معركة كلامية لا تتوقف بين رئيس الوزراء التركي أردوغان وبين نظيره العراقي نوري المالكي، ويتطوّع الطرفان والمتحدثون باسمهما للرد والهجوم على نحو غير مسبوق، بينما «يحج» المالكي إلى طهران في زيارة ليومين لا يمكن النأي بها بعيدا عن جهة التصعيد مع الجار التركي، فضلا عن عموم الوضع الذي تعيشه المنطقة، وفي مقدمته الثورة السورية. وتصل الحفاوة بالضيف العراقي حدّ الحديث عن وحدة بين البلدين (إيران والعراق)! من جانب آخر، يبلغ الحشد مداه بزيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للجزر الإماراتيةالمحتلة، والتي جاء الرد عليها سريعا من قبل الإمارات نفسها ومعها دول مجلس التعاون الخليجي التي لم تتردد في إدانة ما اعتبرته تصعيدا إيرانيا ورفضا للاحتكام إلى القانون الدولي في ما خص الصراع على الجزر الثلاث، فيما يبدو أن لذلك بعض الصلة بالتعاون الإماراتي في تطبيق العقوبات الغربية على إيران، والتي أخذت تلقي بظلالها على الاقتصاد الإيراني المتعب. وفيما يعلَن في أبو ظبي عن أن قوات درع الجزيرة ستجري مناورات في الإمارات تحت شعار «جزر الوفاء»، تعلن إيران عن نشر أنظمة صاروخية هجومية ودفاعية في الجزر. قبل ذلك ترد إيران عبر الدفع باتجاه مزيد من التصعيد في الملف البحريني، وتتصاعد الاحتجاجات عشية سباق «الفورمولا 1»، مع أن الاحتجاجات لم تتوقف طوال عام مضى، على تفاوت في مستواها، مع شكوى يومية من «مؤامرة الصمت» على الثورة البحرينية مقابل الاهتمام بالثورة السورية (لم تتردد الجزيرة في تغطية التصعيد الأخير)، دون النظر إلى عمق الفارق بين أهمية البلدين وطبيعة الثورة فيهما، ودون التقليل من أهمية المطالب الشيعية في البحرين، مع التذكير بأن رفع السقف إلى درجة المطالبة «الضمنية» بتغيير منظومة الحكم تجعل الجانب السني، الذي لا يقل عن 45 في المائة من السكان، في حالة استنفار دائم إلى جانب السلطة رغم ملاحظاته عليها، وبالطبع خشية تغول الطرف الآخر في ظل استنفار مذهبي يجتاح المنطقة. أما صاعق الأزمة «المذهبية» فيتمثل بوضوح في الثورة السورية التي عززت الفرز وضاعفت التوتر، سواء أكان في الإطار الشعبي (السني) الذي يبدو عربيا وإسلاميا في حالة انحياز محسوم لصالح الثورة أم في الإطار الرسمي الذي استجاب بدوره للمشاعر الشعبية (بخاصة في الحالة السعودية)، دون تجاهل الحساسيات المعروفة مع إيران كسبب آخر، وبالطبع على أمل أن يؤدي إسقاط بشار الأسد إلى تحجيم النفوذ الإيراني، مع أن أكثر الدول التي تدفع في هذا الاتجاه لم تكن صديقة للثورات العربية، وتتمنى إن لم تعمل بالفعل على وقف مدها وإفشال ما نجح منها، وبالطبع خشية تمدد العدوى إليها، بدليل تزامن النزاع مع إيران مع هجمة غير مسبوقة من قبل دوائر خليجية على الإخوان المسلمين الذين يتصدرون المشهد السياسي الجديد، رغم اتفاق الطرفين على الموقف من الثورة السورية. لا ننسى بالطبع تصاعد الحساسيات التركية الإيرانية التي أخذت تطفو على السطح، والتي تجلت في الموقف من استضافة تركيا للحوار الإيراني مع الغرب بشأن الملف النووي، والتلويح بنقله إلى العراق، فضلا عن بعض التصريحات الإيرانية التي تقترب من وضع تركيا في دائرة العداء، وإن جرى التراجع عنها بين حين وآخر لجهة التأكيد على علاقات الجوار، الأمر الذي يبدو ذا صلة بالمصالح الاقتصادية