«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين إياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم, محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق... فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية»... هو فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الابن الثالث للملك عبد العزيز بعد تركي وسعود والحاكم الخامس عشر من آل سعود، والثالث في الدولة السعودية الحديثة الذي تمت مبايعته ملكا للممكلة العربية السعودية في يوم الاثنين (27 جمادى الآخرة 1384) الموافق للثاني من نوفمبر 1964 بعد أن قررت الأسرة السعودية الحاكمة خلع وإزالة الملك سعود عن الحكم نتيجة سياساته القريبة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ليستمر حكمه أحد عشر عاما تقريبا، قبل أن يتم اغتياله من طرف ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود في الخامس والعشرين من مارس 1975. ولد الملك فيصل في مدينة الرياض بدايات العام 1906 ليتربى بعد ذلك في بيت جديه لأمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ التميمي وهيا بنت عبد الرحمن آل مقبل التميمي، حيث تلقى على يديهما العلم ومبادئ السياسة بعد وفاة والدته، قبل أن يدخله والده الملك عبد العزيز في حقل السياسة وهو لا يزال في سن مبكرة حين أرسله إلى زيارات خاصة لبريطانيا وفرنسا نهاية الحرب العالمية الأولى وعمره لا يتجاوز وقتها 14 سنة. المائدة المستديرة بدأ فيصل بتلقي مبادئ السياسة وأفكارها بشكل ملفت للغاية لدرجة أن والده الملك عبد العزيز كلفه بقيادة وفد المملكة إلى مؤتمر لندن عام 1939 (الذي انعقد للنظر في مجريات الأحداث على القضية الفلسطينية نظرا لتزايد الهجرة اليهودية وتهجير السكان الفلسطينيين بالقوة) كرئيس وفد المملكة والمتحدث باسمها في ذلك المؤتمر الذي أطلق عليه مؤتمر المائدة المستديرة. كما ترأس كذلك وفد المملكة إلى مؤتمر الأممالمتحدة الذي عقد يوم 25 أبريل 1945م في مدينة سان فرانسيسكو، بناء على الدعوة التي تلقاها الملك عبد العزيز من دول الحلفاء الكبرى لحضور هذا المؤتمر، والذي وقع من خلاله باسم المملكة على تصريح الأممالمتحدة باسم بلاده ليوقع بعدئذ على ميثاق هيئة الأمم الذي انعقد في 26 يونيو 1945. اكتسب الأمير فيصل شخصية قيادية صلبة وقوية فرضت احترامها على الجميع ممن حوله، الشيء الذي مكنه من اكتساب ثقة والده الملك عبد العزيز الذي أوكل إليه مهام بارزة في المملكة، فبعد قيادته لجيش النصر في الحجاز وتقليده لمقاليد الإمارة فيها سنة 1926، أوكل إليه مهمة رئاسة مجلس الشورى عام 1927 ثم المشاركة في الحرب السعودية اليمنية عام 1934 بعد أن كان قد تولى منصب وزارة الخارجية في عام 1930 ذلك المنصب الذي بقي فيه حتى لحظة اغتياله العام 1975. فلسطين في الواجهة شغلت قضية فلسطين العربية والإسلامية بال الأمير فيصل منذ بداية توليه المناصب الحكومية، وتحديدا بعد توليه منصب وزارة الخارجية عام 1930، إثر مناظر النهب والدمار والتقتيل والتهجير التي كانت تقوم بها عصابات «الهاجاناة» الصهيونية تجاه الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية، وقرر فيصل زيارة القدس التي كانت حينها تحت السيادة الأردنية بعد حرب 1948 وصلى بها وفي مسجدها الأقصى رفقة الملك حسين بن طلال آنذاك حيث قال حينها «إن الأكباد تنفطر وإن الجوانح لتتمزق حين نسمع أو نرى إخوة لنا في الدين وفي الوطن وفي الدم تنتهك حرماتهم، يشردون وينكل بهم يوميا لا لشيء ارتكبوه ولا لاعتداء اعتدوه وإنما لحب البقاء والحفاظ على أرضهم وعرضهم وشرفهم ومقدساتهم أمام عدو هدفه السيطرة والعدوان والظلم»، مؤكدا في نفس الوقت على نيته زيارة القدس مرة أخرى بعد تحريرها من الصهاينة والصلاة بمسجدها الأقصى بعد تهديده بإغلاق جميع آبار النفط إذا لم تعد القدس للمسلمين قائلا: «نعاهد أنفسنا على أن نكون بحول الله وقوته خدما بشريعة الله للداعين إلى الله متعاونين مع كل إخواننا المسلمين في أقطار الأرض بما فيه نصرة هذا الدين وتحكيم شرع الله وخدمة شعوبنا بل ونشر العدالة في العالم أجمع، نحن ماضون بحول الله