في عمارة بشارع السلام بطنجة، فوجئ الناس صباح يوم بشاب يقف على باب عمارة حديثة البناء. كان يرتدي سترات الحراس الأنيقة، ويسوّي طربوشه الرمادي بين الفينة والأخرى، ويتقدم بضع خطوات إلى الإمام أو يتراجع إلى الوراء كأنه يواري توترا دفينا. كان نادرا ما يطيل النظر إلى العابرين، الذين كانت تخامرهم أسئلة كثيرة حول هذا «البوّاب» العجيب. هذا الشاب واحد من عدد متزايد من الإسبان الذين دفعت بهم الأزمة إلى طرق أبواب المغرب بحثا عن لقمة عيش عزّت في بلادهم بعد الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصر البلاد، والتي دفعت الناس للاستنجاد بأي قشة من أجل تجنب الغرق، حتى لو كان الأمر يتعلق بالمغرب، هذا البلد الذي كيلت له كثير من الاتهامات بتصدير الملايين من عاطليه نحو إسبانيا، فجاء الوقت الذي عرفت فيه إسبانيا معنى البطالة والأزمة. لكن الفارق الواضح بين البلدين أن الأزمة المؤقتة في إسبانيا خلقتها الظروف والمناخ الاقتصادي العالمي، وأزمة المغرب الدائمة خلقها البشر المفسدون. الحارس الإسباني في عمارة «شارع السلام» لم يُطل المقام في هذه العمارة، فقد انتقل إلى مدينة أخرى في شمال شرق المغرب، حيث توجد مجمعات عقارية إسبانية يفضل أصحابها أن يحموا أبناء جلدتهم أولا من الأزمة. أنقذونا أيها المغاربة في طنجة، المكان المفضل لكثير من السياح الإسبان، لم يعد هؤلاء يأتون إلا نادرا، وحين يأتون لا يطيلون البقاء سوى يوم أو يومين. فالترف الإسباني انتهى، وعوضه جاءت أوقات استبدلت السياح بطالبي العمل. وكمثال على ذلك خوسي أنطونيو، الذي عوض أن يأتي إلى المغرب سائحا، جاء إليه بحثا عن السياح.. السياح المغاربة بالضبط، لكي يحموا فنادق إسبانيا من الإغلاق. أنطونيو هو مندوب سلسلة من الفنادق في عدد من المدن الإسبانية، وهو يقدم عروضا متميزة لمحبي السفر المغاربة، وخصوصا محبي السفر نحو إسبانيا. لذلك فإن الأسعار التي يقدمها للمغاربة تعتبر فعلا مغرية، إذ يمكن للسائح المغربي أن ينعم بضيافة متميزة في السعر في إسبانيا، وأحيانا لا يتجاوز سعر المبيت في فندق من خمس نجوم الأربعمائة درهم، ويمكن أن يقل المبلغ كلما طال المقام. أن يقوم إسباني بالترويج للسياحة في بلاده هذه مسألة طبيعية جدا، لكن أن يقوم إسباني بدعوة المغاربة لزيارة إسبانيا، وفوق هذا يقدم لهم عروضا مغرية، فهذه مسألة لم يكن يتوقعها أحد. لكن للأزمة شروطها التي تعلو ولا يُعلى عليها. لذلك على المغاربة الذين يحبون إسبانيا أن يزوروها الآن، وسيحسون بأنهم ضيوف متميزون لأنهم جاؤوا للمساهمة في إنقاذ البلاد من الإفلاس. مدن شمال المغرب عموما تعتبر هذه الأيام ملجأ للكثير من الهاربين من صهد الأزمة الإسبانية، ويبدو أن هذا الهرب الكبير لن يتوقف قريبا، خصوصا أن وصول الحزب الشعبي اليميني إلى سدة الحكم ارتبط بقرارات تقشف لم تكن تخطر على بال، وربما قريبا سيسمع الناس أن هذه البلاد تسير على خطى اليونان. انقلبت الآية لقد انقلبت الآية.. هكذا يعلق كل من سمع قصة الشابة الإسبانية «ليا» ذات ال25 ربيعا، التي