المتبادلة بين الطرفين. هكذا تختلط الأبعاد السياسية بالمذهبية في هذه الأزمة الكبيرة التي تجتاح المنطقة، والتي تصاعدت بعد الثورات رغم وجودها قبل ذلك؛ أولا بعد وضع إيران يدها على العراق بشكل مستفز للعرب ولتركيا، وثانيا بهيمنة حزب الله الواضحة على لبنان، فضلا عن نفوذ إيران في الملف الفلسطيني، والذي كانت حماس عنوانا له في الظاهر، رغم استقلالية قرارها السياسي، وجاء موقف الأخيرة من الثورة السورية ليدشن التحول الكامل في سياستها، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى خروج الحركة من سوريا وانحيازها إلى المحور العربي التركي، الأمر الذي أخرج الملف الفلسطيني عمليا من دائرة التأثير الإيراني رغم حرص طهران على استمرار التدخل بطرق شتى. في توصيف خلفيات المعركة قبل الثورة السورية، يمكن القول إن الوضع العربي رغم بؤسه في ظل غياب الدور المصري بسبب سياسات حسني مبارك، لم يتقبل وقوع العراق كدولة عربية محورية في قبضة إيران على نحو بالغ الاستفزاز، وازداد التوتر إثر المآل الذي انتهت إليه محاولة العرب وتركيا التدخل من أجل إحداث بعض التوازن في الحالة الداخلية عبر القائمة العراقية التي حصلت على المرتبة الأولى في الانتخابات، ثم جرى تهميشها واستهداف رموزها بشكل سافر من قبل المالكي وائتلافه الشيعي. الملف اللبناني لم يكن أقل استفزازا للوضع العربي، إذ هيمن حزب الله على الساحة على نحو همَّش المكون السني، وبالطبع بعد إهانة سياسية من العيار الثقيل كان قد وجهها إلى ذلك المكون بعد احتلاله لبيروت خلال ساعات (ماي 2008). جاءت الثورة السورية لتنقل المعركة من الأطر السياسية إلى الأطر الشعبية، وليغدو الاستنفار المذهبي في أعلى تجلياته بعد انحياز إيران وحلفائها إلى النظام السوري ومده بكل ما يحتاج إليه من المال والسلاح والدعم السياسي. ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذا الموقف الأخير كان الأكثر أهمية في تصعيد الموقف، أقله شعبيا، حيث انحازت جماهير الأمة إلى الثورة السورية على أساس من الدعم الطبيعي للثورات كما وقع في تونس ومصر واليمن وليبيا، قبل أن تضاف النكهة المذهبية في سوريا التي تُهمَّش فيها الغالبية السنية لصالح نظام أمني طائفي. إلى ذلك لم يخلُ الجموح الإيراني من بعض الاستعراضات المذهبية هنا وهناك عبر اختراقات «تشييعية» في بعض الدول العربية، وصولا إلى دول إسلامية في إفريقيا، وأخرى في آسيا مثل أندونيسيا، الدولة ذات الكتلة السنية الأكبر في العالم الإسلامي، ولا ننسى ذلك الاستعراض «الفضائي» (نسبة إلى الفضائيات) الذي يستعيد الثارات التاريخية كما لو أنها وقعت بالأمس، الأمر الذي ترد عليه فضائيات سلفية، مع أن وقف الطرفين لا يحتاج إلى أكثر من قرار سياسي من قبل إيران والسعودية. هكذا تختلط السياسة بالمذهبية في هذه المعركة المخيفة التي تلوح في المنطقة، والتي يصعب الجزم بمداها الزمني وبنتائجها السياسية، ولاسيما أنها ترتبط بجملة من التطورات، في مقدمتها الثورة السورية، وقبل ذلك وبعده مآل المعركة على المشروع النووي الإيراني، فضلا عن تطورات الأوضاع الداخلية عربيا، سواء أكان في الدول التي نجحت فيها الثورات، وفي مقدمتها مصر، أم تلك التي لم يشملها حراك التغيير بعد. لا شك أن المحاور الدولية تبدو حاضرة هنا، ومن ضمنها الدولة العبرية، الأمر