يوسف الحلوي تذكرنا قصة السموأل بقصة عبد الله بن سلام، فكلا الرجلين كان رأسا في اليهودية ثم صار رأسا في الإسلام، أفحم بن سلام قومه بعد إسلامه لأنه كان حبرا متبحرا في التوراة والتلمود وغيرها من مصادر الديانة اليهودية وكذلك فعل السموأل، وما كتابه المعروف «بذل المجهود في إفحام اليهود» إلا مثال حي على ذلك . قام السموأل بدراسة مقارنة للأديان في وقت مبكر فبسط القول في العلاقة بين اليهود أنفسهم، ثم بينهم وبين المسيحيين والمسلمين ثم فصل القول في علاقتهم بالعالم ثم ألزمهم بالدليل من كتبهم بالقول بثبوت نسخ التوراة، وللسموأل عناية بعلوم أخرى غير الفقه الإسلامي والتوراة فقد نبغ في الطب والحساب والهندسة وصناعة الأدوية والتاريخ وغيرها من العلوم، فكان بحق إمام عصره في سائر العلوم الشرعية والعقلية والتطبيقية مما لا يجتمع عادة في شخص واحد. ولد شموائيل بن يهوذا بن آبون بفاس، وقيل إن مولده كان بعيد بداية العقد الثاني من القرن السادس الهجري، وبفاس بدأ دروسه الأولى في الطب والحساب والتوراة، كان شموائيل سليل أسرة يهودية مغربية عريقة، فوالده واحد من كبار أحبار اليهود ألزمه بمطالعة التوراة منذ نعومة أظافره. يقول شموائيل: «وشغلني أبي بالكتابة بالقلم العبري ثم بعلوم التوراة وتفاسيرها حتى إذا أحكمت علم ذلك عند كمال السنة الثالثة عشرة من مولدي شغلني حينئذ بتعلم الحساب». ويبدو أن أسرة شموائيل لم يطل مقامها بالمغرب كثيرا، إذ سرعان ما سيرحل والده ومعه بقية أفراد الأسرة إلى بغداد حاضرة العلم بالمشرق العربي في ذلك الزمن، وببغداد انقطع شموائيل إلى طلب العلم على يد مشايخها وكبرائها. ويروي أن أول ما جذبه في سنين الطلب الأولى التاريخُ القديم ثم درس دواوين كبار الشعراء كديوان عنترة ثم درس التاريخ الإسلامي فطالع كتب ابن مسكويه وكتب الطبري وغيرها، وقد أكسبه درس الشعر والتاريخ فصاحة في لسانه عرفها له مقربوه، يقول شموائيل عن ذلك: «اكتسبت قوة البلاغة ومعرفة بالفصاحة وكان لي في ذلك طبع يحمده الفصحاء ويعجب به البلغاء» والمطالع لكتبه يلمس صدق كلامه في سلامة منطقه وقوة بيانه. ذكر شموائيل أنه تتلمذ لكبار علماء عصره، ومنهم أبو الحسن البسكري وأبو البركات هبة الله بن علي وخاله أبو الفتح والإمام أبو المظفر بن السهروردي وابن أبي تراب وأبو الحسن بن النقاش وغيرهم. وقد بلغ من براعته في سائر العلوم التي أكب عليها منذ طفولته أنه صار يرد فيها على الجهابذة من أهلها ويصوب أخطاءهم، يقول شموائيل: «كان لي من الشغف بهذه العلوم والعشق لها ما يلهيني عن المطعم والمشرب إذا فكرت في بعضها فخلوت بنفسي في بيت وحللت جميع تلك الكتب وشرحتها ورددت على من أخطأ فيها وأظهرت أغلاط مصنفيها وعربت ما عجزوا عن تصحيحه وتحقيقه». وحسبنا في هذا السياق أن نورد أنه صوب الكثير من نظريات أقليدس وهو ابن الثامنة عشر فقط . برع شموائيل في الطب وصناعة الدواء حتى إنه لم يكن يجاريه فيهما أحد على كثرة من اشتغل بالطب والصيدلة في بغداد عند قدومه عليها، يقول عن حذقه في صناعة الأدوية: «واتضح لي بعد مطالعة ما طالعته من الكتب بالعراق والشام وأذربيجان وكوهتان الطريق إلى استخراج علوم كثيرة واختراع أدوية لم أعرف أني سبقت إليها، مثل الدرياق الذي وسمته بالمخلص ذي القوة النافذة وهو يبرئ من جملة أمراض... في بعض يوم، وغيره من الأدوية التي ركبتها مما فيه منافع وشفاء للناس بإذن الله». وأما الطب فكان فيه كما قال عن نفسه: «ما عالجت مريضا