اضطرتها تداعيات الأزمة المالية العالمية إلى الهجرة من بلدها صوب المغرب، وليس صوب أي بلد آخر، حيث قبلت العمل كمربية أطفال لقاء 1500 درهم شهريا. ربما لم تكن «ليا» تتوقع أنها ستكون مجبرة على نسيان رغد العيش الأوروبي، وستضطر للهجرة إلى مدينة مارتيل، قرب تطوان، سنة 2011. جاءت هذه الشابة الإسبانية لتشتغل هناك مربية أطفال مقابل 1500 درهم شهريا، وهو مبلغ لا يصل إلى الحد الأدنى للأجور بالمغرب، فبالأحرى رواتب إسبانيا، لكنها تبدي اقتناعها بهذا الراتب، خاصة أن طبيعة عملها تعفيها من مصاريف السكن والأكل، لكنها رغم ذلك لا تكفيها، حيث إنها تضطر للعمل يومي السبت والأحد مساعدة في إحدى المستشفيات بمدينة سبتة المجاورة. حالة «ليا» أثارت اهتمام وسائل الإعلام الدولية، التي بدأت تلاحظ أن اتجاه الهجرة بين المغرب وإسبانيا صار يأخذ منحى معاكسا شيئا فشيئا، ووصلت حالة «ليا» إلى وسائل إعلام دولية لم تتأخر في تحويلها إلى قضية دولية مثيرة للاهتمام، مثلما فعلت وكالة «رويترز». تبدي «ليا» ارتياحها لعملها لدى أسرة مغربية ترعى طفليها، وتقول إن استمرارها في وظيفتها الحالية مرده حسن معاملة الأسرة المغربية لها، إلى جانب قربها من بلدها الأصلي، لكنها لا تنفي أنها أتت للعمل بالمغرب مضطرة، وتقول إنها لو وجدت عملا ببلدها مقابل أجر مرتفع لكانت بقيت هناك. وسواء في حالة الشاب حارس العمارة بطنجة أو في حالة المربية الشابة أو المندوب السياحي أو غيرهم من الإسبان الذين جاؤوا إلى المغرب، فإن الملاحظ هو قبولهم برواتب «هزيلة» نسبيا. لكن هذه الملاحظة تجد تفسيرها في كون متطلبات الحياة في المغرب أرخص من نظيرتها في المدن الإسبانية، حيث إن الإسبان يفضلون تقاضي رواتب أقل من تلك التي تعرض عليهم في إسبانيا، لأنهم يعلمون أنها ستكفيهم لسد احتياجاتهم، بينما قد لا تكفي في المدن الكبرى للجارة الجنوبية. كما أن الإسبان القادمين إلى المغرب، وإلى الشمال بشكل أدق، يفضلون العيش في المدن الصغرى، مثل مارتيل أو شفشاون، عوض المدن الكبرى كطنجة أو تطوان، بالنظر إلى الفرق في تكلفة العيش. نحن جيران وإخوة هذه المبررات ساقها مانولو، وهو مصمم ديكور يعيش ما بين طنجة وتطوان وشفشاون، يبحث عن فرص العيش من خلال عقد عمل مؤقتة مع مغاربة وإسبان، حيث يحاول نقل التجربة الإسبانية في مجال الديكور، وقد نجح في ذلك نسبيا لأن مقاولين عقاريين، مغاربة وإسبان، منحوه شغلا كافيا. نظرة مانولو، اللاجئ إلى المغرب للعمل، تغيرت كثيرا تجاه جيرانه الجنوبيين، فهو لا يفهم الآن لماذا يتعنت مسؤولو القنصليات الإسبانية في المغرب في منح التأشيرة للمواطنين المغاربة الراغبين في زيارة إسبانيا. «هناك لا يوجد شيء، والمغاربة الذين يتوجهون إلى بلادي لا يمكنهم العثور على عمل، وإلا لبقيت أنا هناك. لذلك لا أفهم كيف يمنع مواطنون مغاربة من زيارة إسبانيا، لأنه يمكنهم أن يتركوا هناك الكثير من الأورو. نحن لسنا أعداء. نحن جيران وإخوة»، يقول مانولو باسما. «الأُخوّة المغربية الإسبانية» تبدو الآن أكثر وضوحا. إذ عندما كانت سارة