الذي يمنح الصراع بعدا دوليا ذا صلة بلعبة المصالح والنفوذ في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وفي ظل تحولات دولية تتعلق بالتعددية القطبية الجديدة وصعود الدورين الروسي والصيني. كلما طال أمد الثورة السورية، طالت المعركة واحتدمت، ولا شك أن بقاء الأسد سيزيد في عمق الشرخ المذهبي، وسيعزل إيران وحلفاءها أكثر فأكثر عن المحيط العربي والإسلامي، فيما سيعزز بدوره لعبة الصراع الدولي على المنطقة. المواعظ هنا لا تجدي نفعا، ولا يبدو أن العقل هو الذي يقود المعركة، بقدر ما تحركها الحسابات محدودة الأفق، ومعها الغرائز الجامحة، ولاسيما أن الارتباك هو سيد الموقف عند الجميع، فالدول العربية الكبيرة في وضع بائس، من الشقيقة الكبرى التي تلملم وضعها الداخلي بعد الثورة إلى الأنظمة الأخرى التي تريد التوفيق بين الهروب من مسار التغيير الداخلي وبين دفع مستحقات الصراع على الوضع العربي والإقليمي، فيما ينطبق الأمر على إيران التي تعيش هواجس الصراع حول مشروعها النووي ومخاوف فقدان حليفها الاستراتيجي في دمشق، وما ينطوي عليه من تداعيات على حليفها العراقي والآخر اللبناني، إلى جانب فقدان التأثير في الملف الفلسطيني، مع ما يترتب عن العقوبات الدولية من أوضاع اقتصادية داخلية صعبة قد تؤدي بدورها إلى زعزعة الاستقرار السياسي في ظل وجود معارضة تتحين الفرص للتحرك. ولا ننسى تركيا التي تجد نفسها في قلب هذا الصراع الذي يؤثر على بنيتها الداخلية ويتأثر بها، كما يفتح ملفات التوتر على مصراعيها مع الجوار بعد مرحلة من تصفير المشاكل باتت جزءا من الماضي. مشهد بالغ التعقيد والخطورة دون شك، ولن تتفكك رموزه قبل بلوغ الكثير من الملفات العالقة مداها، الأمر الذي قد يقنع سائر الأطراف بالجلوس إلى طاولة الحوار والتفاهم على قواسم مشتركة تخدم الجميع بعيدا عن الحشد المذهبي وبعيدا عن لغة الاستخفاف بالآخرين، وفي ظني أنه دون شفاء إيران من مرض غرور القوة الذي يتلبسها، وصعودٍ عربي يخلق توازنا في عناصر القوة، لن يبدأ الحوار بشكل متوازن. في خاتمة هذا الصراع لن يبقى نظام الأسد، ولا بد من عودة التوازن إلى الساحة العراقية، ومعها اللبنانية، دون أن يعني ذلك تقليلا من شأن إيران، لأن الأخيرة مهمة بذاتها دون هذه الملفات، فضلا عن حاجتها كدولة إلى الاهتمام بشأنها الداخلي ورفاه مواطنيها، بعيدا عن دولة المذهب الشيعي، ذلك الذي يمكنه التعايش مع غالبية الأمة السنية دون تحريض في حال ساد التفاهم السياسي. الربيع العربي بدوره سيفضي بعد زمن يصعب الجزم بمداه إلى إحداث تغييرات في أنظمة الحكم على نحو يعلي من شأن الإنسان، بصرف النظر عن عرقه ومذهبه (يشمل ذلك مظالم الأقليات في الدول العربية وفي إيران)، ولتكون النتيجة صيغة أقرب إلى التعايش، وربما التعاون، غير بعيدة عن تلك التي وصلت إليها أوربا بعد حروب أهلية وبينية (بعضها بنكهة مذهبية أيضا) كانت حصيلتها عشرات الملايين من الضحايا، والأمل أن تمر هذه المرحلة (عربيا وإسلاميا) دون الكثير من الضحايا والدماء. وإذا حدث ذلك فستكون المحطة التالية هي حسم الصراع مع المشروع الصهيوني الذي يشكل عدوا مشتركا للجميع، مع قدر كبير من التحرر من تبعات الهيمنة والابتزاز الخارجي الذي يتكسب من سياسة «فرق تسد» ويعمل على تعزيزها بكل ما أوتي من قوة. ياسر الزعاترة