وقوته في سبيله ولن يثنينا عن هذا الدين وعن هذه الدعوة لا قول ولا عمل، فالذي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدام المسلمين وأن يؤيدهم بنصر من عنده وأن يوفقهم لاتباع كتابه وسنة رسوله وأن يهد من زاغ أو ظل أو اشتبه». فيصل.. بين المؤامرة والثأر بدأت سياسة الملك فيصل (الذي تولى الحكم بعد تنحية أخيه سعود في العام 1964) التي أنشأها على أساس عدد من الثوابت الوطنية والقومية كحماية واستقلال وهوية البلد والاحتفاظ بميثاق جامعة الدول العربية والدفاع عن التضامن الإسلامي والدفاع عن فلسطين ومقدساتها، عبر المطالبة بإنشاء مؤسسة تشمل العالم الإسلامي كله والتي نجح في تحقيقها تحت مسمى «منظمة المؤتمر الإسلامي» في 25/09/ 1969 (بعد حريق الأقصى الشهير)، في العاصمة المغربية الرباط (تتخذ الآن من جدة مقرا لها وتضم في عضويتها 57 دولة)، واستطاع من خلالها قطع علاقات أكثر من 42 دولة مع (إسرائيل)، وقطع إمدادات النفط للدول الغربية، الشيء الذي أثار حفيظة الغرب الذي هدد باحتلال منابع البترول بالقوة فكان منه أن رد عليهم في رسالته الشهيرة إلى الرئيس الأمريكي التي تسلمها وزير الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كيسنجر قائلا: «حضرة رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية.. هل ترى هذه الأشجار.. لقد عاش آبائي وأجدادي مئات السنين على ثمارها، ونحن مستعدون أن نعود للخيام ونعيش مثلهم، ونستغني عن البترول، إذا استمر الأقوياء وأنتم في طليعتهم في مساعدة عدونا علينا، نحن كنا ولا نزال بدوا، وكنا نعيش في الخيام وغذاؤنا التمر والماء فقط، ونحن مستعدون للعودة إلى ما كنا عليه.... أما أنتم الغربيون المتصهينون فهل تستطيعون أن تعيشوا بدون نفط؟ فلا شيء لدينا لنخافه؟ هل نخشى الموت؟ وهل هناك موت أفضل وأكرم من أن يموت الإنسان مجاهدا في سبيل الله ؟ أسأل الله سبحانه أن يكتب لي الموت شهيدا في سبيل الله، نحن ليست لنا أية مطامع أو أية أغراض في أي بلد من بلاد إخواننا المجاورين مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وكل ما نهدف إليه هو أن نتعاون مع إخواننا في سبيل مصلحة أمتنا ووطننا أما سياستنا تجاه الدول الأخرى فهي سياسة التعاون في السبيل الخير والسلام للعالم أجمع، فالدعوة الإسلامية حينما انبثقت من هذه الأماكن وشع نورها على جميع أقطار الأرض كانت دعوة خير تدعو إلى السلم وتدعو إلى الحق وتدعو إلى العدل وتدعو إلى المساواة وهذا ما تحققه شريعتنا الغراء، وهذا ما يجب علينا أن نتأسى به ونتمسك به». لحظات الاغتيال المدبر.. اختلاف وجهات النظر في صباح يوم الثلاثاء 13 ربيع الأول 1395ه الموافق ل25 مارس 1975م، كان الملك فيصل يستقبل زواره بمقر رئاسة الوزراء بالرياض، وكان في غرفة الانتظار وزير النفط الكويتي الكاظمي ومعه وزير البترول السعودي أحمد زكي.. ووصل في هذه الأثناء الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز الأخ الشقيق للأمير خالد بن مساعد والشاعر عبد الرحمن بن مساعد (ابن شقيق الملك فيصل)، طالبا الدخول للسلام على عمه. وعندما هم الوزيران بالدخول على الملك فيصل دخل معهما ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد، هنا هّم الملك فيصل بالوقوف له واستقباله والسلام عليه كعادته مع الداخلين عليه للسلام، فما كان من الأمير فيصل بن مساعد إلا أن أخرج مسدسه الذي كان يخفيه في ثيابه ليفرغ ثلاث رصاصات أصابت الملك في رأسه، لتعلن وفاته في الساعات الأولى من نقله للمستشفى المركزي بالرياض تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا من يوم الثلاثاء 25 مارس 1975 ليتم إلقاء القبض على القاتل وإيداعه السجن لتنفيذ حكم القصاص في حقه قتلا بالسيف في مدينة الرياض بعد اثنين وثمانين يوما من تنفيذه العملية. اختلفت وجهات نظر المحللين والكتاب وأفراد الأسرة الحاكمة حيال اغتيال الملك فيصل.. فمنهم من قال إن الأمير فيصل بن مساعد قتل الملك فيصل ثأرا لمقتل أخيه الأمير خالد بن مساعد، ومنهم من قال إن الأمير الذي قتل الملك فيصل كان يعاني من أمراض نفسية... ومنهم من قال إن مقتل الملك مؤامرة..