ظلت الآلة الدبلوماسية المغربية، دائما، مرتهنة بقضية الصحراء وبتفاعلاتها على الساحة الدولية، ولما وصل الملك محمد السادس إلى سدّة الحكم سنة 1999، وجد تراكمات كثيرة علقت بهذا الملف، وأدرك أن والده كان ينهج سياسة العصا والجزرة.. وفوق ذلك، كان لافتا من خلال التحركات الدبلوماسية التي قام بها الملك شخصيا أن المغرب فوّت على نفسه الكثير من الفرص لتسجيل نقط في مرمى الخصوم. اقتناع الملك بحتمية حل مشكلة الصحراء عبر كسب دعم الدول الكبرى، جعله يُقدم، في سنة 2007، على الإعلان عن تبني المغرب مُقترَحَ الحكم الذاتي كوعاء جدي وذي مصداقية للتفاوض بغاية إيجاد حل نهائي لملف عمّر طويلا.. صحيح أن القوى الكبرى المؤثرة في قرارات الأممالمتحدة اقتنعت بجدوى المقترح المغربي، خاصة فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية، لكن الحسابات الاقتصادية بقيت، طيلة المدة التي ظهر فيها هذا النزاع المُفتعَل حول مغربية الصحراء، ترخي بظلالها وتُعقّد كثيرا احتمالات حله على المدى القريب. غير أن الثابت في فترة حكم محمد السادس هو أن طرح مقترح الحكم الذاتي كبديل عن حل تقرير المصير، الذي كانت تنادي به جبهة البوليزاريو، مسنودة من الجزائر، شكّل منعطفا حاسما في المفاوضات حول ملف الصحراء، حيث صار المقترح المغربي ذا مصداقية، بل ومن بين الحلول المطروحة لإنهاء هذا النزاع. وعلى العموم، يمكن القول إن حصيلة الدبلوماسية المغربية في السنوات الماضية تميزت بتذبذب واضح في ما يرتبط بقضية الصحراء، والتي احتاجت، غير ما مرة، إلى تدخل الملك شخصيا بعلاقاته لإعادة الأمور إلى نصابها حتى لا تستفحل، فمن توعّك العلاقات مع الحليف الإستراتيجي السينغال، مرورا بقطع العلاقات مع إيران وخفض التمثيلية مع دول عديدة، إلى السماح لموريتانيا بمعاداة الوحدة الترابية وكسب جبهة البوليساريو مواقع عديدة في مختلف القارات.. ظلت الدبلوماسية المغربية «تائهة»، بدون بوصلة حقيقية.. ثم إن المغرب فشل في تدبير ملفات ضعيفة، لكنها أخذت بُعدَها الدولي واستُثمرت ضد المغرب كقضية أميناتو أو أسباب اندلاع مخيم «أكديم إزيك» أو قضية السفارة السويدية.. صحيح أن الحكومة الجديدة حاولت ضخّ دماء جديدة في شرايين الدبلوماسية المغربية، لكنها وجدت، أيضا، على مكتبها تركة ثقيلة، يتوجب عليها تدبيرها بكل علاتها. غير أنه ثمة نقطا إيجابية ميّزت الحصيلة الدبلوماسية لفترة حكم محمد السادس، منها أن المغرب استطاع أن يصير شريكا متقدما لدول الاتحاد الأوربي، وهي الخطوة التي تسمح للمغرب بعقد شراكات اقتصادية وطيدة مع بلدان الاتحاد. ورغم أن الملك محمدا السادس سعى، خلال مدة حكمه، إلى نزع فتيل التوتر بين المغرب وبين جارته الشمالية إسبانيا، من أجل بناء علاقات جديدة، فإن مشاكل كبيرة ظلت عالقة وتخيّم على علاقات البلدين، في مقدمتها ملف الجزر المحتلة والاستفزازات الإسبانية في ما يتصل بالوحدة الترابية. وإذا كان المغرب قد فشل في بناء جسور الثقة مع إسبانيا، فإنه بالمقابل تمكّنَ من الحفاظ على علاقاته المتميزة بقصر «الإلييزي»، بداية من اليساري جاك شيراك ومرورا باليميني نيكولا ساركوزي، فيما يبدو أن فرانسوا هولاند يسير على نفس النهج، خاصة بعد الموقف الأخير من قضية الصحراء. على صعيد العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، كانت خطوة التوقيع على اتفاقية للتبادل الحر تحولا جوهريا في كُنه العلاقات بين البلدين، حيث أصبح المغرب شريكا اقتصاديا لأمريكا، وتعززت هذه الشراكة بدور أمني محور يضطلع به المغرب في منطقة الساحل والصحراء. بيد أن انتقادات كثيرة وُجِّهت لهذه الاتفاقية، على اعتبار أن أمريكا هي المستفيد الأول منها وأن المغرب ليس بمقدوره أن يساير السرعة الجهنمية لنمو الاقتصاد الأمريكي. ومع ذلك، نجح المغرب، على امتداد فترة حكم محمد السادس، في إبقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية على الحياد في قضية الصحراء، رغم التحركات القوية للجزائر.. لا