اجتمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس لمدة ساعتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في مقر رئاسة الحكومة في القدسالمحتلة، يوم الاثنين الماضي، وتركزت المناقشات في جانب كبير منها على استنكار أولمرت، وغضبه، للقاء الذي تم بين الرئيس الفلسطيني والأسير العربي اللبناني المحرر سمير قنطار، على هامش زيارته الأخيرة لبيروت، وتبريراته لهذا اللقاء الذي قال إنه تم بمحض الصدفة. أولمرت المتهم بالفساد والمستقيل من زعامة حزبه، تصرف مع الرئيس الفلسطيني كما لو أنه رئيس مجلس بلدي تابع له، يؤنبه على بعض تصرفاته، ويقدم له قائمة من المحظورات عليه الالتزام بها وعدم خرقها. الرئيس عباس، ومثلما تسرب من أخبار على ألسنة مرافقيه الذين حضروا الاجتماع، لم يعارض هذا التصنيف بدليل أنه قدم تفسيرات، وتبريرات، لدرء اللوم عن نفسه، عندما قال موضحاً إن قنطار هو الذي اندس بين الحشد وتقدم إليه مصافحاً دون علمه أو دعوته. مصافحة الرئيس عباس لسمير قنطار شرف لكل إنسان فلسطيني وعربي ومسلم، فهذا الرجل الذي أمضى ما يقارب الثلاثين عاماً في السجون بعد تنفيذه لعملية فدائية ضد أهداف إسرائيلية انتصاراً للحق العربي في فلسطين، يستحق التكريم والمصافحة، بينما من لا يستحقها هو إيهود أولمرت الذي تتلطخ يداه، ويدا وزير دفاعه، بدماء أكثر من ألف فلسطيني سقطوا في فترة حكمه وآلاف غيرهم قبلها، وسيدخل التاريخ على أنه العمدة والسياسي الإسرائيلي الذي فرض التهويد بالقوة على مدينة القدس، وطمس هويتها العربية والإسلامية، وفرض حصاراً نازياً على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة. لو كنت مكان السيد عباس، والحمد لله أني لم ولن أكون، لما قدمت أي تبريرات أو تفسيرات، بل لما سمحت لهذا القاتل الفاسد أو غيره، أن يوجه مثل هذا العتب الاستنكاري مطلقاً، لأن أولمرت مازال، وسيظل، عدواً للشعب الفلسطيني، والأمة العربية، ومجرم حرب يرأس حكومة تتبنى العدوان، وتحتل أراض عربية، وترتكب مجازر في حق الأبرياء، وتتوسع في الاستيطان، وتعتقل أكثر من عشرة آلاف أسير خلف القضبان. ولعل الإهانة الأكبر التي وجهها أولمرت إلى الرئيس الفلسطيني في اللقاء المذكور، هي محاولة إقناعه بقبول تسوية جزئية، تستثني القدسالمحتلة، وبقية قضايا المرحلة النهائية، مثل حق العودة والمستوطنات والحدود والمياه، وهي المقترحات التي رفضها الرئيس الفلسطيني مثلما أكد الدكتور صائب عريقات رئيس هيئة شؤون المفاوضات. الرئيس عباس سيتوجه إلى واشنطن في الأيام القليلة المقبلة للقاء الرئيس جورج بوش الابن، ونتوقع أن يتعرض لضغوط أكبر لقبول المقترحات المهينة نفسها أو بعضها من أجل إنقاذ ماء وجه إدارة أمريكية غارقة في الهزائم في العراق وأفغانستان وأخيرا جورجيا، حتى إن عدداً كبيرا من حلفائها الأوروبيين باتوا يبتعدون عنها وسياساتها الخارجية الفاشلة، ونخشى أن يضعف الرئيس عباس أمامها ويقبل بها أو ببعضها. وحتى لا يقع في «المصيدة الأمريكية» الأقوى لا بد من تحرك فلسطيني وعربي فاعل، وسريع، للتأكيد على فشل الرهان على المفاوضات وسقوط حل الدولتين، والتحذير من التفريط بأي من الثوابت الفلسطينية التاريخية، والتأكيد على أن طرفي المعادلة الفلسطينية في رام اللهوغزة قد فشلا في تحقيق أي تقدم ملموس للشعب الفلسطيني وقضيته، وانشغلا بأمور حياتية ثانوية بعيداً عن الأهداف العليا والسامية. فإذا كان هناك إجماع فلسطيني على أن المفاوضات والمراهنين عليها وصلوا إلى طريق مسدود، وأهدروا وقتاً ثميناً في عملية سلمية وهمية وعبثية، فإن من قبلوا بتهدئة مسمومة، وتخلوا عن المقاومة، ولو مؤقتاًَ، وهم الذين يتطلعون إلى الشهادة كهدف مقدس، لم يقدموا البديل الأنجع في وقت يبحث فيه الشعب الفلسطيني عن هذه البدائل. علينا أن نعترف بأن جميع مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية قد ضُربت، وأن السلطة الفلسطينية التي جاءت ثمرة خطة إسرائيلية أمريكية محكمة، لعبت دوراً كبيراً في تفكيك هذه الهوية، وتحويل الشعب الفلسطيني