من جميل الصدف أن ترحل الحكومة اليمينية الفرنسية قبيل الذكرى السنوية لإعلان وحدة المجلس الوطني للمقاومة في فرنسا (27/05/1943). فقد كنا ننتظر، والنهج التدخلي الفرنسي سنة القوم، أن يستعيد الديغولي آلان جوبيه صورة توحيد فصائل المقاومة الفرنسية في تدخلاته المبالغ فيها في الشؤون السورية، لكنه لم يعطنا الحق في أكثر من نسخ ومسخ التجربة الليبية، مدافعا عن أنموذج المجلس الانتقالي ونظرية الانضمام إليه، مع كل ما تركه ذلك من شروخ وقروح في مشروع وحدة البرنامج والأداة للمعارضة السورية. في 1943، كلف الجنرال ديغول رئيس فرنسا الحرة جان مولان بتوحيد صفوف المقاومة. ويروي مساعد مولان دانييل كوردييه أن الهم الأساسي في وجود مولان أصبح كيف نشبك ونقرب بين مكونات المقاومة تحت سقف برنامج مستقبلي وجامع لكل الفرنسيين، خاصة وأكثر من ستة مشاريع وتقارير جدية كانت متداولة آنذاك، وخلافات غير قليلة بين برامج تتناول التأميم والضمان الاجتماعي وحقوق المرأة وأخرى محافظة أقرب إلى الليبرالية منها إلى الاشتراكية. ناهيكم عن التفاوت بين الأحزاب التقليدية وحركات المقاومة الناشئة والنقابات العريقة عميقة التأثير في المجتمع الفرنسي. ولعل المؤرخ لوران دوزو أحسن من وصف عقلية التقريب بين مختلف الأطراف بالقول: كان البحث عن اتفاق عقلاني ومنطقي أكثر منه انتساب بدون تحفظ. ويجمع المؤرخون على أن أهم عوامل إنجاز الاتفاق هي تمتع الحاضرين، وعلى رأسهم جان مولان، بكل صلاحيات التوقيع، عزلهم عن العالم الخارجي وضرورة الاجتماع على الأراضي الفرنسية، بحيث تكون جملة المؤثرات داخلية ووطنية، والقدرة على رسم معالم جمهورية فرنسية بعد الاحتلال تشكل مشروعا جاذبا لأغلبية حقيقية في المجتمع. من هنا وضوح البرنامج السياسي الممهد لمؤسسات ديمقراطية والتأكيد على البعد الاجتماعي والاقتصادي للحقوق السياسية والمدنية المتفق عليها. وقد تمكن جان مولان وفريقه من توقيع اتفاق بين حركات المقاومة والأحزاب الجمهورية التقليدية واتحادين عماليين كبيرين على نص أقر بالإجماع، ودون أية تدخلات من أي طرف خارجي. أرجو ألا يفهم من هذا التقديم أنني من أنصار نسخ تجربة المقاومة الفرنسية عوضا عن نسخ تجربة الانتقالي الليبي، فقط أحاول القول إن التجارب التاريخية الكبيرة ملهمة بالضرورة وفيها دروس وعِبر يمكن الاستفادة منها؛ فمنذ أشهر ونحن نتعثر الخطوات في التقريب بين أطراف المعارضة السورية، وصار من الضروري، إن لم يكن تحديد ما يجب فعله من أجل التنسيق والتقارب، فعلى الأقل الابتعاد عن كل ما يشكل عائقا أمام التقارب والتنسيق والوحدة البرنامجية على الأقل. - أول عوائق التقارب والعمل المشترك استمرار فكرة الحزب القائد في ذهن العديد من تكوينات وشخصيات المعارضة. وهذه الفكرة ناتجة أولا عن ترويج الدكتاتورية لهذه الفكرة ودسترتها في القوانين والعقول لأربعة عقود زمنية. وكون العديد من القيادات (أطال الله في عمرها) قد شهدت وتبنت في برامجها الحزب الثوري أو القائد أو الممثل الحقيقي للاشتراكية أو الشيوعية أو الإسلامية أو القومية.. فقد حمل بعضها أو نقل إلى أبنائه هذه الفكرة بأمانة. لذا يكفي أن نحفر قليلا في اللاوعي السياسي لتظهر هذه العقلية. من هنا كان من السهل ولادة فكرة «الممثل الشرعي والوحيد» في صفوف المعارضة، وأن نجد من يستبسل في الدفاع عنها دون خجل أو وجل؛ - العائق الثاني هو استقلال القرار السياسي، فقد تبين سريعا حرص عدة أطراف إقليمية ودولية على التدخل في الشأن السوري، بما في ذلك شؤون المعارضة. ويتضح ذلك في حوارات كل أطراف المعارضة مع الإقليمي والدولي. وكون نظرية الأواني المستطرقة لا تسمح لأي سر بالعيش أكثر من زمن الضيافة العربية (ثلاثة أيام)، فكل الطلبات التركية حول القضية الكردية من المجلس وهيئة التنسيق والجيش الحر معروفة للقاصي والداني، وكل المواقف الخليجية (السعودية والقطرية بشكل أساسي) في اجتماعات اللجنة الرائدة لمؤتمرات أصدقاء الشعب السوري موجودة لدى هيئة التنسيق والمجلس الوطني على الأقل. وليس سرا الطلب علنا من أطراف إقليمية محاصرة هيئة التنسيق الوطنية، ماليا وإعلاميا وسياسيا، بل والإلحاح على بناء بديل لها يذكرنا بدعاية (كندا دراي): مشروب غير كحولي له طعم الكحول ومذاق الكحول ولكنه بدون كحول! - العائق الثالث هو غياب التعبيرات والأشكال الوسيطة للتنسيق والتقارب، فلم تطرح، مثلا حتى اليوم فكرة صوت إعلامي جامع يقرب بين الأطراف في حوار نقدي شفاف من نمط صحيفة الشرارة (الأيسكرا) في روسيا، ولم تنظم ندوات بحثية مشتركة حول مواضيع جوهرية مثل «معالم المرحلة الانتقالية، ممن مع من وكيف ومتى؟»، العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على السلطة الأمنية العسكرية، الدستور السوري المطلوب، ضرورة وجود مبادئ فوق دستورية... إلخ. - العائق الرابع حظر فكرة تواصل الحد الأدنى بين مختلف أطراف المعارضة، أي وجود «لجنة تواصل دائمة» في الطوارئ والنوائب والمستجدات لتبادل وجهات النظر وتقريب المواقف بين مختلف مكونات المعارضة في الداخل والخارج. أسباب الحظر معروفة لأهل البيت، والمهم القدرة على تذليلها بحيث لا نعيش في ظل مبدأ «كل شيء أو لا شيء» المغيب لفكرة التراكم المنطقي والجدلي للنضال الموحد. لقد لعب المال السياسي دورا تخريبيا كبيرا في أوساط المعارضة، ولا شك اليوم ونحن نعيش فترة اضطراب لا سابق لها في تصور السوريين للمعارضات على اختلافها وتزعزع قناعات الغرب في مسيرة ظنها لخدمة الثورة والمجتمع بأننا في أمس الحاجة إلى مواقف جريئة تقطع مع أسلوب تأكد فشله وتمهد لخطوات أثبتت التجربة الإنسانية ضرورتها لترجمة النضال الميداني في برنامج سياسي قادر على إخراج المعارضة من حالة الاستعصاء التي تعيشها وإخراج البلاد من أزمة الثقة بوجود بديل ديمقراطي مدني قادر على تحمل مهمة الانتقال السلمي للديمقراطية.