إلا عوفي، وما كرهت علاج مريض إلا عجز عن علاجه سائر الأطباء». وإلى جانب هذين العلمين الجليلين برع شموائيل في الهندسة والحساب وبلغ فيهما شأنا عظيما وخلف أبحاثا جليلة في المثلثات، كما أسهم في تخليص المعادلات الجبرية من الحلول الهندسية وأوجد حلولا جبرية كان لها أبلغ الأثر في استقلال الجبر عن الهندسة. كان للعلوم العقلية أثر عظيم في تكوين شخصية شموائيل، إذ شب ميالا للاجتهاد مبتعدا عن التقليد يقرأ الكتب ويرد على أصحابها ويقوم أخطاءهم وينبذ الإتباع الأعمى، ومن ثم بدأت الأسئلة تتقاطر على ذهنه بشأن ديانته وما يوافق العقل فيها وما يخالفه، وبحكم مطالعته لأمهات الكتب التاريخية أخذ يلتقط أدق التفاصيل في سير الصحابة والرسول ويقابل كل ذلك بمخازي بني قومه ويتأمل الانتصارات الباهرة للإسلام منذ بداية دعوته فتزداد حيرته، كانت أسئلته ممنهجة تمس جوهر دعوة الإسلام كما تمس جوهر ديانته التي درج في أحضانها منذ طفولته، كيف انتصر أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص وكيف أدالا دولة كسرى؟ كيف يصير عمر الذي خرج من بادية مكة أعظم قائد في تاريخ البشرية؟ ولماذا يضرب اليهود صفحا عن التناقضات الصارخة في نصوص التوراة؟ ولماذا يحرف أحبارهم النصوص الأصلية عن مواضعها؟ ثم هداه تفكيره إلى أن الحياد في بحثه سيوصله حتما إلى الحقيقة ولما كان بأرض مراغة من أذربيجان رأى الرسول في منامه فاستيقظ وقد سكنت هواجسه ليعلن للناس بعدها أنه اعتنق الإسلام، وليشرع في تأليف أجل كتاب في المناظرة بين الأديان وهو كتاب «بذل المجهود في إفحام اليهود» وما يزال هذا الكتاب مرجعا لا غنى عنه في المقارنة بين الأديان السماوية إلى يوم الناس هذا، فشموائيل الذي اعتنق الإسلام وصار اسمه السموأل بن يحيى لا يقبل المسلمات بل يسلط فكره الثاقب على كل القضايا ويناقشها ببصيرة الرياضي الممتلك للأدوات المنهجية الكفيلة بالتمييز بين سقيم الآراء وسليمها. إن السموأل لا يقبل بالأبوة السلفية على حد تعبيره فالناس في اتباع أسلافهم سواء، لا فرق بين مسلم ومسيحي ونصراني يقول عن ذلك: «فأما الأبوة السلفية وحدها ليست بحجة، إذ لو كانت حجة لكانت أيضا حجة لسائر الخصوم الكفار كالنصارى فإنهم نقلوا عن أسلافهم». فأول ما يوصل المرء للحق، كما يقول السموأل، أن يثبت صحة المصدر الذي يستمد منه أو فساده، ومن ذلك إثباته للإعجاز البياني في القرآن، فهو يقر بأنه كدارس للغة متبحر في علومها لا يسعه سوى أن يسلم بأن القرآن لا يكون كلام بشر بأي حال من الأحوال، ثم يعرض لذكر الأمور الغيبية التي أخبر بها القرآن ليزكي القول بإعجازه، فإذا خاض في نصوص التوراة أثبت أنها منسوخة بالحجة والبرهان وأثبت أن يهود عصره لا يلتزمون بفقه التوراة في دقيق ولا جليل من شؤون حياتهم. والخلاصة أن السموأل أفحم يهود عصره ومَن بعدهم تماما كما أفحمهم بن سلام في حضرة الرسول. فاقت مؤلفات السموأل الثمانين، مما يدل على غزارة تأليفه، ولم تلق كتبه العناية التي تستحقها وقد خلف اجتهادات لم يسبقه إليها بشر ضمنها في كتبه التي نذكر منها كتاب المياه، وإعجاز المهندسين، والمفيد الأوسط في الطب وغاية المقصود في الرد على النصارى واليهود وغيرها. وقد وافته المنية عام 570ه ودفن بالمراغة من أرض أذربيجان وذكر جمال الدين القفطي أن أولاده من بعده اشتغلوا بالطب وأن مدرسة والدهم في الطب ظلت قائمة بفضلهم بعد وفاته تحمل منهجه الذي اختطه في التعاطي مع الأمراض وابتكار الأدوية.