في فلسطين، الأسرى يحررون الطلقاء، أعني هذا حقا لا مجازا، فقد كان أفق العمل الوطني في فلسطين مسدودا ففتحه الأسرى. كانت السلطة الوطنية الفلسطينية قبلت بسلام نتنياهو الاقتصادي، وجمعت السلاح من الناس، ثم جمعت الناس من بيوتهم إلى سجونها، حتى أصبحت كتابة عبارة واحدة تدعو إلى حل السلطة على صفحة أحد النشطاء أمرا يُخاف منه عليه. والسلطة أسست لنظام اقتصادي قائم على الديون، فالفلسطيني الذي يتقاضى مرتبا منها، يقدر أن يشتري سيارة أو بيتا بالقرض، فإن انقطع عنه راتبه لم تقف خسارته عند ضياع قوت شهره، بل ضاع بيته وسيارته وتعليم أولاده. لقد حبست السلطة الفلسطينيين في الضفة في قفص ناعم لكنه متين، يمنعهم من التمرد على إسرائيل أو محاولة مقاومتها، فهو يرفع كلفة المقاومة على الفلسطينيين ويخفض كلفة الاحتلال على إسرائيل. في المقابل، قامت السلطة بالاشتراك مع إسرائيل والنظام البائد بمصر في تشكيل حلف لحبس فلسطينييغزة الذين اختاروا نهج المقاومة المسلحة في قفص خشن، فحوصر القطاع من جهاته الأربع، وما زالت الحكومة المصرية الحالية تكمل حصاره وتضيق على أهله، وما زال أهله منذ حرب عام ألفين وثمانية غير قادرين على بناء ما تهدم من بيوتهم لأن مصر تحديدا تمنع الإسمنت والحديد والرمل وغيرها من البضائع عنهم. أما أهل الداخل، أي العرب من أهل فلسطينالمحتلة عام 1948، فحصارهم دائم منذ ستين سنة، أسرى في مدنهم وقراهم بل وفي اضطرارهم اليومي إلى استخدام الشيكل واللغة العبرية. أقول، إن جميع الفلسطينيين في الضفة الغربيةوغزة، إذن، أسرى. أهل الضفة أسرى سيف سلام فياض وذهبه، أسرى شرطته وقروضه، أدوات تعذيبه وصحون كنافته العملاقة، أسرى مقاهي رام الله ومراقصها ومهرجاناتها وحواجز الإسرائيليين حولها ومستوطناتهم وجدارهم العازل، وأهل غزة أسرى الحكومة المصرية، ينتظرون انتباه ساسة مصر الجدد إلى حقيقة أن غزة لا غيرها هي خط الدفاع الأول عن سيناء، ومفتاح استعادة مصر لتأثيرها الاستراتيجي في المنطقة كلها. ثم إن الفلسطينيين كلهم أسرى الحال السياسية في كل من القاهرة ودمشق، فتح وحماس يريدان أن يتوحدا ولكن يجهل قادتهما على أي برنامج يتوحدان، إن خرجت مصر من الحلف الأمريكي إلى نقيضه فإنهما سيتوحدان على برنامج للمقاومة، وسينتهي مشروع نتنياهو وفياض وأبو مازن، وستصبح إسرائيل محاطة بالأخطار الاستراتيجية من الشرق والشمال والجنوب، فالبحر من أمامها وإيران والعراق وسوريا ولبنان ومصر في الجهات الثلاث الأخرى؛ أما إذا تغيرت شبكة الأحلاف الخارجية السورية وبقيت شبكة الأحلاف المصرية كما كانت، فإن الفصيلين ربما يتوحدان على مشروع فياض ونتنياهو للسلام الاقتصادي، وستمنح إسرائيل سنوات أخرى تبني فيها المستوطنات وتهوِّد فيها القدس وتقتل فيها العباد. والفلسطينيون أيضا أسرى مصلوبون بين عاطفتهم وواقعهم، فهم يرون إخوتهم في مصر وتونس وغيرها من بلاد العرب يثورون لتغيير حكامهم دونهم. والفلسطينيون أهل الثورة قديما، وثوراتهم فيها طول نفس عجيب اختصوا به من بين إخوتهم من العرب والمسلمين، فثورة 1936 استمرت ثلاث سنوات، واحتوت على أطول إضراب شامل في