عندما كان حزب «العدالة والتنمية» في المعارضة، شن هجوما لاذعا على معهد «أماديوس» لأنه استضاف عوفير برونشتاين، ولم يتردد في وصف ضيف آل الفاسي الفهري ب«الصهيوني» و«الإسرائيلي»، وأخرج كل السكاكين التي تستعمل عادة عندما تسقط بقرة من هذا العيار. في أقل من سنتين، سيصبح «الصهيوني» «فلسطينيا مدافعا عن السلام»، بعد أن دارت الدوائر وحل برونشتاين ضيفا على مؤتمر حزب «العدالة والتنمية»... وسبحان مبدل الأحوال والصفات والمواقع. ما أسهل أن تشعل النار وما أصعب أن تطفئها. عندما كان بنكيران وإخوانه في المعارضة، كانوا متخصصين في إشعال الحرائق، يرمون عود ثقاب من إحدى نوافذ الحزب وينظرون إلى النيران وهي تلتهم المشهد، بل لا يتورعون أحيانا عن تعقيد مهمة «رجال الإطفاء»، كي يكسبوا نقاطا في معركة سياسية دامت أكثر من عشر سنوات وأوصلتهم في النهاية إلى السلطة، ودون أن ينتبهوا وجدوا أنفسهم يمسكون خرطوم مياه ويحاولون إطفاء النار التي تشب هنا وهناك، وما إن يخمدوا حريقا حتى يشتعل آخر في تلابيبهم. سخرية الأقدار حولت «البّيرومان» إلى «رجل إطفاء». ومن الواضح أن الفتيل الموجود في قلب «المصباح»، رمز «العدالة والتنمية»، لم يعد يتماشى مع مسؤوليات الحزب الجديدة، وأفضل شيء يفعله «الإخوان» هو أن يستبدلوا «المصباح» بقنينة ماء أو خرطوم مياه صغير... كي ينسجموا مع المرحلة. بعيدا عن النيران، لا أعتقد أن الحكاية تستدعي التبرؤ من الضيف وإلصاق التهمة بفرع الحزب في فرنسا. الشجاعة تقتضي أن يدافع بنكيران على استضافة إسرائيلي من أنصار السلام ويملك جواز سفر فلسطينيا، والجبن أن يتراجع. لن نكون فلسطينيين أكثر من الفسلطينيين. ثم إن المقارنة بين معهد «أماديوس» المشبوه وبين «العدالة والتنمية» لا تصح، لأن «أماديوس» لم يستضف برونشتاين فقط، بل أمّن «رحلة سياحية» لمجرمة الحرب تسيبي ليفيني، قاتلة أطفال غزة، وجعل من التطبيع أحد أهدافه، أما «العدالة والتنمية» فلم يفعل أكثر من استضافة رجل من معسكر السلام، منحه الفلسطينيون ثقتهم وجنسيتهم. لكن بنكيران وحزبه اختاروا الحل الأسهل، مع الأسف، وتبرؤوا من ضيفهم بعد أن ضغط الجناح المتشدد داخل الحزب، لاجئين مرة أخرى إلى سياسة «شي يكوي وشي يبخ»، التي ستنتهي بأن تضعفهم وتفقدهم كل مصداقية وتجعل المواطنين لا يأخذونهم على محمل الجد، لأن السياسة التي تدوم في النهاية هي «سياسة الحقيقة»، أما سياسة «هبل تربح» فإنها لا توصل صاحبها بعيدا. عوض أن يفتح نقاشا جريئا ويتحمل تبعاته، اختار بنكيران أن يهرب إلى الأمام ويضع استضافة برونشتاين في خانة «الأخطاء» التي «يتحمل مسؤوليتها»، مراهنا على الآثار الإيجابية التي يتركها هذا النوع من الخطاب في نفوس المواطنين، خصوصا أنهم تعودوا على سياسيين بوجوه من قصدير، لا يرون في الاعتذار إلا ضعفا أو جريمة. حين نعتذر، نقول بشكل ضمني إن نيتنا كانت حسنة، و«إنما الأعمال بالنيات»، لكن «الطريق إلى الجحيم مفروش بالنيات الحسنة»، ولا يمكن للمواطن أن يضع ثقته في سياسي كل رصيده نواياه الطيبة. صحيح أن «الاعتراف بالخطإ فضيلة» و«النقد الذاتي» من أرقى الخصال التي يجب أن تتوفر في رجل السياسة، كما علمنا علال الفاسي، لكن «الشيء إذا زاد على حده انقلب إلى ضده»، والمشجب الذي يعلق عليه بنكيران هفواته بات مثقلا عن آخره، ويمكن أن يسقط على رأسه في أي لحظة، تحت ثقل ما ينوء به. بنكيران مازال في بداية ولايته، ولو استمر على هذا المنوال فسيجد نفسه مجبرا على إعادة تعيين رفيق دربه عبد الله باها وزيرا بدون حقيبة مكلفا بالاعتذار، وقديما قال المغاربة: «شحال قدك من استغفر الله آ البايت بلا عشا»!