبحت أكثر ترددا على المحاكم بعدما اشتغلت كاتبة لمحام من هيئة الرباط، «متابعة الوقائع في المحاكم أسهل طريقة لكسب مهنة المستقبل» تقول سعاد التي بدت واثقة من نفسها، مضيفة أن حضور قاعات الجلسات يوفر لها تجربة غنية في البحث العلمي. الباحث شعباني يعتبر أن حضور جلسات المحاكم يشكل فرصة للباحث الجامعي لكسب المزيد من المهارات، بحيث يتضح برأيه أن الكثير من المفاهيم تظل نظرية داخل رفوف الجامعة، وبالنسبة لاحتكاك الطالب بالمحامي والقاضي والمتقاضي يكون بمثابة حلقة ميدانية وسط المحكمة. كثيرة هي الأسباب التي تدفع الباحثين إلى التردد على المحاكم، تكون من ورائها، حسب شعباني، الرغبة في كسب المعارف لاستغلالها في مسار حياة الطالب.
حركات: هناك أنواع متعددة من الهوس قال أبوبكر حركات، الطبيب النفساني إن هناك أنواعا متعددة من مرض الهوس، الذي يعتبره بمثابة إدمان شخص على متابعة أو ممارسة قضايا معينة، حيث يعتبر في تصريحه ل«المساء» أن المهووسين بزيارة المحاكم غالبا ما يدمنون التردد على قاعات الجلسات، بعدما يكونوا قد تابعوا ملفات لعائلاتهم أو أصدقائهم، حيث يعد المهووس في نظر حركات باحثا عن العبر والتجارب في الحياة. وأوضح حركات أن كل مواطن مهووس، حيث تجد من يقضي ساعات طوال في المقاهي أو الفضاءات قصد الحصول على الراحة، بينما يجد المهووس راحته داخل قاعات المحاكم ومتابعة القضايا المختلفة من جنح وجنايات. ويؤكد حركات أن المهووس بالمحاكم في حالة غيابه عن هذا الفضاء، يصاب باضطراب نفساني وتصبح حالته بمثابة مرض نفسي، لا يمكن أن يتخلص منه إلا بتردده على المحكمة لأن نفسيته تبقى ناقصة إذا لم يستمتع بتصريحات المتقاضين في شأن القضايا المعروضة على المحكمة، ويبقى من الضروري أن يفرغ المهووس إحساسه داخل المحكمة. ويرى المتحدث ذاته أن الرياضي أو المسرحي أو المغني، يحس أيضا بالهوس إن لم يفرغ ما بجعبته داخل الفضاءات المعينة، فيكون عليه ممارسة هوايته للتقليل من حدوث اضطرابات نفسية.