يزاوج المؤلف أوليفييه دانينو، في كتابه «حماس وبناء الدولة الفلسطينية»، بين البحث النظري والميداني، عكس الكثير من الكتابات السطحية والتبسيطية عن الحركة، فقد أقام دانينو مدة بفلسطين لمقاربة التصورات المتبادلة بين أطراف الصراع في عين المكان، غير أن الأسئلة المحورية التي بقيت نصب عينيه كانت من قبيل: من هي منظمة حماس؟ ولماذا دخلت غمار السياسة ما بين عامي 2004-2005 في الوقت الذي أوضحت أنها لن تخوضها؟ تلك بعض من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال القراءة التالية في كتاب «حماس وبناء الدولة الفلسطينية». غالبا ما تختزل الأبحاث والدراسات التي تتناول منظمة حماس، هذا الفصيل السياسي المسلح، في جملة كليشيهات وصور تبسيطية من قبيل «منظمة إرهابية»، «منظمة دينية متطرفة»، «يد إيرانبفلسطين»، «وكر الانتحاريين»...، دون التأكيد على الشروط الجيوسياسية، التي تحكمت في انبثاق المنظمة كبديل سياسي وعسكري شكّل ولا يزال معضلة حقيقية بالنسبة إلى منظمة فتح والدولة العبرية. لذا فأهم ما شد انتباه بعض الباحثين الذين قاموا بعمل إعلامي أكثر منه علمي، هي العمليات الانتحارية والردود الرادعة للجيش الإسرائيلي أكثر مما أثار انتباههم العمق التاريخي، الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، الذي دفع بحماس إلى إدراج العنف كمكون أساسي في أجندة كفاحها. كما أن بعض هذه الأبحاث لا تتجاوز، لما تعالج منظمة حماس، الفوز الساحق الذي حققته في الانتخابات البلدية لعام 2006. وتبقى الأبحاث التي تناولت تاريخ حماس جد قليلة مثل الدراسة التي أنجزتها المؤرخة آنياس بافلوفسكي بعنوان «حماس أو مرآة الإحباطات الفلسطينية»، أو الدراسات التي أنجزها كل من عزام تميمي وخالد حروب، وهما فلسطينيان يعيشان في بريطانيا. والكتاب الذي بين أيدينا، والذي ألفه أوليفييه دانينو، يزاوج بين البحث النظري والميداني. وأوليفييه دانينو متخصص في التاريخ وفي ميدان الجيو-سياسي، وهو باحث بالمعهد الفرنسي للتحليل الاستراتيجي (إيفاس) ونال جائزة جان-باتيست ديروسيل عن أشغاله في موضوع وضعية القدس بين 1949 و1967. أقام أوليفييه دانينو مدة بفلسطين لمقاربة التصورات المتبادلة بين أطراف الصراع في عين المكان، وأقام صلات مع خبراء إسرائيليين وفلسطينيين. ويشير دانينو إلى أن الأجواء لم تكن تساعد على خوض نقاش مفتوح وصريح لرصد موقف كل طرف. لكنه سعى إلى الإبقاء على الروح النقدية مع تغييب الحماسة. ومن التصورات التبسيطية التي تنصل منها مؤلف هذا الكتاب تلك الرائجة والقاضية بخلق معارضة بين الفلسطينيين «العلمانيين» و«المتطرفين». غير أن الأسئلة المحورية التي بقيت نصب عينيه كانت من قبيل: من هي منظمة حماس؟ ولماذا دخلت غمار السياسة ما بين عامي 2004-2005 في الوقت الذي أوضحت أنها لن تخوض غمارها؟ بعد أن حلل المؤلف تبعات الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، الذي تم في عز الانتفاضة الفلسطينية وانعكاسات هذا الانسحاب على العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية (بين منظمتي حماس وفتح)، حلل الحيثيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلسل الانتخابي لعام 2006 ونتائجه على المجتمع الفلسطيني. وكانت مناسبة لطرح سلسلة أسئلة تهم القاعدة النظرية لحماس وممارستها السياسية ونظرتها أيضا للعنف. وفي آخر البحث تساءل المؤلف عن رهانات المستقبل ومؤهلات المنظمة في التطور نحو حزب سياسي، ثم الخيارات السياسية المطروحة على المنظمة: إما الموافقة على خيار التفاوض مع إسرائيل وإما الحفاظ على منظومتها النظرية الرافضة لأي حل سياسي. حماس بين الخيار السياسي والعسكري يذكرنا الكتاب بأن أي منظمة ثورية كيفما كانت أيديولوجيتها وأهدافها مطالبة دوما بالقيام بخيارات إستراتيجية صعبة، بل خطيرة، وأول مبدأ يحكم هذه الخيارات هو مبدأ سياسي يتطلب إثبات شخصية هذه المنظمة كمنظمة ذات فرادة. أما المبدأ الثاني فهو مبدأ عسكري. ويتعلق باختيار وتحديد المقادير المستعملة في العنف المسلح.. وهذا ما طّرح على منظمة حماس. وقد انصب الخيار السياسي على ميثاق المنظمة الذي ينص على عدم الاعتراف بإسرائيل «وطن الشعب اليهودي» مع المطالبة بعودة الشعب الفلسطيني. لذا فإن التخلي عن هذين المبدأين معناه فقدان المنظمة هويتها. أما المعضلة العسكرية فتخص الحسم في مسألة الخيار بين التحدي والهدنة. هل يجب التخلي عن إطلاق الصواريخ على العدو؟ هل يجب التخلي عن العمليات الاستشهادية؟ على أي حال، فإن التخلي المبكر عن هذه الأساليب العسكرية يمكن أن يحرم الحركة من خيارات ناجعة. لذا فإن استراتيجية المنظمة تقوم على الحذر واليقظة. ولما نقارب المعضلات المطروحة على المنظمة ندرك بأن التاريخ يعيد نفسه مقارنة بمسار منظمة فتح، وبالنظر إلى المشاكل التي عرفتها المنظمة والخيارات التي تم اتخاذها. أي شكل من الكفاح يجب اختياره؟ أية مهام للفدائيين الموجودين بعين المكان أو خارج الوطن؟ أية وحدة يجب تحقيقها؟ أية مبادئ يجب الحفاظ عليها أو التخلي عنها تجاه إسرائيل؟ بأية طرق يجب إسماع صوت المنظمة على المستوى الدولي؟ تبقى هذه الأسئلة والظروف مماثلة مع مسار منظمة فتح، مع فارق وحيد وأساسي هو أن طريقة التعريف بالمشاكل لم تصبح كما كانت عليه، وأن العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين أصبحت تندرج في نظام جيو-سياسي تدمغه المواجهة. ومن ثم فإن الخيارات السياسية والعسكرية مرشحة لإنتاج نتائج مختلفة. هوية حماس والنقيض الإسرائيلي بين تأسيس منظمة فتح وتأسيس منظمة حماس، وهو فارق جيلين، وقعت أربعة تحولات رئيسية: انتهت الحرب الباردة، وانقرض الاتحاد السوفياتي والماركسية اللينينية. إذ قاد انتصار الولاياتالمتحدة إلى هيمنة شمولية لأمريكا على الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك وجدت المجتمعات العربية نفسها مطالبة بإعادة حساباتها. كما أن الدعم الذي كانت تحظى به في الأمس من طرف الاتحاد السوفياتي لم يعوض بدعم روسي. تغير الحقل أو المجال الأيديولوجي. إذ اختفت الماركسية اللينينية، الدولية، المناهضة للإمبريالية وذات التوجه العالمثالثي، الأيديولوجية التي ألهمت كلا من جورج حبش أو أحمد جبريل. ثم ماذا تبقى من الأيديولوجية البعثية لميشال عفلق، التي تمت قرصنتها من طرف طغاة سوريا والعراق؟ بدل هذه الأيديولوجية انبثق تصور جديد للعالم وللمجتمع، تصور ديني، متصلب وغير متسامح. الحركة الوطنية شاخت تغيرت إسرائيل، كما اتسعت المستعمرات في قطاع غزة. وقد ترك زمن اليوتوبيات الاشتراكية المكان للأيديولوجيات الدينية المتصلبة، بل المتطرفة، التي وضعت في حسبانها خيار التضحية والاستشهاد. في هذا الإطار المتقلب واجهت حماس خمس صعوبات تشكل الأجندة الثابتة لأي منظمة ثورية، سواء لجأت إلى أساليب قانونية أو غير قانونية. هذا الفصيل الشبه سري مطالب بخوض الحرب ضد عدوه الرئيسي، وبتجاوز الخلافات الداخلية، إزاحة الخصوم، وبالأخص منظمة فتح، وكذا مراوغة تدخلات الحلفاء والفوز بثقة واعتراف المجموعة الدولية أو على الأقل قسم منها. تتعلق هذه الصعوبات الخمس بوحدة الحركة، وبالصراع العنيف بين حماس وفتح، وكذا بالتحالفات، وبالمجتمع الدولي الموزع بين العطف والشك، وبالموقف من العدو الإسرائيلي. في الميادين الخمسة المذكورة أي فوز تكتيكي كفيل بمساعدة المنظمة على تمتين شخصيتها وتحسين وضعها بصفتها فاعلا استراتيجيا لا يمكن تجنبه. وتشدد حماس باستمرار على أن المواجهة المسلحة مع إسرائيل تبقى ضرورية وشرعية لأن هويتها تتشكل انطلاقا من معارضتها لإسرائيل، أو ما تسميه «مقاومة المحتل الصهيوني». وينطبق على حماس ما ينطبق على كل الحركات الثورية، أي أن وجودها لا يتم إلا بفضل عدو ما. كما أن عليها إثبات قيم وأهداف تتعارض مع العدو. وقد أسست جميع الحركات الفلسطينية هويتها على هذا الاحتلال وعلى التعارض مع العدو. الانتخابات نقطة تحول كبرى على المدى البعيد تصارع حماس إسرائيل على نفس الأرض. كما أن العامل الديمغرافي يأتي ليعقد الوضع ويزيد من حدة المواجهة. ويجب إضافة بأنه علينا أن لا نخطئ أهداف التاريخ والذاكرة. فالعديد من المنظمات الثورية تمت تصفيتها عن طريق قمع منهجي وذكي غالبا ما داس أبسط الحقوق. لقد انتهى مهزومو التاريخ هؤلاء في سلة مهملات التاريخ، وكادت منظمة حماس أن تعرف نفس المصير. ولوضع حد للعمليات الانتحارية قرر أريال شارون قطف رؤوس الحركات الفلسطينية، التي تلجأ إلى هذه الاستراتيجية. وكان المستهدف الأول هو منظمة حماس. إذ في ظرف ستة أشهر، تمت تصفية الشيخ ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. كما لاحقت إسرائيل مهندسي العمليات الانتحارية. هكذا دخلت المنظمة في بداية نفق حالك قبل أن تسترجع أنفاسها من جديد لتعطي البرهان على تجذرها ومرونة بنيتها السياسية. ومع الانتصارات التي أحرزتها المنظمة، اضطرت إلى سن نوع من التعايش. إذ خلف انسحاب إسرائيل من قطاع غزة فراغا وفرصة في نفس الوقت. ولم تفوّت المنظمة فرصة المشاركة في الانتخابات البلدية، وهي انتخابات اكتست أهمية كبرى بفلسطين. وكان النصر حليفها عام 2006. وكانت وضعية