من المؤلم، بل ما يثير الحنق، أن القضية الفلسطينية العادلة التي كانت تهزّ العالم بأسره، تراجعت إلى مستويات متدنية ومخجلة في الوقت نفسه، واحتلت ذيل اهتمام العرب قبل العالم، والسبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى انعدام الحراك الفلسطيني على الصعيدين القيادي والشعبي معا. نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إن قضية فلسطين باتت تنحصر الآن في أمرين اثنين: - الأول: شريط وثائقي بثته فضائية «الجزيرة» يفسر الماء بالماء، ويكشف عن سرّ خطير، وهو أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اغتيل بالسم من قبل إحدى الأدوات الفلسطينية، وبمادة البولونيوم الذرية التي لا تملكها إلا ثلاث دول هي أمريكا وروسيا وإسرائيل، أي أننا لم نعد نجرؤ كعرب على اتهام إسرائيل علنا. - الثاني إفلاس السلطة في رام الله ماليا، وعجزها عن دفع رواتب رهط من الموظفين يزيد تعداده على 160 ألفا، وعجز السلطة الموازية في قطاع غزة عن توفير الكهرباء لمليوني إنسان في صيف قائظ ترتفع فيه الحرارة إلى ما يقرب الخمسين درجة مائوية، والسبب عدم وجود الوقود لتشغيل المحطة اليتيمة لتوليد الكهرباء في القطاع المحاصر والمنسي عربيا وفلسطينيا. الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيتوجه الجمعة (اليوم) إلى الرياض لمقابلة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، ليس من أجل تذكيره بمبادرة السلام العربية التي ماتت وشبعت موتا، ولا لشرح موجة الاستيطان التي خنقت وتخنق القدسالمحتلة، ولا حتى مأساة الأسرى، سيلتقيه من أجل تسوّل ما تجود به شهامة العاهل السعودي من ملايين، لإنقاذ السلطة من الإفلاس وفقد آخر ما في جعبتها من أسلحة لإبقاء بعض التأييد لها في الأراضي المحتلة، وهو «سلاح الرواتب» بعد أن تنازلت عن جميع الأسلحة الأخرى، مثل العصيان المدني والانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة. من المفارقة أن السلطة الفلسطينية، ممثلة في رئيس وزرائها الدكتور سلام فياض، طلبت من إسرائيل أن تتوسط لدى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بمائة مليون دولار، يخرجها من أزمتها المالية الحالية. هل هذا معقول، وفي أي زمن نحن، الفلسطينيون يوسّطون أعداءهم لتسوّل قروض باسمهم من المؤسسات المالية الدولية، ووضعها على كاهل الشعب الفلسطيني وتكبيله وأجياله المقبلة؟ ثم من أين سيسدد هذا الشعب هذه القروض في المستقبل، من نفطه، أم من أرضه ومقدساته والتنازل عن ثوابته، وعلى رأسها حق العودة؟ مسؤولية إنقاذ السلطة الفلسطينية من إفلاسها المالي، بعد إفلاسها السياسي، ليست مسؤولية عربية، بقدر ما هي مسؤولية أمريكية وإسرائيلية، فالسلطة لم تستشر العرب عندما وقعت اتفاقات أوسلو، كما أن بقاء السلطة واستمرارها وتنسيقها الأمني هو مصلحة أمريكية وإسرائيلية أيضا، لأن هذا البقاء يعفي الدولتين من تبعات الاحتلال. لو كانت اتفاقات أوسلو أدت إلى الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، والخالية من المستوطنات، كخطوة أولى لتحقيق الثوابت الفلسطينية، نفهم أن تقدم هذه الدولة على خطوة الاستدانة من صندوق النقد الدولي، أسوة بالدول الأخرى، ولكنها لم تعد سلطة ولا حتى حكما ذاتيا، مكبرا أو مصغرا، والرئيس عباس نفسه اشتكى مرّ الشكوى من هذا الوضع المزري، وهدّد أكثر من مرة بحلّها وقلب الطاولة على الجميع، ولكنه لم يفعل، ويبدو أنه لن يفعل، والأكثر من ذلك أن يبعث ببرقية تهنئة إلى إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بمناسبة تبرئته من تهم الفساد، ونسي الرئيس عباس أن أولمرت هذا شن حربين مدمرتين، الأولى على جنوب لبنان في مثل هذا الوقت، أي يوليوز عام 2006، والثانية عندما أرسل دباباته وطائراته لقصف قطاع غزة بالفوسفور الأبيض وذبح أكثر من 1400 إنسان، وتدمير المدينة الصامدة المحاصرة بالكامل تقريبا (60 ألف منزل تضررت). السلطة الفلسطينية قالت إنها ستحقق في استشهاد الرئيس عرفات بالسّم، وستطالب بتشكيل لجنة دولية لهذا الغرض، على غرار ما حدث بعد جريمة اغتيال الراحل رفيق الحريري. كلام جميل، ولكن لماذا لم نسمع بهذا الطلب إلا بعد فيلم «الجزيرة» الوثائقي؟ ولماذا صمتت السلطة ثماني سنوات كاملة؟ هناك من يقول إن السلطة لا تملك المال للتحقيق في هذه الجريمة واللجوء إلى مختبرات دولية، وهذا تبرير يدين السلطة أكثر من كونه يبرئها، فمن غير المنطقي أن تملك محطة فضائية ك«الجزيرة» الإرادة والقدرة على التحدي والمخاطرة، وكذلك الإمكانيات المادية، ما لا تملكه سلطة تملك أكثر من ثمانين سفارة في العالم، تزدحم بالموظفين، علاوة على دفع رواتب 160 ألف موظف مع مطلع كل شهر، ويعتبر الشهيد عرفات مؤسسها ورمزها! ثم، ماذا يكلف تحليل ملابس الرئيس الفلسطيني وفرشاة أسنانه في معمل سويسري طبي: مليونا، مليونين، ثلاثة، وهل يعقل أن السلطة لا تملك هذا المبلغ، وإن كنا نعتقد أن تكاليف عملية التحليل هذه لن تتعدى بضع مئات آلاف من الدولارات؟ نكاد نجزم بأن هذه الضجة الصاخبة حول اغتيال الرئيس الفلسطيني الرمز ستتبخر في غضون أيام معدودة، ولجان التحقيق هذه ستعود إلى سباتها السابق، لأن الإرادة غائبة، والخوف من أمريكا وإسرائيل ضارب أطنابه في السلطة، بل ومعظم العرب الآخرين. كانت هوجة إعلامية مثل كل الهوجات السابقة، فماذا حدث لتقرير غولدستون، ماذا حدث لهوجة الطلب الفلسطيني للحصول على العضوية في الأمم المتحدة؟ الإجابة صفر مكعب. اعتصام واحد، ومن قبل عشرات الشبان، منع رئيس السلطة من لقاء شاؤول موفاز، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي وقاتل الفلسطينيين في غزة والضفة، عندما كان رئيسا لهيئة الأركان، ولماذا لا تتوسع دائرة الاعتصامات هذه ضد السلطة والاحتلال معا؟ الحلّ هو في حلّ هذه السلطة التي أصبحت عبئا على أصحابها، قبل أن تكون عبئا على الشعب الفلسطيني.. نعم، قلناها في السابق ونجد لزاما علينا تكرارها كل يوم.