ثلاث قضايا حدثت الأسبوع الماضي تستحق التوقف والفحص نظرا إلى مدلولاتها التي تتجاوز الأبعاد السياسية الخاصة بها، وتتطلب قراءة المشهد الذي حدثت فيه من زوايا أوسع، فذلك لا ينفك عن قضايا التوازن السياسي والاستراتيجي في المرحلة الحالية حيث تتفاعل تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية بشكل متواصل ومقلق، ولا يستبعد أن تؤدي إلى صراعات أوسع وأخطر على المجتمع الإنساني. وربما تبدو هذه القضايا غير متصلة بشكل مباشر، ولكن الخيط الجامع يتمثل في البعد الديني الذي جعلها موضع إثارة واهتمام. الأولى قرار محكمة تونسية بتغريم مدير قناة محلية بعد بث فيلم يجسد الذات الإلهية. النظام التونسي، الذي قام على أنقاض نظام بن علي العلماني، أسس موقفه، عبر نظامه القضائي، على أساس ما يمثله ذلك الفيلم من مساس بعقائد المجتمع، وما قد يؤدي إليه من اضطراب اجتماعي، بينما قالت أمريكا إن «إدانة مدير القناة تثير القلق حول حرية التعبير». أيا كان الأمر فسيظل مفهوم حرية التعبير خاضعا للتفسيرات والاختلافات بين النظرتين الإسلامية والغربية، خصوصا في حقبة ما بعد الحداثة التي لا تؤمن بمقدسات ثابتة، وهذه ليست نقطة النقاش. المسألة هنا أن القضية تتمحور في جوهرها حول الدين وموقعه في حياة المجتمعات العربية والإسلامية، وإثر ذلك على توجهاتها السياسية، خصوصا في مجال الحكم والعلاقات الدولية. ومع صعود ما أطلق عليه «الإسلام السياسي»، أي إقامة منظومة سياسية حاكمة على أسس إسلامية، احتدم الجدل أكثر، وأصبح السجال يدور حول هذه الظاهرة التي لا تتجسد في الحياة الخاصة للملتزمين بها فحسب، بل تنعكس على علاقاتهم بالآخرين، ولذلك سيظل الجدل محتدما في الفترة المقبلة حول ما تعتبره الحضارة الغربية السائدة «قيما مطلقة» لا تقبل النقاش، وما يسعى المسلمون، من أصحاب المشروع الإسلامي وغيرهم، إلى إخضاعه للتقييم وإعادة الصياغة ومنعه من الاصطدام بالأحكام الإسلامية، ولذلك جاء الدستور العراقي الذي وُضع بوجود الاحتلال الأمريكي بصيغة تبدو «حلا وسطا» بين دعاة مشروع الإسلام السياسي والأطروحات الغربية التي تسعى إلى تقليص حضور الدين في الحياة العامة، فاحتوى ذلك الدستور على مادة دستورية تقضي بألا تتعارض القوانين التي تشرع مع أحكام الإسلام. ولكن ذلك لا يمنع الغربيين من الاعتراض عندما يحدث ما تعتبره انتهاكا لبعض القيم التي يعتبرونها أساسية في المنظومة الفكرية والسياسية الغربية. هذا مع ملاحظة سياسات «الانتقاء» في التطبيق والممارسة التي تميزت بها السياسات الغربية. وجاءت قضية الفيلم المسيء إلى الذات الإلهية لتسلط الضوء على مواقف الغربيين وانتقاداتهم لمواقف العرب والمسلمين إزاء ما يعتبرونه من المقدسات، فقد أثار عرض الفيلم الفرنسي الأمريكي في تونس الذي يدور حول فتاة تنشأ في إيران ويجسد الذات الإلهية السجال حول «الثوابت» في الثقافتين الغربية والإسلامية. وقال الإسلاميون التونسيون إن عرض فيلم الرسوم المتحركة وجه إهانة إلى المسلمين ومثل استفزازا متعمدا. وقال بعض السلفيين إن مدير القناة يجب أن يعدم، وفي الأسبوع