هل نقول إن آفة السياسة هي السلطة، هذا لا يعني أنه لا يمكن تصور السياسة من دون حوافز السلطة، لكن علاقات الالتباس وسوء التفاهم هي السائدة غالبا بين هذين الحدين، أحدهما لا يمكن فصله عن الآخر، لكنهما معا يشكلان غالبا معادلات غير متكافئة، فيطغى أحدُهما لحسابه الخاص، مستتبعا توأمه، جاعلا منه نسخة عنه لا أكثر ولا أقل. وفي العالم الثالث والعربي منه، لا تكاد تولد السياسة حتى تُبتلى بأشباح السلطة، سواء مارسها الحكام أو المحكومون. فلا يمكن اعتبار أن شعوب هذا العالم أصبحوا مواطنين حتى يتعاطوا سياسة دولهم ومجتمعاتهم، إنهم لا يزالون في عداد الناس المحكومين فحسب، أي أنهم موضوعات لأصحاب السلطة؛ فإن احتباس الدولة ما بين قطبي الحاكم والمحكوم يجعل كلا الطرفين مغتربيْن عن أية مشاركة في فعالية موصوفة بالعامة، فهما أبعد ما يكونان عن تعاطي شؤون السياسة، يتساوى في هذا الوضع البائس الحاكم مع محكومه، مع الفارق طبعا بين التابع والمتبوع؛ لكن النقطة المركزية في هذا الصدد هي أن انتفاء السياسة عن المحكوم يحتم انتفاءها عن الحاكم نفسه، وذلك حسب إشكالية السيّد والعبد اللذين تفرض عليهما عبودية هذه العلاقة ألا يكون أحدهما حرا ولو كان هو السيّد، إذ إنه مضطر إلى أن يكون هو كذلك، أي متحكما في الآخر. مجتمعاتنا العربية لم تعرف السياسة بعد، إنها غارقة في شبكيات التسلط، وهي عندما تنفجر ثائرة فكأنها تشهد دخولها إلى عصر السياسة متأخرة، وإن لم يفت موعدها مع التاريخ بعد؛ فما تمارسه الدولة العربية هو سلوك السلطنة بعيدا عن «السياسة» التي لا تعرفها إلا باسمها، وذلك عندما لا تفهم الدولة من السياسة إلا طابع الإرغام والإكراه وحده؛ فقد صوَّر الفيلسوف الإنجليزي هوبز الدولة بالوحش الخرافي الهائل، لكنه هو الوحش «العام» الذي يفرض الأمن الشامل ضدا على فوضى الأنانيات الفردية والفئوية. هناك معادلة أساسية صامتة كأنها عقد جماعي غير مكتوب، ولكنه مقبول وسائر المفعول، بموجبه يتنازل الأفراد عن كثير من حرياتهم الأقرب إلى غرائزهم البدائية، مقابل النظام الذي يفرضه أقوى الأقوياء، الذي هو الدولة؛ بمعنى أن الإكراه القديم الذي يؤسس قيام الدولة، يتطور إلى علاقات التراضي المتبادل ما بين أهل النظام وأتباعه؛ حينئذ تولد السياسة حقا. تغدو صيغةَ مُشاركةٍ متعددة الاتجاهات، غنية بالمضامين الأخلاقية والحقوقية؛ يعود التواصل بين الأعلى والأدنى مسألة اجتماعية تقررها قوانين مكتوبة وتحرسها مؤسسات قائمة موصوفة بالعمومية والانتظام الموضوعي. إن دولة السياسة هي النقيض التاريخي المدني لدولة السلطنة، فهذه الأخيرة تحتمل كل مساوئ الذاتوية الأهلوية وعنعناتها الافتعالية، بحيث يغلب نموذج الشخص على نموذج الحاكم أو المسؤول؛ كل ما تفعله الدولة كأنه فعل ذلك الشخص. من هنا القول إن دولة السلطنة تظل أقرب إلى الأرومة الأهلوية، كأنها امتداد للأبوية والقبلية، وبالتالي لا يمكن لكلية المجتمع أن تأتلف معها؛ وبذلك تعجز دولة السلطنة عن تحقيق الشرط المركزي لمولد الدولة السياسية الحديثة، وهو كونها دولة المجتمع كله بدون أي تخصيص، يصيب أحد طرفيْ هذه المعادلة؛ وبالطبع ليس ثمة من سبيل إلى صياغة مشاركة حقيقية في هذه العلاقة الحدية الرأسية، بين أهل الحكم و(بقية) الناس؛ فالمشكلة في ساحة هذه المتعارضات البنيوية أن النقلة بين النموذجين ليست خيارا إراديا، لا تتحصّل نتيجةَ دعوة إصلاحية ما، ليست قرارا مؤسسيا أو