ألفت عشرات الكتب، وبكل اللغات، عن أسامة بن لادن. لكن زعيم منظمة القاعدة بقي لعقد من الزمن، ولربما سيبقى في التاريخ المعاصر، أحد الألغاز المستعصية عن الفهم. إنْ رفعه أتباعه وأنصاره إلى مقام أسطورة حية، فإن خصومه وأعداءه من الغربيين، وبالأخص الأمريكيين، طالبوا برأسه حيا أو ميتا، على طريقة رعاة البقر. وقد جعلت أمريكا من اعتقاله أو تصفيته قضية وطنية جندت لها كل الإمكانيات المادية، التكنولوجية، البشرية والاستخباراتية. وبعد عشر سنوات من الملاحقة، نجعت الاستعلامات الأمريكية بفضل وشاية من زوجته الأولى -بدافع الغيرة- من تحديد مكان تواجده في أبوتاباد في باكستان، على مقربة من الأكاديمية العسكرية الباكستانية. هكذا استنفرت جميع المصالح الأمنية والاستعلاماتية لوضع خطة سرية تقضي لا باعتقاله، بل بتصفيته نهائيا. وفي ثاني ماي 2011، انطلقت طائرتا هيلوكبتر من نوع جديد لم يكشف عنه من قبل، وكان على متنها 19 جنديا من خيرة عناصر البحرية الأمريكية، تدربوا ليل -نهار على تفاصيل وأطوار العملية. في هذا الكتاب، يروي لنا جان -دومينيك ميرشي، الصحافي والخبير في العمليات الخاصة، الذي عمل لسنوات في جريدة «ليبراسيون»، قبل أن ينتقل إلى مجلة «ماريان»، تفاصيل هذه العملية كما لو كانت «حكاية بوليسية».. يجب، الآن، صعود طابقين آخرين. هرع الجنود إلى الدرج. اجتازوا جثة خالد ليفجّروا الباب الحديدي الأخير، الذي يفضي إلى الطابق الثالث. إذا كان أسامة بن لادن هناك، فإنه لم يتحرك، في الوقت الذي يعرف ما يجري. هل استسلم للقدَر؟ هل عجز عن الحركة؟ لا ندري. حين وصل الكوماندو الاول إلىpalier رأيت عناصره إلى اليمين، ودائما عبر النظارات الليلية، طيفَ شخص طويل القامة وملتحٍ يفرّ في اتجاه إحدى الغرف.. فتح الامريكي النار، لكنْ متأخرا. ذلك أن الرجل نجح في اجتياز الأمتار الثلاثة التي تفصله عن غرفة النوم. اتجه بقية أفراد الكومندو في اتجاه الباب الذي انسل منه الشخص، ليفتحوه بشكل عنيف. كان في الغرفة ثلاثة أشخاص: امرأتان أمام رجل. كانت أصغرهم، وهي أمل الفتاح، العقيلة الأخيرة لأسامة بن لادن، قد صرخت باللغة العربية، قبل أن تحاول الارتماء على أفراد الكومندو. أطلق عليها أحدهم رصاصة تحت الركبة. ثم ارتمى على المرأتين للإمساك بهما بعنف، قبل جرهما جانبا.. كانت الحركة سريعة ومتقنة. كان عضو الكومندو يخاف أن تكون النساء ممنطقات بأحزمة من المتفجرات قد لا تترددن في استعمالها.. لكنْ لا واحدة من هاتين المرأتين كانت يحمل متفجرات. يتطلب سرد وقائع هذه العملية الكثير من الوقت. المسألة، في الحقيقة، مسألة دقائق، تصرفات وحركات تعلّمها الكومندو خلال جلسات تدريبية لمحاربة الإرهاب. دخل جندي ثانٍ إلى الغرفة ليرى الرجل طويلَ القامة وهو بلباس قميص -سروال رمادي وعلى رأسه طاقية للصلاة. لم يكن مُسلَّحاً. وجّه الجندي فوهة بندقيته اللايزر على الرجل، ليميز خلال جزء من ثانية النقطة الضوئية المثبتة على صدره، قبل أن يضغط على زناد بندقيته من نوع (HK MP7) ويُفرغ رصاصة من عيار 5.56 ملم في صدره.. رفع بندقيته، مرة ثانية، ليطلق عليه النار من جديد، لكنْ هذه المرة فوق العين اليسرى. في هذه اللحظة، فارق أسامة بن لادن الحياة.. وهو في ال54 من عمره، كان بن لادن من أبرز المطلوب القبض عليهم في العالم. كان الشخصَ الخامس وآخر الموتى خلال هذه الأمسية. أنجزت المهمة. قبل الخروج لإنجاز المهمة، اتفقت فرق الكومندو على استعمال شفرة للتواصل: في اللغة الاصطلاحية العسكرية تعرف هذه الشفرة تحت مصطلح execution checklist، تطابق كل مرحلة من مراحل العملية كلمة يعتبر بثها على شبكة الراديو بمثابة تقرير. تم اختيار هذه الكلمات ضمن معجم له علاقة بهنود أمريكا، عفوا بأهالي أمريكا، كما هو التعبير المكرس اليوم.. حين تم العثور على أسامة بن لادن أعطيت التعليمات لاستعمال اسم «جيرونيمو»، وهو اسم أشهر قائد لهنود ال«أباش» (Apache). في الأيام التالية، تسبب هذا الاسم في نشوب سجال في أمريكا. يمثل جيرونيمو، فعلا، المقاومة العنيدة والطويلة التي خاضها الهنود في سبيل استعادة أراضيهم التي سطا عليها الأمريكان والمكسيكيون. كان الاسم الحقيقي لجورينيمو هو «غوايالي» والذي نجح في الإفلات من قبضة الأمريكيين لمدة 28 سنة، ما بين 1858 و1886.. وهي مدة زمنية أطول بكثير من مدة اختفاء بن لادن. لكنّ جيرونيمو انتهى بتسليم نفسه ليبقي في السجن إلى غاية وفاته بسبب التهاب رئوي في سن الثمانين. وإطلاق اسم «جيرونيمو» على أسامة بن لادن دليل على أن هنود أمريكا ما يزالون، دائما، أعداء الداخل.. وعليه، فإن هذا اللقب لم يكن في محله.. على أي، لم تكن التسمية لائقة ولا ذكية، إذ ما إن شاع الخبر حتى عبّر مختلف المسؤولين من الهنود عن استيائهم من هذا الاستخفاف.. وعليه طالبوا السلطات بتقديم اعتذار صريح، مع تغيير لاسم العملية. «أقسم» بعض المسؤولين في البيت الأبيض، ولا ندري إن كان ذلك بغاية تهدئة الاستياء، إن العملية لم تحمل يوما هذه التسمية. لكنّ الرئيس أوباما نفسَه سبق أن صرّح، خلال مقابلة مع قناة «سي -بي -إس»، بأن «جيرونيمو» هي الشيفرة التي أطلقت على بن لادن.. كانت العملية ستحمل اسم «Neptune Spear»، لكنها، في الأخير، حملت اسم الزعيم الهندي الثائر.. في بيت بن لادن، لم يهتمَّ أفرادُ الكومندو بالآثار السلبية التي قد تخلّفها تسمية جيرونيمو. قال الجندي الذي قام بتصفية زعيم القاعدة، في رسالته وهو يتحدث عبر جهاز راديو: «من أجل الله والوطن». قبل أن يضيف، بلغة مشفرة ما معناه: «قُتِل العدو في العملية».. كان أوباما يتابع العملية مباشرة من البيت الأبيض. ترجم مضمون الرسالة التي بثها الجندي للذين لم يفهموا ما قاله الجندي بكلمة: «قتلناه». كانت قد مرت 18 دقيقة بعد نزول طائرتي الهيلكوبتر بالمكان. ويا لها من دقائق!.. في نفس الوقت الذي أعرب أوباما (الحائز على جائزة نوبل للسلام) في العاصمة واشنطن وأهم مساعديه عن غبطتهم بموت عدوهم، كان أول جندي دخل إلى غرفة النوم تلك يُكبّل أيدي زوجتي بن لادن، مستعملا أصفادا بلاستيكية من نوع «سير