محمد فخر الدين الأغنية الشعبية أداة من أدوات التواصل الجماهيري، فهي تنقل القيم الجماعية إلى الجمهور من خلال أداء الفنان أو المبدع الشعبي الذي يكون، في الغالب، عارفا بحاجات جمهوره من خلال الاتصال المباشر والمستمر به.. وقد كان الغناء الشعبي مرتبطا بالحياة، بما فيها من لحظات حزن وفرح وجفاف وخصب وحرث وحصاد، يجسد عفويا وتلقائيا تلك الاحتفالية بما تقدمه الحياة من متع ومن مظاهر الخصب والتجدد، تلك الأغاني التي كان للرعاة ولنساء البادية دور في إبداع نصوصها وتأمين تداولها.. هذه الأغاني الجميلة هي الآن في طور الانقراض، منعزلة في أماكن ومناسبات مخصوصة تجسد تلك العلاقة المباشرة والحميمية بين الغناء الشعبي وجمهوره، قبل أن تظهر الأغنية الشعبية في شكل وسائط متعددة من كاسيطات وسيديات يمكن اعتبارها ميزان حرارة لثقافة المجتمع المعاصر وطبيعة القيم المتداولة فيه.. هي الأغاني التي تبدأ من مرحلة الطفولة المبكرة وترافق الإنسان في مختلف مراحل حياته، من إنشادِ وتهليلِ الأم لوليدها، لتجلب له النوم، حتى أغاني الخصب والأعياد وأغاني العمل في الحقول والبيادر وفي رفع السقوف وفي جر شباك الصيد.. أغاني المهد: هي اللحظة الأولى التي تحتك فيها أذن الطفل بالإيقاع واللفظ الجميل بعد سماع الأذان، تلك المواويل الجميلة التي ترددها الأم لرضيعها وهي تهدهده بجرعات من الحنان حتى يستسلم لنوم هادئ: نيني يا مومو تا يطيب عشانا ويلا ما طاب عشانا يطيب عشا جيرانا مولانا مولانا لا تخيب رجانا وهذا يعني أن الأم قد تنيم طفلها دون أن تقدم إليه ما يكفيه من طعام، منتظرة دقات الجيران -أو الأقارب المتأخرة- ليقتسموا معها العشاء... أغاني العمل: إن إيقاع الكلمات في الإنشاد الجماعي يخفف من مشقة العمل، سواء في الحصاد الشاق الذي غالبا ما كان يتخذ شكلا جماعيا، أو في -الدراس- أو في نشاط دق الذرى بواسطة الهراوات، حيث يلعب الغناء والتهليل والإنشاد الجماعي دورا مهما في التخفيف من العناء والتعب، وتحميس المشاركين وإلهاب مشاعرهم للاستمرار في العمل وتأمين مشاركتهم الوجدانية وإحساسهم بالانتماء.. أغاني الخصب: إن الفرح بالشتاء يكون على شكل إيقاع يحاكي تساقط قطرات المطر بلطف، كما يظهر في الأغنية التي يرددها الأطفال بشكل جماعي فرحا بتهاطل المطر: أشتا تاتا تاتا تاتا، كنداءات موجهة إلى الفلاحين -أوليدات الحراثة- ليستعدوا لحرث الأرض التي جعلها المطر طيعة. لا بد أن العاصفة كانت شديدة، أي ريح هذا الذي يعصف بالأب ويجعل الأم، وقد فاجأتها العاصفة المطرية في الحقول، تعدو وهي تسقط كل مرة حتى تصل إلى البيت: أشتا تاتاتاتا أوليدات الحراثة أمك تجري وتطيح.. أباك داه الريح لا شك أن الجوع، والطلب على الخبز سيتزايد، إلى درجة أن معلم الفران عليه أن ينضجه بسرعة قبل أن يعود الأب من عمله مجهدا وجائعا ويعنف الطفل.. آلمعلم بوزكري طيب لي خبزي بكري راه با حالف فيا باش يقطع لي وذنيا.. أغاني الأعراس: تتنوع هذه الأغاني حسب المقام ونوع المناسبة، ونجد في أغاني النساء -العروبيات- في البادية وفي الأرياف والجبال التي تكون بمناسبة الأعراس تغنِّيا بمجموعة من القيم التي تفخر بها النساء مثل: الإنجاب: هكذا يا رب حبيت النفيسة عندي في البيت؛ الجمال: يا البيضة؛ طول القامة: قطيب اللوز؛ البيت العالي: علي دوك الشراجم؛ حفظ القرآن: قاري القرآن؛... أو رضى الوالدين: مرضي مِّيمتو عمرو ما يتضام؛ أو صواني الشاي العامرة: كيسان البلار في الصواني؛ أو امتلاك الفرس أو السيارة: أهيا مول البرقي، مول الطوموبيل؛... ويغلب على أغاني النساء التجاوبُ والإيقاع المنتظم والرتيب، وطغيان المدح، وترديد نفس المقاطع المتوارثة حسب المناسبة: أوهنا طاح اللويز، أوهنا نلعبو عليه... أو ترديد نفس اللازمة لتحميس المشاركة الجماعية: باردة باردة لما حماها تتقطع يدو... أغاني الاحتفال بحفظ القرآن - التخريجة: بعد أن يزوق وينمق اللوح بالصمغ على يد الفقيه بأجمل الزخارف، على شكل شهادة حقيقية على حفظ الطالب لأحزاب القرآن الكريم، ينشد الطلبة جماعيا -وهم يتجولون بين الدوار احتفالا بالمتخرج الجديد- أغنية خاصة: يا عيشة وحليمة، الطالعة فوق الليمة، عطيني بيضة بيضة... باش نزوق لوحتي، ولوحتي عند الطالب، والطالب في الجنة... والجنة محلولة، حلها مولانا، مولانا مولانا... فتخريج -الطالب- لم يكن شأنا فرديا، ولكنه شأن الجماعة كلها، وهذا يفسر هذه الاحتفالية الخاصة بحافظ القرآن وفخر الأهل والجماعة به.. أغاني الأعياد: يلتقي القول الشعري والأغاني الشعبية في كثير من الطقوس والعادات المرتبطة بالأعياد والمناسبات التي لها بعد ديني، ففي احتفالات عاشوراء تغني البنات أغنية تطالب بحرية خاصة: هذا بابا عيشور ما علينا الحكام ألالة.. عيشوري عيشوري...عليك دليت شعوري هكذا تكون الأغنية الشعبية المغربية قد واكبت كل لحظات الحياة الجمعية قبل أن تبدأ رياح النسيان...