شعبيا، إنها ثمرة تغيير في العمق العميق من التكوين الاجتماعي الثقافي الاقتصادي، والذي ترعاه عقول نخبوية واعية، وتصنعه جماعات الرأي العام المنظم والمستنير. الخروج من نفق دولة السلطنة هو صلب التحدي الوجودي الذي تَعِدُ به عادة ثورةٌ كلية موصوفة بالشمول والديمومة معا؛ فليس أي تغيير يتناول رموز السلطة، كإبدال رجال برجال آخرين أو نظام باسم معين إلى نظام باسم نقيض، هو الطريق السريع والمباشر للخلاص من حاكمية البنية الأهلوية لمجتمعاتنا العربية؛ فهي تلك الحاكمية الآمرة الفعلية لشبكيات الأحوال العامة، قبل أن يتم تصنيفُها في خانة الثقافة والسياسة أو الأخلاق، فالمجتمع الأهلوي هو المنتِج لدولة السلطنة بفعل قوانينه الذاتوية المتوارثة. وقد لا يعيها حتى الثوارُ أنفسهم إلا بعد فوات الأوان، عندما تُبتلى حكوماتُ الثورة بذات أمراض غريمتها، وبما هو أدهى أحيانا، على ما تُتحفنا به دروسُ ثوراتنا الماضية المهزومة. فكيف يمكن أن يأتي الربيع العربي بذلك النوع المختلف من الثورات التي لن تكتفي بتغيير أسماء الحكام، وإنما بقلب مؤسسة الحكم نفسها كأسلوب جذري في تحرير المجتمع نفسه من سجونه الأهلوية الهرمة. لقد كان الاستبداد العربي شموليا، ولم يكن سياسيا أو سلطويا فحسب. والانتصار عليه لن يتحقق بتهديم قمته الحاكمة فقط. فالجسم الاجتماعي المريض يعيد إنتاج رؤوسه العليلة، فكيف الوصول إلى مكامن هذه العلل الدفينة إن بقينا منشغلين فحسب بظواهرها دون التعرّض لخفاياها. من هنا، كان فكر الثورة باحثا دائما عما يجعلها هي عينها ثورة على ذاتها، أي أن تظل حاكمة على أفعالها وأفكارها، وليس محكومة بها، إنها الثورة النقدية التي تأتي دائما رديفة لإنجازاتها، تتجاوزها وتبني ما بعدها، ما يتفوّق عليها. غير أن الربيع العربي غارق في هَمّ الصراع السلبي، إنه منشغل بهَمّ الهدم ولحظته عمّا يعفيه من مشروع الانقلاب النهضوي الكلي الواعد به منذ أجيال. وهذه اللحظة الهدمية الآنية مستبدّة وضاغطة بعنف دموي هائل، كما هو حالها اليوم في أكثر من قطر. إنها لحظة الحرب المقدسة التي تموت وتحيا من خلالها الأممُ الصانعة للتاريخ؛ فلا مبالغة إن شَعَرَ شبابنا بأنه يخوض معارك من صراع الوجود أو اللاوجود تحت أعاصير هذا الربيع الذي أصبح طقسَ الطقوس لطبيعة كياننا الإنساني. قبل الثورة، كان عَسْفُ الصَّلفِ البدائي يجرح كرامة الناس العاديين في كل مناسبة احتكاك تفصيلي في الحياة اليومية بين رجال السلطة أو أتباعهم، والناس العابرين بهم، فليس الظلم وحده باعثا على الغضب الجماعي، بل هو الابتزاز الرخيص الذي يمارسه متسلطون يحتلون مراكز لا يستحقونها ويطالبون الآخرين بحقوق مغتصبة، يعرف القاصي والداني أن الحاكم إنما يسرق هذه الحقوق من أصحابها الأصلاء، وأنه بالتالي يضاعف من عنف السرقة بوقاحة العلنية الصاخبة. لصوص السلطنة العربية يتباهون بأحوالهم الشاذة، وكأنها هي ذروات مجيدة للقيم النادرة. إنهم أشبه ما يكونون بأبطال الأساطير ماداموا يمسكون بأقدار العامة من أعناقهم؛ فحين يرتكبون جرائم القتل الفردي والفئوي وحتى الجماعي، يعتقدون أن أرواح ضحاياهم لم تعد ملكا لأصحابها ما إن تخلى هؤلاء عن مصيرهم لإرادة الحاكم المطلق. بعد الثورة، يصبح القتل هو القانون الأول الذي يسوغ للحاكم وأتباعه استباحة أرواح الناس جميعا؛ إذ يصبح المجتمع كله هو المتهم الأول في محكمة الاستبداد، كل فرد يغدو مشبوها بحريته قبل أن يُصار إلى