في امتحانات الباكلوريا حصل شاب من نواحي الجديدة، اسمه أنور عبادي، على نقطة 19،28 في امتحانات العلوم الفيزيائية. هذا الولد لم يدرس وفي فمه ملعقة من ذهب، ولم يستعد للباكلوريا بالوعود والساعات الإضافية، بل حاز عليها بالجد و«المعقول»، وعندما نجح خصص له والده هدية كبيرة جدا وهي «سيرْ أولْدي الله يرضي عليك دنيا وآخرة»؛ ومن المؤكد أن الشاب أنور يعرف جيدا قيمة هذه الهدية الغالية. هذا التلميذ الناجح لا ينتمي إلى تلك الفصيلة من الطلبة المدللين الذين يستعدون للامتحانات بوعود الهدايا والأسفار، ولم تعِده أسرته بسيارة «غولف سانْك» جديدة لو حصل على نقطة جيدة، وهو أيضا لن يغادر المغرب إلى كندا أو أمريكا للتسجيل في جامعاتها، بل سيبقى مرابطا في بلده لأنه ابن هذا البلد، هذا المغرب العميق بمغاربته الحقيقيين. وفي طنجة، حطمت ثانوية الحسن الثاني كل الأرقام القياسية في نسب النجاح في امتحانات الباكلوريا، حيث نجح أزيد من 90 في المائة من تلامذتها، على الرغم من أنها ثانوية توجد في منطقة معزولة ومهمشة وتضم تلاميذ كثيرين فقراء. هذه الثانوية، الموجودة في هامش المدينة، وعلى الرغم من أن عددا من تلاميذها يدرسون وهم يتضورون جوعا، فإنهم أعطوا الدليل على أن الدراسة لا علاقة لها بالمال ولا بالجاه ولا بالوعود ولا بالساعات الإضافية ولا بالتعليم الخصوصي. في المغرب تلاميذ كثيرون يشبهون أنور عبادي بالجديدة، وثانويات كثيرة تشبه ثانوية الحسن الثاني بطنجة، وهي كلها حالات تُكَذب خرافة التعليم الخصوصي، الذي صار أصحابه يجنون منه الملايير، مقابل زرع الأوهام بأن مستقبل تلاميذه أفضل من مستقبل تلاميذ التعليم العمومي. أنور عبادي لن يظهر بالتأكيد في برنامج «استوديو دوزيم»، أول برنامج «آراب غوت تالانْت»، ولا في أيٍّ من برامج المواهب التلفزيونية، والسبب بسيط وهو أنه موهبة حقيقية، موهبة في العلم الذي يصنع مستقبل الشعوب، علم الفيزياء والرياضيات، بعد أن تتحول بفضله من أقصى التخلف إلى أقصى التقدم. هناك آلاف التلاميذ مثل أنور، ومئات الآلاف مثل تلاميذ ثانوية طنجة، ولكل هؤلاء ينبغي أن نرفع أيدينا، تحيةً لهم لأنهم أمل البلاد في المستقبل، هذه البلاد التي لن تصنع مستقبلها الأصواتُ الغنائية الجميلة ولا معارض القفاطين المفتوحة ولا أبناء تلك النخب التي تتوارث المال والمناصب كأنها تتوارث صندوق ملابس وتدرس أبناءها أولئك في جامعات أوربا وأمريكا لكي تسلمهم مفاتيح البلاد. مستقبل هذه البلاد سيصنعه شباب مثل أنور عبادي، وسيصنع مستقبله تلاميذ يدرسون وهم يتضورون جوعا ويمشون حفاة تحت الشمس والمطر إلى المدارس البعيدة. لكن أبناء المغرب المتفوقين في دراستهم لا ينبغي أن يتوقعوا أن يفرش الآخرون طريقهم بالورود، ولا يجب أن يتوقعوا أن تأتي عندهم «اتصالات المغرب» لتتعاقد معهم وتضع صورهم في لوحات عملاقة في شوارع البلاد، ولا يجب أن يتوقعوا أن تأتي مجموعة «الضحى» وما شابهها من مقاولات «الليل إذا سجى» لكي تقترح عليهم مساعدتهم لإتمام دراستهم في أرقى الجامعات. مستقبل هذه البلاد ليس في يد الذين يهرّب آباؤهم الأموال إلى الخارج، وليس في يد من يخافون أن يتحول النسيم العليل في أية لحظة إلى عاصفة هوجاء، وليس في يد من لا يثقون في تراب وماء وذكريات الوطن، لأن وطنهم هو مالهم، وأينما استقرت ثرواتهم فثمة يرفعون رايتهم. مغربنا الحقيقي هو هؤلاء التلاميذ المكافحون الذين يقتطع آباؤهم المصروف من جلدهم لكي يوفروا لهم لقمة العيش وثمن الكهرباء، وليس أولئك الأبناء المترهلون الذين يبدون كأنهم خرجوا من بيضة العجين وتقتلهم الشمس في أول لفحة. مغربنا العميق هو الذي يحرز أبناؤه نقاطا عالية في الفيزياء والرياضيات ومختلف العلوم الحيوية، وليس أولئك الأبناء المدللون فارغو الرؤوس الذين يرطنون بالفرنسية مثل لعب عاشوراء المستوردة من الصين وسنغافورة. مستقبل هذه البلاد في يد تلميذ ينجح بتفوق فتقول له أمه «الله يرضى عْليك أوليدي»، وليس في يد ولد ينجح بالشفقة فيقول له والده «هاكْ سيرْ لهاوايْ». مستقبل هذه البلاد في يد أبنائها الصالحين، ولن يبقى إلى الأبد بين أنياب الفاسدين المتوحشين.