المنطقة بل وربما في العالم، إذ استمر ستة أشهر لم يجن فيها محصول ولم تدر فيها آلة ولم يذهب فيها موظف إلى عمله أو طفل إلى مدرسته، ولم يوقف هذه الثورة إلا اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم انتفاضة عام 1987 بعد خمسين عاما، استمرت ست سنوات، ولم تكسر ظهرها إلا حرب العراق الأولى عام 1991 وما بعدها والتي تدمر معها آخر جيش عربي بدا وكأنه قادر أو راغب في تهديد إسرائيل بحرب نظامية، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي تلت بأربعة أشهر وثلاثة أيام فقط انتصار المقاومة في جنوب لبنان ودحرها للاحتلال الإسرائيلي وتحريرها أرضها بلا اتفاقية سلام ولا مفاوضات ولا قيد ولا شرط، واستمرت هذه الانتفاضة ثلاث سنوات حتى احتلال الولاياتالمتحدة للعراق. وهذه الثورات جميعا جرت في ظل حركة كفاح مسلح فلسطينية مستمرة منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم تحت مسميات مختلفة من جبهات عدة. أقول شعر الفلسطينيون، وهذا تاريخهم، بأن عليهم أن يقوموا هم أيضا بثورتهم، وأن يزيحوا قيادتهم التي منذ عشرين سنة تفاوض الاحتلال ولم تحصل منه إلا على مرتبات وألقاب، بينما حصل الشعب على النعوش والزنازين والجدر العازلة وأشجار الزيتون المقتلعة. لكن الفلسطينيين هذه المرة وجدوا طريق الثورة مسدودا أمامهم، فهم لن يستطيعوا حشد الملايين في الساحات على الطريقة المصرية، لأن الاحتلال الإسرائيلي لم يقتصر على الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية فحسب بل حال أيضا دون وجود مدينة فلسطينية كبيرة. إن سلسلة الحواجز والقيود التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة تحديدا كانت جزءا من خطة عمرانية تمنع تطور تجمعات فلسطينية كثيفة السكان تصعب السيطرة الأمنية عليها. لا توجد تقريبا مدينة فلسطينية في الضفة الغربية يزيد عدد سكانها على المليون نسمة، بل معظم المدن لا تكاد حتى تقترب من نصف هذا العدد من السكان، وجمع الناس من القرى إلى المدن تمنعه الحواجز والإغلاقات، لذلك يرى الناس مظاهرات الفلسطينيين قليلة الأعداد كثيرة الشجعان، ولذلك يضطر الفلسطينيون إلى اللجوء إلى الكفاح المسلح، لأن السلمية تحتاج إلى العدد. فإذا اتجهوا إلى الكفاح المسلح وجدوا أنفسهم أسرى جيرانهم، من يمدهم بالسلاح؟ هم صنعوا من الأسلحة ما استطاعوا، ولو أنك أخبرت مخترعي الصواريخ الألمان والأمريكيين والروس في الأربعينيات أن أهل غزة سيصنعون الصواريخ بأيديهم كالخبز لاتهموك بالجنون. ولكن حتى الجنون يحتاج إلى حديد وبارود، وهذان يحتاجان إلى حدود مفتوحة ودول إسناد وهي غائبة، سواء إلى الشرق من الضفة أو إلى الغرب من غزة. أقول، يرى الفلسطينيون الثورة وكأنها وطن آخر، من خلف سياج مصنوع من شاشات التلفزيون، يريدون الوصول إليها فتمتنع عليهم، ومن ييأس منهم يجد السيد فياض والسيد عباس مرحبين به وبيأسه فارشين له البسط إلى مقاهي رام الله ومطاعمها، «كل واشرب لتنسى، وإذا أردت أن تقاوم فطير بلالين بألوان العلم، واصنع صينية كنافة نابلسية ضخمة لترفع اسم فلسطين في موسوعة غينيس للأرقام القياسية».