في قصبة الأوداية، يبدو الزمن وكأنه لا يتحرك، فالمنازل الواطئة، المصبوغة بالأزرق والأبيض، تبدو وكأنها نامت إلى الأبد في حضن التاريخ، وأصص النبات الأخضر متراصة أمام أبواب منقوشة ومزخرفة، والأزقة الضيقة هادئة ونظيفة كما كانت دائما، ونهر أبي رقراق هو نفسه كما كان منذ الأزل، والأسوار المطلة على المحيط لم تبق على جنباتها غير ذكريات ماض بعيد، أو ربما هو ماض ليس بعيدا جدا. الرباط في 2012 لا تتذكر محنة الرباط في 1612، أي بعد أربعة قرون بالتمام والكمال على آخر نزوح جماعي للموريسكيين نحو المغرب، وهي الهجرة التي استقر أصحابها على ضفاف نهر أبي رقراق، يشربون من مائه ويقتاتون من سمكه... ولهم فيه مآرب أخرى. الحكاية بدأت سنة 1609، عندما قرر الملك الإسباني فيليب الثالث طرد من تبقى من الموريسكيين المسلمين من الأندلس، أو ما كان يسمى الأندلس، لأن محاكم التفتيش، التي بدأت منذ سقوط غرناطة سنة 1492، قررت أن تتخلص من كل من لهم دماء أو أصول مسلمة، حتى لو كانوا قد تنصّروا ظاهريا ونسوا الإسلام واللغة العربية واللباس العربي بالمرة. الطرد الأخير والكبير للموريسكيين كان قاسيا، والمطرودون توجهوا نحو وجهة واضحة، وهي المغرب، واستقروا على ضفاف أبي رقراق، وهناك ظلوا يحلمون بالعودة إلى موطنهم الأصلي، لأنهم لم يكونوا لا عربا ولا مغاربة، بل إيبيريين مسلمين، أو ربما كانوا مسلمين، لأن عيشهم الطويل تحت الرقابة الصارمة للكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تشرف على محاكم التفتيش، جعلهم ينسون كل شيء، لذلك عندما حلوا بالرباط صار المغاربة يسمونهم «مسلْمين الرباط»، لأنهم كانوا نصارى في عيون المغاربة ومسلمين في عيون الملوك الإسبان، وهذه كانت محنتهم الكبرى. على ضفتي أبي رقراق، بين الرباط وسلا، أسس الموريسكيون إمارتهم الخاصة، وظلوا دائما يحلمون بالعودة إلى ديارهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، التي صار اسمها إسبانيا؛ ولأن ذلك لم يكن ممكنا بالطرق العادية، فقد تحولوا إلى سلك طريق آخر، طريق القرصنة، أو الجهاد البحري كما يجمع على تسميته المؤرخون المغاربة. هكذا، تحول الرباطيون والسلاويون إلى قراصنة أشداء، وحكموا أجزاء واسعة من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ووصل نفوذهم حتى البحار الأسكندنافية، وجعلوا السفن الأوربية تعيش كابوسا يوميا اسمه «قراصنة الأوداية». لكن محنة القراصنة الموريسكيين لم تتوقف، لأن سلاطين المغرب استغلوا مهاراتهم البحرية من أجل التفاوض وراء ظهورهم وجمع الثروات والغنائم. وحين حلت بداية القرن الثامن عشر، أخذت شمعة القراصنة الموريسكيين تذوي وترسل آخر ومضاتها بعد أن حاصرها السلاطين بعد عقد صفقات مع بلدان أوربا، وهكذا تحول كل شيء إلى ذكريات. اليوم، يبدو نهر أبي رقراق، الذي كان منطلقا وملجأ للقراصنة المغاربة، مجرد واد من ورق لا يقدم ولا يؤخر، وحتى سمك «الشّابْل»، الذي استوطنه على مرّ القرون، انقرض مع انقراض تاريخ هذا النهر. اليوم، في هضبة حسان، تبدو الصومعة، التي بناها موريسكيو ذلك الزمن، وكأنها جسد بلا رأس أو كأنها رأس بلا ذاكرة، فلا شيء في المدينة يدل على أن الأحفاد يتذكرون معاناة الأجداد. بعد أربعمائة عام كاملة ما بين 1612 و2012، ليس هناك شيء يذكر بما جرى، لا متاحف ولا ندوات ولا أفلام ولا مسلسلات ولا تذكير للأطفال ولا نصوص في الكتب المدرسية ولا برامج تلفزيونية.. إنه شيء مذهل أن يكون أجداد الرباطيين والسلاويين قد حكموا البحار، بينما أحفادهم لم يحكموا حتى ذاكرتهم. ربما تكون نقطة الضوء الوحيدة هي التي ومضت قبل بضعة أشهر، مع رواية «الموريسكي» لحسن أوريد، والتي تحكي جانبا من محنة تاريخية لأجداد ملايين المغابة، ليس في الرباط وسلا فقط، بل في مناطق كثيرة من المغرب، من طنجة حتى مراكش، ومن وجدة حتى تخوم الصحراء. كل ما تبقى اليوم في الرباط وسلا هو مآثر من ذلك الزمن وأسماء عائلية تحيل على زمن مضى، أسماء موريسكية يعرفها البعض ولا يعرفها كثيرون، وأيضا تلك الملامح الموريسكية التي تشي عيونها بنكبة تاريخية عظيمة، نسيها أهلها قبل أن ينساها الآخرون.