في كل صباح وقبل أن ترسل الشمس أولى أشعتها، يقوم آلاف من الفلاحين إلى أبقارهم من أجل حلبها في صمت، لتجد قطرة الحليب بعد ذلك طريقها إلى سلسلة إنتاجية لا تخلف موعدها مع عقارب الساعة.. وراء هذه القطرة البيضاء من الحليب قصة شيقة لا يعرفها كثير ممن يقصدون كل صباح أقرب دكان لشراء علبة حليب. في هذه الحلقات، سنحكي قصة هذه القطرة التي تعتبر مزيجا من التحدي والإصرار على النجاح، كانت وراءه زمرة من الفلاحين البسطاء في قلب حوض سوس، قرروا ذات يوم من أيام سنة 1987 تأسيس تعاونية تحميهم من جشع الوسطاء، ليبدأ أول تجسيد حقيقي للاقتصاد التضامني الذي غذته تلك التقاليد العريقة في التضامن الجماعي بين أفراد القبيلة والدوار، قصة نجاح قادها رجل أشبه ب«الزعيم الأخضر» في جهة سوس، استحق بنجاحه أن يكون مصدر تقدير خاص لدى ملك البلاد الذي كرر غيرما مرة زيارته لهذه التعاونية، كما اختير لعضوية اللجنة الملكية الاستشارية حول الجهوية الموسعة. وقد ألهم أولئك الفلاحون خبراء مكتب الدراسات الدولي الذين اختاروا تعاونية «كوباك» كنموذج للاقتصاد المندمج عندما كلفتهم وزارة الفلاحة بإعداد مشروع المخطط الأخضر. إنها قصة أزيد من 13000 فلاح في جهة سوس، قاوموا شح المياه وغياب المراعي لصنع ثروة جعلت أجيالا جديدة من الفلاحين تستقر بقراهم وتساهم من مكانها في أكبر قصة للاقتصاد التضامني في المغرب.. ثورة خضراء انطلقت بشائرها الخضراء من قلب سوس. في هذه السلسلة، سنكشف جانبا من أسرار هذا المجد الأخضر الذي غير وجه البادية في سهل سوس الممتد، وكيف استطاعت أن تسيطر على نصيب وافر من سوق الحليب الذي ظل حكرا على شركات بعينها لأزيد من ثلاثة عقود. من مجموعة إلى مجموعة، كان مؤسسو تعاونية كوباك يبحثون عن الحرية في الوصول إلى أبعد نقطة نحو المستهلك دون وساطات أو هيمنة «لوبيات» ضاغطة.. كان الفلاحون يخوضون معركة التحرر والوصول إلى المستهلك، دون أن تنهكهم أكثرَ وساطة الوسطاء وتدخلات السماسرة، لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة من أجل أن تعود القيمة المضافة لمنتوجاتهم من أجل أن تتحول إلى استثمارات جديدة تطور الإنتاج وترفع من الوضع الاعتباري للفلاح، لكنْ على الهامش بدأت بعض «الديناصورات» الصغيرة تكبر، من جديد، داخل المجموعة الجديدة، التي انضم إليها فلاحو تعاونية «كوباك»، والذين بدؤوا في محاولة فرض سيطرتهم من جديد والاستفراد بالقرار.. الأمر الذي حذا بفلاحي التعاونية إلى تأسيس مجموعتهم، لأن الشرط الأساسي الذي ظل الفلاحون المنخرطون في التعاونية يناضلون من أجله هو الشفافية في كل مراحل الإنتاج. وليس هناك أي مبرر لأن يحتكر أي طرف المعلومات أو المعطيات عن سير جميع مراحل عملية التصدير، وكان لزاما تأسيس محطة جديدة، لأن التعاونية لوحدها لا تستطيع أن تعتبر مجموعة لوحدها، فقام المتعاونون بشراء محطة تلفيف جديدة وشكّلوا مجموعة، لأن الشرط الأساسي هو أن تكون الطاقة الإنتاجية تقارب 50 ألف طن، وعندما بدأت المشاورات مع صاحب المحطة، والذي ليس إلا شيمون ليفي.. وتم الاتفاق عن الثمن، تلقى هذا الأخير اتصالا هاتفيا في منتصف الليل وعرض عليه 150 مليون سنتيم كزيادة على كل مبلغ مالي يتم الاتفاق عليه بينه وبين تعاونية «كوباك»، التي تعتزم شراء المحطة، الأمر الذي استنكره هذا الأخير وعلّق على الموقف بقوله: «هل هناك بيع وشراء في منتصف الليل؟».. وأمضى