فليكس»، قبل أن يجرهما في اتجاه الدرج. صادف في الطريق جنديين آخرين يصعدان بكيس بلاستيك لنقل جثة بن لادن.. جثما بالقرب من الجثة. بعد تفتيشها كاملة، وضعاها داخل الكيس. عثرا على قطعة قماش خاط عليها بن لادن رقمين هاتفيين ومبلغ 500 أورو (في حالة ما إذا اضطرّ إلى مغادرة المكان بشكل مُستعجَل). في بيت النوم عثر الجنود، كذلك، على سلاحين وضعا على أحد الرفوف: بندقية كالاشنيكوف، موديل «AK47» ومسدس نصف رشاش، من فصيلة «ماكاروف»، من صنع روسي. لكنْ لم يتسنَّ لأسامة بن لادن استعمال هذه الأسلحة ضد مهاجميه.. لم يرغب الجنود في البقاء في المكان طويلا. خلال العشرين دقيقة التالية، وفي الوقت الذي نجحت العملية، بدأت عملية أخرى: تجميع المعلومات. فهذا البيت هو بمثابة قلب للقاعدة، وتبقى المعلومات التي يمكن أن يُعثرَ عليها هنا ذات قيمة كبيرة.. في الطابق الثاني، فتّش كومندو مكون من 4 جنود الحجر ليضعوا داخل كيس من البلاستيك كل ما يشبه أقراصا مدمجة، شريط ديفيدي، وثيقة وذاكرة القرص الثابت. كما عثروا على الأستوديو الذي كان يسجل فيه بن لادن رسائله، بل عثروا وراء إحدى الستائر على اللباس الذي كان يرتديه بالمناسبة. ضمن الوثائق، عثر الخبراء الذين عكفوا على دراسة محتويات الملفات، أيضا، على أفلام بورنوغرافية!.. على أي، إنه الخبر الذي سرّبته وكالة المخابرات الأمريكية. هل هي حقيقة أم حرب سيكولوجية ضد بن لادن حتى بعد موته ولتشويه سمعته؟.. في الوقت الذي تواصل الفحص الدقيق للغرف لتجميع ما يمكن تجميعه، جمع الجنود النساء والأطفال خارج المبنى. كانوا مُصطفِّين على طول الحائط الذي يواجه الأرض الخالية التي حطت بها طائرة الهيلكوبتر الثانية. جلسوا على الأرض مكبَّلي الأيدي. كم كان عددهم؟ المعلومات غير دقيقة ويصعب التأكد من صحتها. كما سبقت الإشارة، لم يُعثَر على أثر لحمزة بن لادن. على أي، كانت هناك أربع نساء: خيرة، أم حمزة، الزوجة الثالثة، عمرها 62 عاما، وهي من جنسية سعودية، وسهام أم خالد، الزوجة الرابعة، وهي في سن ال54، من أصل سعودي أيضا وأستاذة لمادة النحو. ثم أمل، أصغرهن سنا، في ال29، وهي من جنسية يمنية والتي جرحت في ساقها، والتي تابعت صراخَها وصخبها ضد الجنود الأمريكيين.. أما المرأة الرابعة فلم يتم تحديد هويتها، ومن غير المستبعد أن تكون السيدة الباكستانية، زوجة خالد، أم ابنته مريم. إضافة إلى النساء، كان هناك أيضا 13 طفلا، أطفال أسامة وأمل: البنت الصغرى صفية، في العاشرة من عمرها، والتي أصابتها شظايا رصاص، طفلان (إبراهيم وحسين) وفتاتان: عاصية وزينب، إضافة إلى أربعة أحفاد لأسامة بن لادن.. تكفل بهم بعد وفاة والدتهم إثر غارة جوية أمريكية في المناطق القبلية من باكستان، وأخيرا، أطفال الكويتي الأربعة. استنطق أحد أفراد الكومندو الذي كان يجيد اللغة العربية، الجميع وبالأخص الاطفال. اتضح أنهم يجهلون هوية «العجوز» الذي كان يسكن في الطابق الثالث. أما النساء فرفضن تأكيد هويته، حتى وإن استعملت إحداهن كلمة «شيخ»، وهو لقب شرفي.