تروج هنا وتتردد هناك، بمغرب الوطن العربي كما بمشرقه، وفي أعقاب انتفاضة تونس ومصر وليبيا، وإلى حد ما اليمن ثم سوريا، مقولة مفادها أن ما جرى في هذه البلدان العربية بداية عام 2011، ولا يزال يجري ببعضها الآخر إلى حد كتابة هذه السطور، إنما يدخل ضمن نطاق الاستثناء الصرف، الذي لا يمكن البناء عليه للخلوص إلى تثبيت القاعدة أو تعميمها، أو البناء عليها لاستشراف ما قد يجري مستقبلا في هذا البلد العربي أو ذاك، البعيد من هذه البلدان كما القريب منها على حد سواء. تتلخص دفوع «المشارقة» في القول إن ما جرى في هذه البلدان البعيدة أو القريبة جغرافيا من بعضها بعضا إنما هو نتاج سياقات معينة، محصورة الأبعاد ومحدودة النتائج والتداعيات؛ فالبلدان إياها، في رأيهم، قد خضعت لنظم في الحكم مركزية، أداتاه الأساس قوتا النار والحديد، ترتب عنها تكميم للأفواه والأفكار وإفقار للشعوب، بشرا وشجرا وحجرا، ونهب للثروات خطير، أصبح الحاكم بموجبها مالك السلطة الأقوى، ثم صاحب الأملاك الأوحد، ثم الضامن، بالارتكاز على ذلك، لمنظومة في الحكامة ظاهرُها الاستقرار فيما باطنُها الاحتقان والاستقطاب والتذمر المعمم الشامل. أما دفوع «أهل المغرب»، سياسيين وأهل رأي على حد سواء، فمفادها الزعم بأن ما جرى في تونس، ثم في مصر وليبيا واليمن، وسوريا اليوم، إنما هو من قبيل الشأن الداخلي الخالص، استنبتته ظروف ومعطيات ذاتية، أدى تدافعها المتسارع في الزمن والمكان إلى انفجار الجماهير الغاضبة في وجه حكام أساؤوا التقدير، أو تجاهلوا مجريات واقع الحال على الأرض، أو لم يدركوا طبيعة التحولات من بين ظهراني أبناء جلدتهم، أو ارتكنوا إلى مديح حاشية منبطحة ومرتهنة الإرادة، وإلى طمأنة غرب منافق، ليس له من صديق دائم ولا من حليف مستدام، بل له نفوذ ومصالح لا نية لديه لمقايضتها بكرسي هذا الحاكم العربي أو ذاك. هؤلاء كما أولئك يقولون هذا في قرارة أنفسهم، وفي ما بين بعضهم بعضا، في الصالونات واللقاءات الخاصة، وجهارة في بعض الأحيان، لكنهم يؤكدون مجتمعين وفي صلب كل ذلك أن ما جرى ويجري في هذه البلدان إنما يجب رده إلى خصوصية هذه الشعوب، ثم إلى طبيعتها، ثم إلى نمط علاقتها بالسلطة وبأركانها فرادى وتنظيمات؛ وبالتالي، فلا مجال -يقول هؤلاء- إلى تعميمه أو التطلع على تدويله على خلفية من «قياس مجحف»، لا تتساوى بمقتضاه بالمرة كل السياقات والخصوصيات والأوضاع الداخلية. لا يكتفي هؤلاء وأولئك بالقول والاعتقاد ذاته، بل يناهضون إلى حد التعصب كل من يقول بعدوى هذه الانتفاضات، أو بمدى أبعادها الإقليمية أو الجهوية، أو باحتمالية انتشارها انتشار النار في الهشيم.. حيثما وَجدت ذاتُ النار هشيما من أمامها، وريحا عاتية تزكيها وتؤجج مداها. ولهذا السبب لا يتوانى هؤلاء في الدفع بأطروحة أن ما يقع عند الجار ليس معديا بالمرة، وإن كان لعدواه من مفعول يذكر فهو مفعول محدود، متواضع التكلفة ومقدور عليه عند العلاج. ليس ثمة من شك حقيقة في أن لكل دولة عربية، بالمشرق كما بالمغرب، خصوصياتها أو خصوصيات محددة تميزها عن محيطها المباشر والبعيد.. حتى وإن تجانست شعوبها في اللغة والتاريخ والدين والأدب وما سواها. وليس ثمة من شك أيضا في أن ما جرى بتونس ومصر وليبيا واليمن، وما يجري أمام أعيننا اليوم بسوريا، إنما هو معطى خاص واستثنائي، إذا لم يكن بالسياق العام الذي انتظمت في إطاره هذه البلدان ولعقود من الزمن طويلة، فعلى الأقل بالقياس إلى تسارع وتيرة انتفاضات أزاحت طغاة على رأس دولها وفي حيز من الزمن قليل، وهم الطغاة الذين خلناهم، صراحة وفي قرارة