عبد اللّطيف الوراري يُجْمع الدارسون للشعر المغربي الحديث على أنّ إدريس الملياني واحدٌ من أهمّ رواد القصيدة المغربية الحديثة، إلا أنَّ أكثرَهم يحارون في تصنيفه أجياليّاً وفقاً لما درج عليه الدرس النقدي في تقسيم تاريخ الشعر إلى أجيال، منذ الستينيّات إلى اليوم. سألته: هل أنت ستّيني أم سبعينيّ؟ فأجاب، على البديهة: «هذه الحيرة آتية من أنّنا -أنا وبعضٌ من أبناء جيلي- كنّا بين مطرقة وسندان، أي بين مطرقة الشعراء الروّاد المُؤسِّسين والمُكرِّسين والمدرِّسين لحداثة الشعر المغربي، من أمثال أحمد المجاطي المعداوي ومحمد السرغيني وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني ومحمد الخمار الكنوني وأحمد الجوماري، وبين سندان الشعراء ما بعد هؤلاء الروّاد، بمعنى أنّنا وسط لا نحن من المُؤسّسين ولا نحن من جاء بعدهم من روّاد الحداثة (...) إلا أنّ هؤلاء، من نهاية الخمسينيات إلى بداية الستينيات، كانت مرجعيّتهم واحدة. أما الريادة فقد كنت شبّهتُها ب»سرير بروكست»، الذي يتّسع ويضيق حسب الهوى الحزبي والإيديولوجي والشخصي، إذ صار كلُّ شاعرٍ ينسب إلى نفسه أو تُنسَب له قيادة الريادة في الشعر المغربي الحديث». ولهذا لا يثق في مصطلح المجايلة، «لأنّ الشعر -في نظره- لا يُقاس بمثل هذا الزمن، إذ يمكن الجيلَ أن يستغرق وَقْتاً أطولَ أو أقصر»، ثم إنّ حركة الحداثة في الشعر مستمرّة ولها شروط سوسيو تاريخية. وعن النّقد في الشعر، قال إنّه «لما يزال محكوماً بالهوى الحزبي والسياسي والشخصي وهلمّ شرّاً.. هناك قبائل صيّرت الشعرَ ذا نزعةٍ قبَليّةٍ، وهو ما أسمّيه النقد الطائفي الذي ينتصر لمذهب أو نزعة ما لا علاقة لها بالشِّعر نفسه. وفي هذا الإطار، كان هناك بعض الشعراء مرتبطين رمزيّاً بأحزابٍ ومشاريعَ حزبية، وكلُّ هذا، في نظري، كان يتمُّ خارج الشعريّة. حتّى أنا ضحّيْتُ بنفسي وفاءً لالتزامي الحزبي والسياسي والإيديولوجي».. وهو ما جعله متحرّجاً ومنزعجاً من هذه الازدواجية في شعره، بمعنى كيف يكون وفيّاً لما هو حزبيّ وإيديولوجي، أو نضالي، بمقدار ما يكون وفيّاً لما هو فنّي وجماليّ في الشعر؟.. لكنْ سرعان ما استطرد قائلاً: «إنّني لا أتنكّر لما هو إيديولوجي بالقدْر الذي لم أَنْسَ همَّ التجديد الفني والجمالي في ما أكتب من شعر، بل عملْتُ، باستمرار، على أن أتخفّف ممّا هو إيديولوجي لحساب الشعريّة، وهو ما جعل القرّاء والنقاد يُقْبلون عليه أو يتواصلون معه. إن السياسي يُغْني التجربة الشعرية، وتارة أخرى، قد يُفقرها ويجني عليها.. ولَكَم نصحتُ الشعراء الشباب أن يكونوا حذرين في كتاباتهم من أيّ مرجعية سياسية أو حزبية، وأن يكونوا مخلصين لنداء الشعر، الذي لا يُخيّب أملاً، ولا يخذل». ولمّا سألته عن التجربة الشعرية الجديدة في المغرب، إن كانت قد استطاعت أن تُواصل مسار التحديث الشعري الذي بدأه جيل الروّاد، أم قطعت كلَّ صلةٍ بكُم وتوجّهت إلى ضفاف أخرى، قال إنّه «سُنّة أو