محمد بوكرين المقاوم ، والمعتقل السياسي الذي قضى 16 سنة في السجن خلال حكم الملوك الثلاثة (محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس )، فسمي بمعتقل الملوك الثلاثة، وشيخ المعتقلين السياسيين بالمغرب، شارك في التخطيط لعمليات جيش التحرير في فترة الاستعمار الفرنسي، والإعداد للثورة المسلحة الأولى ببني ملال في مغرب الاستقلال سنة 1960، اعتقل مرات عديدة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي قبل أن يتم اعتقاله في سنة 2007 ، وهو في سن الثانية والسبعين، كان أول من أعلن عن وجود معتقل سري اسمه تازمامارت ، يعتبر من أشرس المعارضين في تاريخ المغرب المعاصر،الذي لم تزده السنون إلا إصرارا على مواقفه ودفاع مستميث عن قناعاته،إلى أن توفي في خامس أبريل من سنة 2010، عاش برئة واحدة بعدما فقد الأولى بسبب التعذيب في المعتقلات السرية، نعيد رسم مسارات الرجل ولمحات من حياته في هذه الحلقات: كانت رسالة زوجة محمد بوكرين وانفراج الأجواء بعد عقد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للمؤتمر التأسيسي، والجو العام الذي دخله المغرب، من أسباب استئناف محاكمة محمد بوكرين ورفاقه من جديد. كان المغرب حينها يستعد لتنظيم الانتخابات التشريعية في سنة 1977، وكان خارجا لتوه من تحقيق إجماع وطني شعبي بعد المسيرة الخضراء، وهو الإجماع حول الوحدة الوطنية، الانتخابات التشريعية التي كانت هي الثالثة في عهد الحسن الثاني، والتي كانت سبقتها انتخابات 63 التي قاطعتها المعارضة، وانتخابات 1970 التي عرفت خيبة المعارضة والاحتقان السياسي، الذي ستتلوه المحاولات الانقلابية، في المقابل تصاعدت الخلافات داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بين الانفتاح الذي قادته قيادات منفتحة على الحكم بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، وبين قيادات الخارج التي كانت بمثابة العمل المسلح، قبل أن ينتصر الخط الانتخابي. انطلقت محاكمة المعتقلين، التي اشتهرت بمحاكمة سطات ، يوم الثلاثاء 6 يوليوز من سنة 1976، بعد ثلاث سنوات وقرابة الشهر من اعتقال بوكرين ورفاقه، «تم الاستماع يوم الثلاثاء لمحمد بوكرين، ثم استأنفت يوم الأربعاء 7 يوليوز 1976 الاستماع لكل من منير عمر، ومحمد بن لحسن ويدر، وشكري الحبيب، وأقبلي الشرقاوي، وأقبلي المعطي، وكان آخر من استمعت إليه هو بنراضي محمد بن أحمد، ثم قررت المحكمة بطلب من الدفاع تأخير القضية إلى يوم الاثنين 12 يوليوز 1976 من أجل المرافعات». نقلت جريدة «المحرر» آنذاك الوقائع الكاملة لما أسمته محاكمة سطات، وسمتها بتلك التسمية لكون المعتقلين عرضوا على غرفة الجنايات لدى محكمة الاستئناف بسطات. كان يؤازر محمد بوكرين كل من النقيب عبد الرحمان بنعمرو، آنذاك، والأستاذ أحمد الدحماني الحمزاوي وجعفر. كان أول سؤال لرئيس الجلسة بعد تذكير محمد بوكرين بالتهم المنسوبة إليه وهي «جناية تقديم أماكن لعصابة مسلحة، وتقديم المساعدة، وتسهيل الفرار وعدم التبليغ عن المس بسلامة الدولة»، السؤال عن موقفه من تلك التهم. كان جواب بوكرين عبارة عن مرافعة استهلها بتفنيد التهم المنسوبة إليه معتبرا أن لا أساس لها إطلاقا، قبل أن يقول إنها «سيناريو اختلق من طرف الشرطة لتبرير اعتقالي مع آخرين كل هذه المدة، وبالتالي تجميد حزب الاتحاد الوطني- الاتحاد الاشتراكي حاليا- ففي أوائل سنة 1973 كنت أشتغل بمعمل سوق السبت وجاء قائد الجيش