الصفقة، كما تم الاتفاق على ذلك مع أعضاء تعاونية «كوباك»، إذ فهم من ذلك أن الجهة المتصلة كانت تزايد على متعاوني «كوباك» من أجل حرمانهم من شراء المحطة وعدم تمكنهم من تكوين مجموعة، وبالتالي، عدم القدرة على الولوج إلى السوق الخارجية وعودة سيطرة «الدينصورات» الصغيرة، التي تتحكم في ضعاف الفلاحين، الذين لم يتلمسوا الطريق بعدُ إلى النهج التعاوني. ولم يكن صاحب مكالمة منتصف الليل إلا واحدا من الذين كانوا ضمن المجموعة التي انضمّت إليها التعاونية وكانت واحدة من مؤسسيها بهدف السيطرة على السوق ووقف كل محاولة للتحرر من سيطرتهم. وبعد سلسلة من النضالات، تم الاستقلال داخل مجموعة تضمن التسويق لكل الأسواق الخارجية وتوفير النقل أيضا دون الحاجة إلى وساطة الوسطاء، وتم التحرر من هيمنة الدينصورات الصغيرة، التي كانت تهيمن على السوق. بعد هذا النضال المرير، تحولت تعاونية «كوباك» إلى واحدة من أكبر الفاعلين في جهة سوس ماسة درعة، والتي تشتغل ضمن مجموعة للتصدير تضم الضيعات الملكية، حيث يشغل رئيس تعاونية «كوباك» منصب نائب الرئيس في هذا التكتل، الذي يضم الضيعات الملكية، والذي يُسهّل عملية الوصول إلى الأسواق الخارجية. واستطاعت تعاونية كوباك أن تصل اليوم إلى إنشاء محطتين الأولى في سنة 1987 والثانية في سنة 1996، وفي نفس السنة تم خلق شركة «أطلس بريم»، التي تتولى التسويق وتمثل التعاونية داخل مجموعة التسويق الكبرى، كما تم، في سنة 1998، إنشاء محطة للتبريد تبلغ طاقتها الاستيعابية 8500 طن، وتم إنشاء محطة لتحضير عصير الليمون سنة 2001 وأصبحت الطاقة الإنتاجية لمحطات التلفيف تبلغ 67 ألف طن خلال الموسم الفلاحي 2010 - 2011، بعد أن لم يتجاوز 53 ألفا و300 طن في الموسم الفلاحي 2002 - 2003. وتفيد كل المؤشرات التي تقدمها وثائق التعاونية أن هناك نموا مطردا، حيث أصبح التحدي هو تدبير الأسواق التي يجب أن تستقبل هذه الطاقة الإنتاجية، بعد أن تجاوز الفلاحون عقدة الخوف وتم التحرر من هيمنة الوسطاء والمجموعات المحتكرة لقطاع التصدير، وتشمل لائحة الحوامض التي يتم تصديرها إلى مختلف دول العالم ما يقارب سبعة أنواع من المنتوجات الفلاحية من فصيلة الحوامض، إضافة إلى أنواع أخرى من الخضر الموجهة أساسا للسوق الخارجية. واستطاعت كل هذه المشاريع أن تُشغّل ما يقارب 224 منصبَ شغل، أغلبها في صفوف النساء، والتي تشتغل بشكل مستمر داخل هذه المحطات. كما أصبح بإمكان الفلاحين المنخرطين في التعاونية الوصول إلى السوق الأروبية، التي تعتبر سوقا «تقليدية»، وكذا إلى كندا والشرق الأوسط، رغم المنافسة المصرية، وكذا إلى السوق الروسية، التي أصبحت سوقا واعدة مع مرور الأيام، فضلا على بعض الدول الأسكندنافية وبعض مناطق الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وقد انعكس ذلك، أيضا، على مستوى إنتاج عصير الليمون ،الذي تم تقديمه كواحد من عشرات المنتوجات التي أصبحت التعاونية تنتجها، حيث انتقل مستوى إنتاج عصير الليمون من 10150 طنا سنتي 2003 - 2004 إلى ما يفوق 17 ألف طن، وهو ما حقق للفلاحين استغلالا أمثلَ لمنتوجاتهم الفلاحية من الحوامض، وتُوجَّه بقايا هذا المنتوج إلى محطة صنع الأعلاف، ليتم تحويل جميع المنتوجات والحفاظ على القيمة المضافة، التي تتحول إلى فائض صافي يعود إلى الفلاح أو يتم تحويله إلى استثمار جديد في قصة متكاملة للاقتصاد الاجتماعي.