أنفسنا، في مأمن عن كل زحزحة تذكر، فما بالك بالتشنيع والطرد. لكن الذي لا يصمد أمام التحليل، بالنظر إلى واقع حال دول المشرق والمغرب، إنما ضعف مقومات خطابهم، وتجاوز الخطاب ذاته الحقائق على الأرض، وهروبهم إلى الأمام تحت مسوغ «الاستثناء» عندما تتهاوى إحدى منظومات هؤلاء، ويضيق الخناق من حول رقبتهم، وتحاصرهم شعوبهم بالتعاطف مع ما يجري، أو بمجرد الإشارة بالأصبع أو بالكلمة أو بالصورة إلى أن القادم سيئ، وقد يكون أسوأ إذا لم يتم تدارك الأمر دون تأخر. إن ما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، ويجري الآن في سوريا وإن بوتيرة أقل، ليس ولن يكون بالمرة استثناء أو معطى خاصا صرفا أو حالة محددة عابرة. ليس ولن يكون كذلك بالمرة. إنه نتاج سياق واحد قد لا يختلف، لدى المشارقة والمغاربة، عن السياق الذي أفرز انتفاضة هذه الشعوب وضيق الخناق على حكامها، حتى اضطر بعضهم إلى الهرب والبحث عن ملجأ رفض عتاة أصدقائه منحه إياه، فما بالك بالأعداء، واضطر بعضهم الثاني إلى التنازل تحت الضغط الجارف للشارع، واضطر بعضهم الآخر إلى التسليم بمصيره بعد طول مكابرة وتعنت، فقتل وسحل وقدم مشوّها بالفضائيات ومواقع الأنترنيت، ثم قذف بجثته في مكان بالصحراء مجهول. إن ما جرى لهؤلاء ليس استثناء ولا حالة عابرة مجردة، محصورا سياقها في هذا البلد العربي أو ذاك. إنه سياق واحد، مشترك في الطبيعة والمقاصد، حتى وإن اختلف في الدرجة والرتبة: 1 - سياق الفساد السياسي العام، الذي تشترك فيه كل النظم العربية الحاكمة، في المشرق كما في المغرب، حتى ليخيل للمرء أن الفساد بات عنصر تنافس ومنافسة حقيقيين، تتسابق النظم ذاتها لتتولى السبق فيه بهذا التقرير الدولي أو ذاك، بهذا المؤشر الأممي أو ذاك، لا بل قل تتخذ منه أسس حكامة حقيقية، يتساوى من بين ظهرانيها الفاسد والمفسد، الجاني والضحية على حد سواء. لا يقتصر عنصر الفساد السياسي على تركيز أسس نظام الحكم في الحزب الواحد والزعيم الأبدي الأوحد، ولا على ما يستتبع ذلك من زبونية ومحسوبية وارتشاء وارتهان لإرادة الأفراد والجماعات، بل يتعداه إلى لجم الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والإعلام والمثقفين والمفكرين وما سواهم، حتى ليبدو للمرء أن التنوع هو الاستثناء (هو الحالة الشاذة يقول البعض)، في حين يدفع بالنمطية والتماثل لتكون القاعدة والأصل، أي لتكون بنية المعمار في شكله كما في مضمونه وروحه. ولا يقتصر هذا العنصر (عنصر الفساد السياسي أقصد) على اضطهاد المعارضين، مفكرين وسياسيين وفاعلين أهليين، والتنكيل بهم في الداخل، في عقر منازلهم أو في دهاليز السجون، بل يذهب إلى حد محاربتهم في الخارج، وحيثما وجدوا، واستهدافهم في الرزق، والحق في الحياة إلى أبعد مدى ممكن، بالمطاردة المستمرة أو بالاغتيال المصنف ضد مجهول. وعلى الرغم من اعترافنا بأن بعض دول المغرب والمشرق تتوفر على أحزاب ونقابات و«إعلام حر» وانتخابات وبرلمانات وما سواها، فإنها مع ذلك تنهل مجتمعة من منظومة الفساد بهذا الشكل أو ذاك، لا تختلف حالة بلدانها عن تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، أو غيرها هنا وهناك، على امتداد جغرافية الوطن العربي.. لا تختلف إلا في الدرجة، في حين أن الطابع والتطبع والطبعة هي هي، لا تتغير إلا في الشكل والمظهر. 