من شعب مناضل من أجل استعادة حقوقه المشروعة، يحظى بالتفاف العالم بأسره حوله، إلى شعب متسول، يبحث عن الراتب في آخر الشهر بعد أن أصبح أسيرا له، لا يستطيع العيش بدونه. سلطة رام الله تتسول الرواتب، وسلطة غزة تتسول فتح المعابر، ولو جزئياً، لإدخال كميات من الطعام والوقود والأدوية، أي أننا نعود كشعب إلى مرحلة ما قبل عام 1967، أي نعيش على مساعدات وكالة الغوث، التي تكاد تبقينا على حافة الحياة في مخيمات اللجوء والقهر دون أي كرامة وطنية، ننتظر كرم الدول المانحة، وحفنات دقيقها، وأرزها، وتمرها، وملابسها البالية. ومثلما كانت قوات الأممالمتحدة تتمركز في قطاع غزة لمراقبة الهدنة، بين العرب والإسرائيليين، هناك من يخرج علينا باقتراح غريب ومفاجئ بإرسال قوات عربية، بقيادة مصرية، إلى القطاع للفصل بين الفلسطينيين أنفسهم أولا، ثم بينهم وبين الإسرائيليين ثانياً، أي أن القوات العربية، بدلاً من أن تدخل إلى غزة محررة (بكسر الميم)، مثلما كان يأمل الفلسطينيون المحاصرون المجوعون، تذهب إلى القطاع محايدة بقبعات زرقاء، مثلها مثل القوات الكندية والهندية والبرازيلية والنرويجية، سابقاً. أي أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة أكثر سوءاً. السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري وصاحب نظرية كسر الأقدام يستحسن الفكرة هذه ويتحمس لها ويعتبرها «جذابة»، الأمر الذي يدفعنا إلى توجيه سؤال بسيط إليه وهو: كيف سيرسل هذه القوات إلى القطاع ورئيسه لا يستطيع زيادة عدد القوات المصرية جندياً واحداً في سيناء، رغم توسلاته للإسرائيليين، وأكثر من مرة، من أجل هذا الغرض؟ وتقديمه خدمات غير مسبوقة لحماية أمنها سواء بقتل المتسللين الأفارقة عبر حدودها طلباً للجوء، أو تدمير العشرات من أنفاق رفح على الحدود المستخدمة في تهريب الطعام ولقمة الخبز للمحاصرين. المراجعة الفلسطينية الشاملة من قبل السلطتين في رام اللهوغزة، ومن كل أبناء الشعب الفلسطيني للخروج من حالة الشلل الحالية التي تعيش في ظلها القضية المركزية الأولى، باتت حتمية وملحة، فاستمرار الأوضاع على وتيرتها الراهنة، في ظل الرهان على أوهام، والتضحية بالثوابت الوطنية من أجل راتب، أو قارورة غاز، أمر خطير علاوة على كونه معيبا، ويشكل إهانة للتاريخ الفلسطيني الحافل بالتضحيات والبطولات. فالحوارات الفلسطينية التي تستضيفها القاهرة حالياً، هي محاولة لإطالة بقاء حالة الشلل الحالية هذه لأطول وقت ممكن، وبما يخدم إسرائيل التي تستغلها لالتهام الأرض، وتهويد القدس، وتكريس الاحتلال، وتمزيق الهوية النضالية والجهادية الفلسطينية. المطلوب الآن حوار فلسطيني-فلسطيني مستقل يتركز حول كيفية الخروج من هذا المأزق، ويكون عنوانه حل السلطتين في قطاع غزةورام الله، وإيقاف مسلسل التسول والتوسل الفلسطيني الحالي، بأسرع وقت ممكن، والعودة إلى المربع الأول الذي نسيناه جميعاً، وهو مربع المقاومة والتحرير بكل الطرق والوسائل. الرئيس عباس الذي راهن على المفاوضات، وحل الدولتين، منذ إشرافه على مفاوضات أوسلو يجب أن يعترف علناً بفشل رهانه هذا، وأن يبادر مثل كل الزعماء الشجعان إلى حل السلطة التي يتزعمها، وأن يبادر بالاستقالة من كل مناصبه الحالية، فهكذا فعل ويفعل جميع الزعماء السياسيين عندما يفشل مشروعهم، والفلسطينيون ليسوا استثناء. نعترف وبأسف أننا لا نرى أي مؤشر لأي تحرك في هذا الاتجاه، بل نقرأ «فتاوى قانونية» تشرّع تمديد بقائه في السلطة، رغم الفشل الحالي الواضح للعيان، بعد انتهاء فترة رئاسته القانونية في كانون الثاني (يناير) المقبل. فوعاظ السلاطين المستفيدون من هذه السلطة جاهزون بفتاواهم لتحويل الفشل إلى نجاح، و«رش سكر على الموت»، مثلما يقول المثل الشعبي. الشعب الفلسطيني الذي قدم آلاف الشهداء والأسرى يجب أن يتحرك، لإنقاذ نفسه وهويته، وقضيته، من المستنقع العفن وتقليص الخسائر بأسرع ما يمكن، والعودة إلى الطريق الصحيح الذي سارت عليه جميع الشعوب الأخرى، وإقالة كل من أوصله إلى هذا الوضع البائس المخجل والمعيب.