الماضي قضت محكمة تونسية بتغريم نبيل القروي، مدير قناة «نسمة»، 2400 دينار (1550 دولارا) بتهمة الإساءة إلى الأخلاق الحميدة وتعكير صفو النظام العام بسبب عرض فيلم الرسوم المتحركة «برسيبوليس» الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي. وجاءت ردة الفعل الغربية على لسان السفير الأمريكي في تونس، جوردون جراي الذي قال: «إنني أشعر بقلق بالغ وخيبة أمل عقب إدانة (مدير) قناة «نسمة» بسبب بث فيلم رسوم متحركة سبقت الموافقة على توزيعه من قبل الحكومة التونسية». هذا القلق قد لا يتجاوز شفتي اللسان، ولكنه يعبر عن حالة التوتر غير المعلنة في اللاشعور الغربي إزاء دور الدين في الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية. وحيث إن المسألة حدثت في تونس، التجربة الأولى لنظام سياسي أقامته أولى ثورات الربيع العربي، فقد اكتسبت اهتماما أكبر، ودفعت إلى ردة فعل تتجاوز حجم القضية وتسعى إلى تضخيم المسألة لجعلها محور اهتمام أوسع، ومدخلا لفتح ملف الإسلام السياسي مجددا، خصوصا في ظل التجاذب السياسي في مصر. والبعد الشخصي للدين لا يثير اهتماما كبيرا لدى الغربيين، ولا يمثل سببا لتوتر العلاقات بالبلدان التي تحصر دور الدين في الممارسات الشخصية، فالانتقادات الأمريكية الرسمية لما يجري في السعودية تحدث بين الحين والآخر ولكن بطابع يختلف وبدون بعد سياسي، رغم صرامة تطبيق قوانين الأحوال الشخصية المؤسسة على الفهم الحرفي لنصوص الشريعة. بينما حظيت قضية قضائية في تونس باهتمام السفير الأمريكي بشكل مباشر. إذا كان السجال حول دور الشيوعية في إقامة نظام سياسي معاصر قد تضاءل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وما كان ينضوي تحته من أنظمة حكم شيوعية، فإن الجدال حول الرأسمالية والإسلام يحتدم بوتيرة غير مسبوقة. وثمة فرق بين التعاطي مع الإسلام ومع كل من الشيوعية والرأسمالية، فالسجال حول الأول يتطرق لقضايا العقيدة والممارسات الفردية بالإضافة إلى ما يمثله على صعيد الوجود السياسي للدول. في حالة الشيوعية والرأسمالية، فإن نقدهما يتوسع ويضيق مع صعود الدورة الاقتصادية في البلدان التي يحكمانها أو هبوطها؛ فعندما كان الاتحاد السوفياتي قويا كان التعاطي مع الشيوعية واسعا، حتى في العالم الغربي. وكان طرفا الصراع خلال الحرب الباردة يبحثان عن مواقع نفوذ في العالم، بتوسيع انتشار إيديولوجية الحكم. وبعد سقوط التجربة الشيوعية وتداعي الاتحاد السوفياتي قبل عشرين عاما، أصبح الغربيون يواجهون واقعا جديدا يواجهون فيه الإسلام السياسي الذي توسعت دائرته كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة، وتجاوزت الحدود التقليدية للعالم الإسلامي. ونظرا إلى تعقيدات المشهد السياسي، أصبحت المواجهة هي الأخرى، أكثر تعقيدا؛ فالغرب منذ عقود رفع شعار ترويج الديمقراطية في العالم ومعها حقوق الإنسان، ولكن صعود الإسلام السياسي فرض واقعا جديدا نجم عن حالة انقسام في العالم الإسلامي نفسه بين قوى الإسلام التقليدي ومجموعات الإسلام السياسي التي تمثلها الأحزاب الإسلامية، خصوصا التقليدية منها.