2 - ثم إنه سياق الفساد الاقتصادي الذي يرتهن بموجبه الحاكم وعائلته وحاشيته كل مصادر الثروة الوطنية، المتحرك منها والساكن، القار منها والجاري، في ما يشبه وضعية الريع المطلق التي لم يسلم منها، في تونس مثلا، حتى مواطن بسيط كالشهيد محمد البوعزيزي، لم يكن يلوي إلا على عربة مهترئة بها بعض الفواكه والخضروات، لكنها كانت مع ذلك مزعجة لرعاة الريع وحماة الفساد، المرتزقين من إشاعته. لا ينحصر هذا الفساد (الفساد الاقتصادي) في احتكار كل القطاعات أو ارتهان الفاعلين فيها، جملة أو بالتفصيل، بل يتعداه إلى إجهاض كل مشروع فردي منافس، أو مبادرة خاصة، أو نية في الفعل الاقتصادي ببلدان تتبنى في خطابها المعلن المنظومة الليبرالية، وتلتزم، أو هذا ما يفترض فيها، بمبادئ السوق وطقوس العرض والطلب، وسيادة قيم المنافسة والتدافع لإنتاج الثروة. إنها منظومة تحتكم إلى السلطة والقوة لتستحوذ على ثروات بلدانها وأرزاق عبادها، سواء كان ثقلها في الميزان مرتفعا أو خفت الموازين في الضفة المقابلة. صحيح أن الفساد الاقتصادي، في المغرب كما في المشرق، مستويات ودرجات، لكنه هو ذاته هنا وهناك، لا يختلف في الطبيعة بقدر ما يختلف في مدى جشع هذا الرئيس وحاشيته، وجشع ذاك الملك أو الأمير وبطانته، وهكذا. الفساد، من هنا، بناء متراص، تقتات المنظومة كلها من مدخلاته وأيضا من مخرجاته، لا استثناء من بين ظهرانيه إلا لمن لم تطله يد الحاكم أو تدركه أيادي الحاشية، حتى وإن كان مجرد رغيف خبز حاف وجاف. 3 - ثم هو سياق ينتعش في ظله فساد القضاء، الواقف والجالس، باعتباره ملجأ المتظلمين ومقصد المظلومين. بهذه النقطة، نستطيع القول إن القضاء، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، كما القضاء في معظم دول المغرب والمشرق، إنما كان ولا يزال قضاء مستهانا، ومرتهنا، ومقيدا، ومسلوب الإرادة والفعل.. لا، بل هو جزء من المنظومة العامة، منظومة قوامها الفساد السياسي والاقتصادي، لا يفلت من عقالها إلا متظلم سانده الحظ، أو أغفلته العين، أو تغاضت عنه الأطراف لهذا الاعتبار العابر أو ذاك. إن كل مفاصل المنظومة القضائية، في هذا البلد العربي بالمشرق كما بالمغرب، لا تستطيع الإفلات من فلك السلطة أو من ابتزاز اللوبيات المتحكمة، لا بل تحولت هذه المنظومة في البداية ومع مرور الزمن إلى قلعة حامية لها (للسلطة الحاكمة أعني)، مسوغة لقراراتها، ومدافعة عنها، ومحتضنة لها، ومرتبطة بأجهزتها ارتباط الروح بالجسد. قد يكون ثمة، في هذا البلد العربي كما في ذاك، بعض من الحياد النسبي للسلطة القضائية (كما هو الحال في مصر، مثلا، أو هكذا يروج له)، لكنه غالبا ما يكون حيادا ممنوحا أو لذر الرماد في الأعين أو للادعاء بحكامة القضاء وتجرده عن مجريات واقع الحال، في حين أن ما يتعرض له المواطن المعدم من ظلم واستهداف هو في غفلة عن المنظومة ذاتها أو في حل منها بالجملة والتفصيل. إننا نتساءل، بناء على ما سبق، ونقول التالي: إذا كان ثمة من يدعي أن انتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن، ثم سوريا اليوم، هي من قبيل المعطى الاستثنائي، لا يشمل الجميع ولا يخضع لقاعدة تستوجب التعميم، فليقنعنا بعدم صوابية مقولة إن نفس الأسباب تعطي نفس النتائج.. تكون مساوية لها في القوة أو متجاوزة لها في المدى والتداعيات؛ ثم فليقنعنا كيف أن بعض من لم تشملهم نيران الانتفاضات بعدُ قد بدؤوا يتلمسون بعضا من الإصلاح عله يقيهم شرور ما تقدمه أياديهم وما تؤخره. وليطلعنا، فضلا عن كل هذا وذاك، عن الدرع الذي يمكن لهؤلاء التحصن به، عندما تنزل الجماهير إلى الشارع وتطالب، جهرا وجهارة، برحيل الحاكم، ليس فقط كنظام ظالم وفاسد، بل أيضا كمنظومة برعت مكوناتها وأذرعها في إشاعة الفساد، وتفننت في تخويف الشعوب وترهيبها والعبث بمقوماتها، المادي منها كما الرمزي سواء بسواء.