الإجهاز عليه معنويا وماديا؛ فالاستبداد يفترض أن الناس لم يولدوا أحرارا أصلا، وأن وضعهم الطبيعي هو أن يكونوا أتباعا، والحاكم المقتدر هو الذي يجعل الحرية في بلاده نوعا من الشذوذ على القاعدة، ينبغي مكافحتها بكل وسيلة ممكنة؛ من هنا كانت المؤسسة الأمنية هي أقوى أجهزة الدولة العربية وأكثرها تطورا وحداثة. وهي سُميّت بالأمن، في حين أنها مؤسسة القمع، على أن يُفهم الأمنُ لأصحاب الدولة والقمْعُ لرعاياها. نزعة التسلط غريزة يكابدها الجنس الإنساني عامة، لكن الحضارة تحاول تنظيم ممارستها تحت وابل من الأوامر الأخلاقية باسم القيم الغيرية من مشتقات المحبة والتسامح، وتوظيفها في نوع من السلوك الجماعي الذي أبدع ثقافة المساواة والمواطنة، والسيادة للحق والكرامة معا. غير أن المجتمعات النامية لم تستطع بعد أن تحصّل ذلك المستوى من (الرقي) الثقافي، إن صح التعبير؛ فالغرائز البدائية لا تزال هي المتحكمة في نسيج العلاقات البيْذاتية، لذلك يأتي تعريف المجتمع الأهلوي أنه هو الأقرب إلى تركيبة الإنسانية الأولى، من حيث سيطرةُ دوافع النفعية المباشرة في مواقف الناس من بعضهم، بدون أية رعاية مفهومية أو قيمية لوسائل وأساليب تحقق هذه الدوافع؛ فالتمييز بين الأفراد والفئات لا يتأتّى نتيجةَ تقدير لصفاتهم وخصائصهم الذاتية بقدر ما تفرضها مستويات القوى الرمزية التي يتمتعون بها، من حيث الثروة والطبقة والوظيفة والعائلة أو العشيرة.. إلخ. في هذا السياق العام من حركية المجتمع الأهلوي تشكّل السلطةُ أهمَّ ساحات الصراع للفوز بمختلف عوامل القوة والنفوذ؛ فالسيطرة على الحكم لا تعني وظيفة سياسية أو إدارية.. إنها سيطرة على كل شيء، بدءا من التحكم في أرواح الناس وعقولهم، وصولا إلى استلاب ثرواتهم ومصائرهم وتحويل البلاد إلى مزارع مملوكة من سادة السلطة وأزلامهم، فقد تكشّفت انهياراتُ البعض من ممالك الاستبداد مع اجتياحات الربيع العربي عن تلك الهيكلية القروسطية التي تشكل إمبراطوريةَ المجتمع الاستبدادي. هنالك جنون الشبق للتهتك والمال والدم المباح والطغيان المرضي اللامحدود، هنالك ازدهار فنون الخيانات والكذب والخداع واحتقار الآخر، كل آخر، بما يجعل من فردانيةِ أو لامشروعيةِ التسلّط عاهة كبرى لأمته وعصره. فالتسلط السياسي يعني أن يستولي المستبد على كل ما ليس له حق فيه، وللآخر كل الحق فيه؛ فالحكم والرئاسة والصلاحيات والمزايا وكل صفات القيادة والفخامة والجبروت الفعلي والوهمي، إنما هي خصائص وممتلكات مسروقة من الدولة والشعب والرأي العام. إنها علامات الشرعية التي يفتقدها المتسلط، لكنه يتابع ادعاءها كأنها من ملكيته الخاصة، بينما تعلن أفعاله اليومية عن كل ما يناقضها من المفاهيم والقيم المتعارف عليها، من حيث كونها تميز حقا بين القائد الحقيقي المشروع عند نفسه أولا، قبل الاعتراف به من كل الجماعة، وبين القائد الآخر، الدخيل والمغتصب، الذي يحكم بلغة الكذب وحده، في وقت السلم، وبأداة القتل والغدر في وقت الأزمة. أباطرة التسلط العربي انقضى زمانهم، شارفوا جميعا حدودَ متاحف الهيكليات اللاتاريخية التي سيمثلون لوحاتِها المظلمة البائسة.. لكن الفظاعات الاستثنائية التي يرتكبها آخرُهم الراهن قد تستحق وحدَها إعادةَ كتابة تاريخ الإجرام المطلق، انطلاقا من مآثرها وحدها، فقد عرف هذا الطاغوت الصغير كيف يخلّد نفسه أخيرا بأرقام قياسية من مذابح الأطفال والنساء والشيوخ: هنيئا لهذا الأسد بهذا الأبد!