في غاية التعقيد بالنسبة لحركة ادعت أن الكفاح المسلح وحده يمكن أن يقود إلى النصر. وبمشاركتها في الانتخابات اكتشفت حماس فضائل الاقتراع الانتخابي، وانتهى بها الأمر في الأخير إلى السيطرة على غزة. كانت المنظمة مطالبة بالبرهنة على قدرتها على الإدارة وتسيير الشؤون المتعلقة بحياة الناس، الذين لم يكونوا مناضلين ولم تكن لهم بالضرورة روح التضحية، وأصبح من الضروري التمييز بين الجناح العسكري الذي كوّن الأطر وبين كل القطاعات التي لم تكن موجودة من قبل. كان على المنظمة أن ترسخ صورتها النظيفة وقدرتها على التسيير المالي كما كان شأن حزب الله بجنوب لبنان قبل عشرين سنة خلت. وعليه كانت المنظمة بحاجة إلى موارد مالية ورؤوس أموال طرية. منذ وصول أريال شارون إلى الحكم عام 2000 اعتبرت الحكومة الإسرائيلية بأن حماس لا تعدو كونها ورقة في لعبة طهران مثلها مثل حزب الله. لكن ليس مؤكدا أن تكون المنظمة ذات الميولات السنية المنفتحة على التأثير الإيراني تجعلنا نتحدث عن مراقبة من طرف إيران. لربما تم بينهما حلف موضوعي، لكن غلبة الأيديولوجية الدينية على المصالح الوطنية والعشائرية لم تكن مضمونة مائة بالمائة، فالقوس الشيعي لا يزال يصطدم بمقاومة الأنانيات الوطنية، فلا الحكومة العراقية ولا السلطات العليا الشيعية بالعراق مستعدة لمبايعة طهران. في لبنان ابتعد حزب الله بدوره عن إيران بسبب مسؤولياته كحزب سياسي في الساحة الوطنية. لذا فإن أهم ما يتحكم في توجهات المنظمة اليوم هو مصير فلسطين واستراتيجية إنقاذها من التشرذم ومن المطامع والنسيان .
المحرك البديل السؤال الأساسي المتعلق بشخصية حماس هو أيديولوجيتها الإسلامية. إذ قطعت الحركة مع التقليد العلماني للحركة الوطنية الفلسطينية. لكن فرانسوا جيري يوضح في تقديمه أن الفلسطينيين إن أعطوا ثقتهم لمنظمة حماس فلأنهم تعبوا من المؤسسة التي مثلتها منظمة فتح، بما ترمز له من ارتشاء، بل أكثر من ذلك لعدم قدرتها على تحقيق الأهداف السياسية التي حددتها. وبصفتها حركة شابة، ظهرت حماس كمحرك بديل بفضل نضاليتها ودينامية أطرها. لكن هذا لا يعني- وتؤكد ذلك جميع استطلاعات الرأي- بأن الشعب الفلسطيني انساق نحو الأصولية الإسلامية، بل العكس. تعرف منظمة حماس نفسها بأنها حركة مقاومة لها الحق شرعيا في استخدام كل الأسلحة الممكنة لمحاربة العدو الصهيوني. ولتشجيع وتبرير العمليات الانتحارية سبق للشيخ ياسين أن استعمل صيغا راديكالية من قبيل: كل إسرائيلي كيفما كان جنسه أو سنه هو عسكري ولا مجال للتمييز بين كل الإسرائيليين. فالمدنيون، بل حتى رجال الدين يحملون السلاح. لذا لا يجب اعتبارهم إذن مدنيين. وإن اعتبرنا أن عدم التمييز بين الأهداف يشكل خاصية للإرهاب، أصبح من الممكن القول بأن منظمة حماس هي حركة مقاومة تمنح لنفسها الحق في استعمال سلاح الإرهاب. لماذا؟ للرد، وللتعويض عن نقائصها وتجاوز الوضعية الدونية. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح بالنظر إلى هذا الوضع هو: هل يلعب الوقت اليوم لصالح حماس؟