للفرح لون قد يكون أبيض أو أخضر عندنا نحن العرب المسلمين، أما الهولنديون فلون فرحهم برتقالي خالص، ولا علاقة له بلون علم هولندا المخطط بلون ثلاثي أبيض وأزرق وأحمر. هي فرحة هولندا كل عام، والمناسبة هي الاحتفاء بالملكة التي تنحدر من بيت البرتقال، فاسم عائلة هولندا الحاكمة هو «أورانيا ناسو»، وأورانيا تعني البرتقال باللغة النيرلاندية. إنها، إذن، صدفة جميلة أن تعيش مع الهولنديين فرحهم بعيد ملكتهم، وهو في الأصل عيد ميلاد الملكة جوليانا الأم. وقد كانت ألوان العلم الهولندي في البداية تتضمن اللون البرتقالي أيام الحاكم «كيوم دورانج ناسو»، الذي حكم هولندا من 1533 إلى1584، والذي تزعم الثورة في هولندا ضد ملك إسبانيا فيليب الثاني. الملكة بياتريس، التي تحكم هولندا منذ عام 1980، هي من مواليد 31 يناير، لكنها اختارت الاحتفال بعيد والدتها تشريفا لها، وجعلت منه يوم عيدها أيضا. خلال العيد تجوب الملكة شوارع وأزقة المدينة المحتفى بها، حيث رسخت تقليدا ديمقراطيا وهو مشاركة الأهالي احتفالاتهم في مدنهم وهي مرفوقة بأبنائها وأصهارها، وكل عام تحتفل في ولاية من الولايات الخمس الموجودة بالأراضي المنخفضة. اختارت الملكة هذا العام ولاية أوتريخت، حيث حلت بها منذ ساعات الصباح الأولى لتجوب الشوارع الرئيسية وتتفقد احتفالات الناس بكل تلقائية. الملكة تصفق وتقف لالتقاط صور مع المعجبين وتتقبل الهدايا وتطرب للموسيقى في التحام حميمي مع شعبها، بينما الناس يحيونها باحترام وحبور ويطلبون منها الاقتراب أكثر لالتقاط صور تذكارية. الأمراء بدورهم ينخرطون بتلقائية مع الناس في الاستماع إلى الموسيقى والرقص معهم، واللعب أيضا، وهم في كامل أناقتهم الملكية. مشاهد صاخبة من الفرحة يبدع فيها المصممون الهولنديون... طرابيش وتيجانا وسلاسل من ريش برتقالي يطوق أعناق الجميلات، وقبعات براقة تستلهم البرتقالي، وألوان علم بلدهم أحيانا. حال الناس عيد.. والفرحة تنتشر في كل مكان. هذا اليوم هو كذلك فرصة بيع حر لكل شيء لأنه يوم تلغى فيه الضرائب، بحيث تبدو لك كل الأسر وقد أخرجت شيئا مما تريد الاستغناء عنه لتبيعه عند باب الدار. انتابتني فرحة خاطفة وأنا أمر بكهل مغربي يعرض على طاولته صينيات كبيرة قديمة و«برارد أتاي». إنها جزء من ذاكرة حنين إلى دور المغرب العتيقة. قلت لنفسي: على الأقل، هناك مكان لنا وسط «عرمة» الهولنديين البرتقاليين. هناك أيضا أكشاك لكل أنواع الأكل والشراب، الحلال منه والحرام، ولك أن تختار. الشباب يسكبون في جوفهم براميل من البيرة المرصوصة في العراء. إنها فوضى الفرحة متاحة للجميع ولا أحد يحتج أو يفرض ضريبة على الأزبال. البلديات بدورها تحصنت ليوم الاحتفال وزرعت مراحيض متنقلة للنساء والرجال تحسبا لإفساد رائحة الشارع من جراء احتساء «البيرا»، بل وسيجت كل حدائق المدينة بالحديد حتى لا يضر المبتهجون السكارى بالخضرة، فهي مجال مقدس في البلد. يدهشك وسط كل الصخب والموسيقى والألوان سلْم الناس، فلا جدال أو خصام أو مشادات لفظية. تدخل بينهم لتتفرج على فرحهم وتمضي، لا أحد يأبه للونك وجنسيتك. فرقة موسيقية إفريقية شدت الانتباه فتحلق حولها الهولنديون يتفرجون ويرقصون. الفرحة هنا تغمر حتى الوديان، والقوارب تتلحف البرتقالي وتصدح بالفرحة، الكل يمخر عباب الماء بمرح.. قوارب عائلية وأخرى تحمل شلة أصدقاء يصرخون ويشربون ويأكلون، وعشاق يجلسون في حميمية ورومانسية بين الماء والاخضرار على الضفاف. تتفرج على الفرح الهولندي بجمالية استثنائية وتعيش متعة بصرية نادرة يمتزج فيها البرتقالي بالوجوه الحسناء وخضرة الربيع الأخضر الكثيف. إنها لوحة فنية من الحياة تتكرر كل عام احتفاء بالملكة، ملكة جعلت من الاحتفال حقا للشعب أولا، وحولت يومها إلى ذكرى جميلة بعيدا عن البروتوكولات واللقاءات الرسمية. حينما سنتمكن في بلداننا من رسم الفرح على كل الوجوه، لا فرق فيها بين غني أو فقير، بين كبير أو صغير، فسنكون بلدا ديمقراطيا بالفعل.