داخل بيته القريب من قوس النصر، في قلب العاصمة الفرنسية باريس، التقت «المساء» عبد الحليم خدام.. أكثر العارفين بخبايا الملف السوري، فهو الذي لازم الرئيسين حافظ وبشار الأسد كنائب لهما ووزير لخارجيتهما، مكلفا باثنين من أكثر ملفات الشرق الأوسط خطورة وغموضا: الملف اللبناني والملف العراقي. اعترف عبد الحليم خدام، فوق كرسي «المساء»، بأسرار علاقته بنظام الأب والابن «المغرق في الفساد والاستبداد»؛ حكى عن هوس حافظ الأسد بتوريث الحكم لأفراد عائلته، وكيف سعى بشار الأسد إلى مجالسته، حيث بدأ ينتقد نظام والده، وهو يناديه «عمي عبد الحليم». كما استحضر اللحظة التي وجد نفسه فيها رئيسا للجمهورية بعد وفاة حافظ الأسد، وكواليس تعديل الدستور ليصبح بشار رئيسا للبلد، وكيف قرر الخروج من سوريا والتحول إلى أكبر عدو لنظام قال إنه يخطط لإقامة دويلة في الساحل، حيث الأغلبية العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد. كما تحدث عبد الحليم خدام عن علاقته بالحسن الثاني والمهدي بنبركة وكيف تحول الموقف السوري من قضية الصحراء وقال بأن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يتخلص من فكر سالفه هواري بومدين. - توصف بإطفائي الحرب الأهلية اللبنانية؛ ما الذي قمت به لإخماد هذه الحرب؟ أجرينا عدة اجتماعات مع عدة أطراف بدون تحفظات، وكنا نتوصل إلى صيغ للاتفاق، لكن هذه الصيغ كانت تنفذ لفترة ثم تعود الأوضاع للانفجار. لكن بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1984، تغير الوضع لأنه صار هناك فريق لبناني يتعامل مع إسرائيل، متمثلا في القوات اللبنانية، حزب الكتائب. - كيف تعاطيتم في سوريا مع هذا التحول المتمثل في انحياز جزء من اللبنانيين (الكتائب) إلى العدو الإسرائيلي؟ اصطدمنا بهم واستخدمنا ضدهم القوة، فعندما كانوا يقصفون بيروتالغربية، كنا نضطر إلى قصف مواقعهم لإسكات قصفهم للمنطقة الغربية. - في نظرك، لماذا تحالفت الكتائب مع إسرائيل؟ خلال الأزمة اللبنانية، كنا نحذر الأطراف الفلسطينية والأحزاب الوطنية من أن الضغط على الجانب الآخر سوف يؤدي به إلى مد اليد إلى إسرائيل، وهذا ما حدث. في الواقع، عندما كنا نتوصل إلى صيغ للاتفاق، فإن العقبات لم تكن توضع فقط من طرف الجانب الآخر، أي قوات الكتائب، وإنما كذلك من قبل إخواننا في الأطراف الفلسطينية والأحزاب الوطنية. وقد كانت مترسخة في ذهن ياسر عرفات فكرة مفادها أنه إذا أمسك بلبنان فسوف تأتي الدول الغربية لتفاوضه، بأن تعطيه أرضا في فلسطين مقابل تنازله عن لبنان، لكن هذه كانت معادلة خاطئة، وبقي يتصرف بهذا الشكل إلى أن وقع اتفاقية أوسلو مع الإسرائيليين، وتنازل على أساس أن الضفة الغربية وغزة ستكونان نواة الدولة الفلسطينية، وإذا به صار مضطرا إلى الحصول على إذن إسرائيلي لكي ينتقل من رام الله إلى نابلس. - بعد ثلاث سنوات من اجتياح لبنان من طرف إسرائيل كانت الاتفاقية الثلاثية لسنة 1985؛ كيف حضرتم إليها في سوريا؟ القوى المتصارعة كانت ثلاثا: القوات اللبنانية التي كانت تمثل الكتائب، والتحالف القائم بين الكتائب والوطنيين الأحرار، وكانت هناك بالمقابل المقاومة الفلسطينية التي لم تدخل هذا الاتفاق، فجعلنا الاتفاق لبنانيا محضا بين قوة حركة «أمل» الموجودة في معظم المناطق الإسلامية في لبنان، وبين قوة حزب التقدم الاشتراكي، وبين القوات اللبنانية. وتم الاجتماع في دمشق، وحضره عدد من الوزراء اللبنانيين المسيحيين. في ذلك الاجتماع، التقيت بكريم بقرادوني، عن القوات اللبنانية وعضو المكتب السياسي لحزب الكتائب حينها، الذي طلب اجتماعا خاصا معي؛ وبالفعل تم هذا الاجتماع، وخلاله قال لي: «هذا الاتفاق لن ينجح يا أبا جمال»، وأضاف: «سوف توقع عليه كل الأطراف، لكنها ستختلف بعد مدة قصيرة، لأن الأمور ليست ناضجة»، فقلت له إنه ليس هناك من خيار ثان، إما التوقيع على هذه الاتفاقية وإما الاستمرار في إراقة الدماء، بمعنى أن إسرائيل لن تفعل شيئا للقوات اللبنانية، فعندما التقى بشير جميّل مع مناحيم بيغين طلب الإسرائيليون توقيع معاهدة مع الدولة اللبنانية لتسلم لبنان إلى الكتائب حتى توافق إسرائيل على دعمها، وعندما رفض بشير جميّل ذلك قُتل، وزادت الفوضى أكثر في لبنان الذي لم يكن يحتمل المزيد من القتل والدم آنذاك. فأجابني كريم بقرادوني بأنه لم يقل قوله ذاك إلا لأنه يحب سوريا، وبالفعل كان بقرادوني صديقا. - وما موقع إيلي حبيقة، قائد الكتائب اللبنانية، المتورط في مجزرة صبرا وشاتيلا، من كل هذا؟ كان إيلي حبيقة هو متزعم القوات اللبنانية، لكنه لم يكن القوة الأساسية أو الوحيدة التي كانت في الساحة المسيحية، فقد كانت هناك قوة أخرى ضده. المهم، تم التوقيع على الاتفاق، لكن بعد فترة وقع الانقلاب على إيلي حبيقة وبدأت المناوشات من جديد، واجتمعنا مع بشير جميل عدة مرات. وكما قلت، فقد كنا نتوصل إلى حلول، لكنها كانت تبقى لمرحلة مؤقتة فقط سرعان ما تعود الأوضاع بعدها إلى التوتر، إلى أن جاءت اتفاقية الطائف. - ما الذي دفعكم إلى إبرام هذه الاتفاقية المدعومة من السعودية، وما هي خفاياها؟ كان دافعنا نحن هو البحث عن استقرار الأوضاع في لبنان، لأن الأزمة اللبنانية استنزفت قسما كبيرا من جهودنا ومواردنا. ولم تكن اتفاقية الطائف لتؤدي إلى نتيجة لولا الدعم السوري الذي أدى إلى إنجاح الاتفاقية وإلى أن تكون حلا عمليا، لأننا كما قلت استنزفنا جهدا ومالا. - لماذا كانت سوريا تصر على التدخل في لبنان ومشاكله؟ كانت سنة 1973 أول مرة ندخل فيها لبنان، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، عندما جاء وفد إلى سوريا يضم كبار السياسيين المسلمين في لبنان، شيعة وسنة، بقيادة رشيد إكرامي، وكان الإمام موسى الصدر كذلك ضمن الوفد. وقد جاؤوا يستغيثون بسوريا ويطلبون منا التدخل لحماية المناطق الإسلامية بلبنان، حينها قمنا بإرسال كتيبتين عسكريتين إلى بيروت لحمايتها، وكان هذا أول تدخل، ولم نكن نحن من سعى من تلقاء نفسه إلى هذا التدخل، لكننا لم نكن نستطيع الوقوف دون حراك أمام استغاثة اللبنانيين بنا، مسلمين كانوا أو مسيحيين، لأن الأزمة في لبنان ستنعكس لا محالة على سوريا، بحكم الجوار والروابط بين سوريا ولبنان اللذين هما بمثابة توأمين سياميين لا ينفصلان، فبين سوريا ولبنان تداخل سكاني واقتصادي، وهناك عشرات الآلاف من اللبنانيين المقيمين في سوريا، ومئات الآلاف من السوريين المقيمين في لبنان، مما يعني أنه من الصعب الفصل بين البلدين، وبالتالي فإنه لم يكن أمامنا أن نقف موقف المتفرج بينما دم أشقائنا، مسلمين ومسيحيين، يراق على الحدود اللبنانية السورية.