شك أن خروج المغرب من منظمة الاتحاد الإفريقي، على خلفية اعتراف الأخيرة بجبهة البوليزاريو، كان قرارا صعبا جدا تحملت الدبلوماسية المغربية أعباءه طيلة أكثر من عقدين من الزمن. لكن انسحاب المغرب لم يُثنه عن نسج علاقات متميزة مع كثير من البلدان الإفريقية، بل استطاع اختراق مناطق كانت محسوبة على نفوذ الجزائر، الخصم الدبلوماسي الأول للمغرب. في هذا الصدد، أكد طارق أتلاتي، رئيس المركز المغربي للأبحاث الإستراتيجية، أن «قطار الإصلاحات الذي استكمل المغرب وضعه تماهيا مع المتغيرات العربية والدولية، سواء من حيث التحولات الجذرية التي عرفتها بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط أو من حيث الأزمة المالية العالمية التي تصيب جميع الاقتصاديات، عزز ريادة المملكة في مختلف الميادين، السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة»٬ وصُنِّف، بشهادة الخبراء الدوليين، باعتباره النموذجَ الكفيل بأن يكون مثالا بالنسبة إلى البلدان الأخرى في هذه المجموعة الجغرافية، التي تزخر بالموارد الطبيعية والبشرية المتكاملة». وأضاف أتلاتي، في تصريح ل»المساء»، أنه «بعد التغيير الإيجابي الذي عرفه المغرب مع اعتلاء جلالة الملك العرش، جاءت هذه السنة محطة قوية لتجسيد استمرار الملك في النهج الثابت لإحداث التطور الايجابي، وهو ما تم لمسه على مستوى كل الرقعة الجغرافية، حيث تغيرت صورة البلاد ومس التغيير جميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإستراتيجية، بما فيها الدبلوماسية، هذه الأخيرة التي جدد الملك وجهها بأن انتقلت وزارة الخارجية والتعاون، لأول مرة في التاريخ، من وزارة للسيادة إلى وزارة حزبية، في إطار الدفع بعملية تحقيق النضج السياسي الرامي إلى خدمة المصالح العليا للبلاد في إطار مقاربة تشاركية تؤسس للممارسة الديموقراطية الفعلية». كما تجب الاشارة، حسب أتلاتي، إلى «أن جلالة الملك أعطى دفعة قوية للدبلوماسية المغربية بأن مكّنها من استئناف خطة الحضور في المواقع التي كانت مُغيَّبة في مرحلة من المراحل لاعتبارات معينة، مع الحفاظ على المكتسبات التي راكمتها المملكة منذ عقود، بل وإن توجهَ جلالة الملك خلال هذه السنة ظل متشبثا بنهج الاعتدال، وهو ما مكّن المغرب من الحفاظ على تموقعه رغم التقلبات العالمية، بل إن الطفرة الديموقراطية التي عاشها المغرب خلال هذه السنة بعد تموقع جلالة الملك، باعتباره القائد العربي الوحيد الذي استطاع فهم المرحلة والتناغم معها في إطار ديموقراطية تشاركية جسّد بها مفهوم الملك الحداثي الديموقراطي، مما أكسب الدبلوماسية المغربية بعدا دوليا جديدا في ظل واقع متجدد».. وتنضاف إلى كل هده الانجازات، في تقدير أتلاتي دائما، جملة من المبادرات الدبلوماسية التي قادها جلالة الملك على المستوى الاقتصادي المواكبة للمجهودات الدبلوماسية بمفهومها «التقليدي»، بغية الحفاظ على المصالح والأسواق التقليدية وفتح أسواق جديدة واستقطاب المستثمرين وجلب السياح تكريسا لدور الديبلماسية في تحقيق التنمية. وأبرز أتلاتي، في المنحى ذاته، أن فترة حكم محمد السادس تميزت بأمر أساسي وهو أن المغرب استطاع تعزيز مواقعه الدولية كشريك أمني يسعى إلى تحقيق الأمن والسلام الدوليين، بل وإن نفس المقاربة صارت سمة المغرب خلال هذه السنة في ما يتعلق بالنزاع حول الأقاليم الجنوبية للملكة، حيث جسّد جلالة الملك موقف المغرب الثابت حول طرحه المتعلق بالحكم الذاتي للمملكة كتخريجة سياسية وسلمية». على كل حال، يمكن القول إن الحصيلة الدبلوماسية للمغرب خلال فترة حكم محمد السادس عرفت تسجيل نقط إيجابية كثيرة، رغم أن الملك قد اختار، منذ توليه العرش، الانكباب على المعضلات الداخلية.. ولا شك أن المسار الدبلوماسي قد تَعزّز من رفع القصر يدَه عن وزارة الخارجية لتصير وزارة حزبية يتحكم فيها الإسلاميون، ولذلك من حقنا أن نتساءل: هل سيقدر حزب العدالة والتنمية على الدفع بالأداء الدبلوماسي نحو الأمام وتجاوز تعثرات سابقيه؟..