والكوميسير، ولاجودان من الدرك والقائد الممتاز وساقوني إلى الدار، حيث قاموا بتفتيش دقيق وواسع وأخذوا معهم عددا من الأوراق والوثائق الشخصية وتوجهوا بي إلى الفقيه بن صالح، وبمجرد وصولنا، بدأ القائد الممتاز يضربني أمامهم، علما بأن القائد من الخونة المعروفين للحركة الوطنية وكان ضمن لائحة 12» . لم يرق لرئيس المحكمة دخول محمد بوكرين في تفاصيل من شأنها أن تقوي موقفه ورفاقه وتكشف ما تعرضوا له من تعذيب، فنهره طالبا منه أن يلتزم بإطار المحاكمة. كان رئيس الجلسة يعتقد أن بمقاطعته محمد بوكرين سيعود هذا الأخير للإجابة المقتضبة بالنفي أو الإثبات للتهم، لكن بوكرين سيقاطع رئيس المحكمة قائلا: «إنني أحاكم في إطار أفكار ومبادئ سامية»، لذلك أطلب من المحكمة بكل تقدير واحترام السماح لي بالدفاع عن نفسي وعرض الظروف التي حرر فيها المحضر الموجود أمامكم، وإلا فإننا سنكون أمام محكمة المهداوي بالعراق، وإذا لم تكن هناك حرية فإني أمتنع عن الكلام». كانت الرسالة واضحة من بوكرين برفضه أن تتحول محاكمتهم إلى مسرحية على غرار ما كانت تشهده محكمة المهداوي بالعراق، والتي أسسها الرئيس العراقي السابق عبد الكريم قاسم لمحاكمة معارضيه وأطلق عليها محكمة الشعب، حيث كانت تنقل جلساتها عبر شاشات التلفزيون، لكن أهم ما كان يميزها أنها كانت واجهة للدعاية للرئيس ومنبرا للسخرية من معارضيه وإهانتهم، وكان يشرف عليها ابن خالة الرئيس، العقيد فاضل المهداوي. لم يكتف محمد بوكرين بتشبيه محاكمته ورفاقه بما كان يجري في محكمة المهداوي، بل لوح بالتهديد عن الامتناع عن الكلام في جوابه على مقاطعة رئيس المحكمة لمرافعته، فسارع رئيس المحكمة إلى التأكيد «هناك حرية، ولكنها تنتهي في حدود حرية الآخرين، لذلك ليس من حقنا استحضار أشخاص آخرين». تدخل النقيب عبد الرحمان بنعمرو حينها مذكرا رئيس الجلسة «بحق المتهم في الإدلاء بما يريد للدفاع عن نفسه». عاد محمد بوكرين بعد تهديده بالامتناع عن الكلام ليوجه عبارات اعتبرها أهم من محاكمته واعتقاله قائلا: «السجن أصبح لا يهمني، وواجبنا هو فضح الجرائم التي ترتكب باسم القانون والأمر لا يتعلق بمصير أولادي وحدهم، ولكن حتى بمصير أولادكم وجميع الأجيال، إن هذا الملف الذي أحاكم بمقتضاه أمامكم حضر وطبخ أمام الشرطة بعد أكثر من 10 أشهر من التعذيب القاتل الذي أودى بحياة عدة مناضلين في محتشدات مجهولة». استرسل محمد بوكرين في الحديث عن ظروف اعتقاله التي كلما أوغل في تفاصيلها كان رئيس الجلسة يقاطعه مؤكدا أن «المحكمة تحكم على أفعال معينة ولا يمكن أن تتجاوزها». ذكر بوكرين مختلف مراحل الاعتقال أثناء جلسة المحاكمة وما تعرضوا له من تعذيب قبل نقلهم إلى ضيعة مازيلا، والكوربيس، وذكر بمن سقط من رفاقه تحت وطأة التعذيب، ولم ينس أن يفضح ما تعرضت له حماته من إهانة أمام عينيه ، ثم عرج على أسئلة المحققين وعلاقته بكل من الشهيد عمر بن جلون، ومحمود بنونة، وسفره للعراق ممثلا للاتحاد المغربي للشغل في سنة 1970. كما تحدث عن الصور التي عرضت عليه لمقاومين ومناضلين معارضين، وتحدث عن سيدي حمو باعلي الملقب ب»الشريف» الذي تم استنطاقه بخصوصه، والذي أوضح أن علاقته به تمتد إلى زيارات كان يقوم بها لأغبالة في سنوات الستينات، وعن الخلايا السرية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومن يترأسها، مؤكدا أن الحزب الذي ينتمي إليه لا يسمح بتأسيس خلايا سرية وقانونه الأساسي يعمل في إطار المشروعية.