حتمية تاريخية أن يأتي بعدنا هؤلاء الأبناء فيكونوا أوفياء للإرث الشعري الحديث الذي اختطّه الآباء، الرمزيون، وألا يقتلوهم، وألاّ يكونوا عاقّين ومُخيّبين لآمالهم في تحديث الشعر بحقّ». لكنّه لم يُخْفِ نقده لشعراء هذه التجربة، الذين بدوا، في نظره، «كتلة غير منسجمة، لا ثقافةً، أو إحساساً، أو رؤيةً ولغة. إنّهم شتات، أرخبيلات، أو هم جزر متنائية»، آملاً أن تجتمع لتُشكّل قارّة جميلة وصالحة للحياة، ومؤاخذاً عليهم افتقارهم إلبى كثير من المصداقية، من خلال مراهنتهم على قارئ وغد مجهول لا نعرفه، ثم إنّهم «يتزوجون على «القصيدة» ضرائر أخرى من «النثر»، بل وينهكونها تنظيراً، وسرعان ما يطلقونها ثلاثاً أو يهجرونها في المطابع إن لم يضربوها».. يقول ذلك لخشيته على مستقبل الشعر في المغرب ممّا لاحظه من «اصطفاف شعري، على غرار الغرور الحزبي والسياسي الانتخابي».. من هنا «مكمن الخوف عندما يأتي إليك دخلاء يُفْسدون من حيث يدرون ولا يدرون، ويدّعون أنّهم أحقُّ من غيرهم في مِلْكيّة هذا البيت الذي تسكن فيه أنت. وقد بدأت تظهر بعض الكتابات على شكل نقد ذاتي شعري لقصيدة النثر». ويستطرد قائلاً: «لكن، إذا افترضنا وجود أزمة شعرية فهي عامة تشمل الكتابة الشعرية كلها، مغرباً ومشرقاً وكونيّاً، لأسباب شتى كغياب كبار الشعراء والقضايا الكبرى، الحاضرة اليوم، ربيعاً عربيّاً وخريفاً شعريّاً.. ومغربيّاً تبدو الذاتية المفرطة محورَ الكون الشعري. وإذا كان الشعر المغربي قليلَ الالتفات إلى وحدة «أرواحه» متعددة المرجعيات المتوسطية، فإنه كثير «الأسئلة الكونية»، التي لا جواب لها في جميع الأطالس والجغرافيات. ربما المغربي بطبعه غير مغامر، كالمشرقي، الفينيقي». إدريس الملياني هو، عدا طيبوبته وقفشاته الخفيفة وميله إلى الاستمتاع بالحياة، شاعرٌ مشّاء. يمشي في الشارع العام، تثيره هذه الشجرة أو تلك الفكرة، متأبّطاً صحف اليوم، التي لم تعد تروقه، وعلى طرف لسانه أتيٌّ من الشعر والنثر، وأحياناً، تصلك دندناته الموقّعة، رغم بؤس الثقافة في زمننا، وتبرُّمه من رجال الحال، ومن دار لقمان، التي ما زالت على حالها.. سألتُهُ إن كان راضياً عن نفسه وشعره بعد هذه السنين الطوال التي عاشها شاعراً وشاهداً: «هل أنا راضٍ؟ الجواب لا يمكن أن يكون إلاّ بالنفي.. لستُ راضياً، فما كنّا نحلم به سعينا إلى التعبير عنه، ولكنْ عندما نقرأ ما عبّرْنا عنه نجده قاصراً ودون ذلك الحلم. فالإنسان لا حدود لآفاقه وأبعاده، إذ هو دائماً يريد أن يتجاوز ذاته ليعانق ذاته الأخرى، الحقيقية. إنّه مُقسّمٌ بين ما هو عليه الآن وبين ما يحلم أن يكونه.. أنا أحلم أن أكون مستحيلاً، وقد كفّ رامبو عن كتابة الشعر لمّا عجز عن التعبير عن هذا المستحيل.. الإنسان مادّي بقدْر ما هو ميتافزيقي. ومع ذلك، المستحيل نُحقّقه فوراً، وأما المعجزات فلا تحتاج إلا إلى وقت قليل جدّاً لتصبح منجَزات، كان هذا مما تعلمته من حب موسكو، التي لا تؤمن بالدموع»!..