طوريس تجلس في فناء مقهى بساحة الأمم بطنجة وتفكر طويلا، فإن تفكيرها لم يذهب بها أبعد من تلك الجبال التي تبدو أمامها خلف مضيق جبل طارق. هناك تركت كل شيء وجاءت إلى المغرب، ليس للعمل، بل فقط من أجل بعض الاستطلاع. إنها مدرّسة خصوصية، تتقن، بالإضافة إلى لغتها الإسبانية، اللغة الإنجليزية، لذلك سيكون رائعا لو أنها عثرت على عمل ولو مؤقت في طنجة، حيث تعيش صديقة لها من أمريكا اللاتينية استوطنت هذه المدينة قبل سنوات، ووجدت عملا محترما يزيد عن المليوني سنتيم شهريا، وتعيش اليوم في بحبوحة مقارنة مع صديقتها الإسبانية، التي «حركت» إلى المغرب بحثا عما يمكن عمله. الحشيش حتى هو الذي يطالع أرقام المتهمين الأجانب، خصوصا الإسبان، الذين تم القبض عليهم مؤخرا في المغرب أو إسبانيا بسبب تهريب المخدرات، أكيد سيصاب بالدهشة من سر ارتفاع أعدادهم خلال الثلاث سنوات الأخيرة بالتحديد. لكن ليس هناك أي سر في القضية، لأن الحشيش المغربي الذي فك مشاكل مغاربة وإسبان كثيرين في عز الازدهار، أكيد سيكون أكثر نفعا في أوقات الشدة. الإحصائيات تشير إلى أن العدد الأكبر من السجناء الإسبان يوجدون في منطقتين رئيسيتين، أمريكا الجنوية حيث حقول الكوكايين ممتدة الأطراف، وشمال المغرب حيث الحقول اليانعة للعشبة الكتامية. سجون المغرب بها اليوم ما يزيد عن ثلاثمائة (300) سجين إسباني، عدد منهم نساء، وكثيرون لم يكونوا يتوقعون بالمرة أن يدخلوا السجن في بلادهم، فانتهوا في سجون بلد كانوا دائما يعتبرونه بعيدا حتى في الحلم، فانتهى بالنسبة إليهم كابوسا. أغلب السجناء الإسبان في المغرب ضبطوا خلال محاولاتهم تهريب الحشيش، وكثيرون منهم سائقو شاحنات للنقل الدولي، وعدد منهم سبق أن نجحوا مرارا في عمليات مربحة، لكن الجديد الآن هو أنه من بين السجناء يوجد أشخاص كثيرون جربوا حظهم للمرة الأولى، حيث جاؤوا إلى المغرب لأول مرة وحاولوا تهريب الحشيش لأول مرة، وفشلوا لأول مرة، ودخلوا السجن لأول مرة، وبكوا لأول مرة. الحالة الأكثر وضوحا، وأيضا الأكثر إيلاما في هذا المجال، هي لصديقتين إسبانيتين اسمهما فاليريا وإلفيرا. إنهما شابتان كانتا تشتغلان معا قبل سنوات قليلة في المجال السياحي بالجنوب الإسباني، وبالضبط في مدينة مالقة، حيث فائض السياح صيفا وشتاء. لكن الأوقات تغيرت، والمرأتان وجدتا نفسيهما في لحظة خارج حياتهما المعتادة، ولم يعد باستطاعتهما الاستمرار في أداء واجبات كراء المنزل، وفي لحظة صارتا مهددتين بالتشرد، لذلك جاءت النصيحة في الوقت المناسب: انزلا إلى المغرب فإن لكما فيه ما تريدان. وعمق النصيحة واضح، أي أن تهريب كمية من الحشيش المغربي ستكون كافية لكي تخرجهما من الظلمات إلى النور، وهكذا كان، حيث خرجتا من نور الحرية ودخلتا ظلمات السجن، لأن أول محاولة لهما جعلتهما تسقطان في ميناء طنجة، ومنه مباشرة إلى سجن المدينة نفسها. في سجون المغرب إسبان آخرون تتشابه حكاياتهم، وهي حكايات بمقدمة واحدة: محاولة الخروج من الأزمة الخانقة عبر التعلق بقشة الحشيش المغربي. هناك من فشل، وهناك من نجح، وهناك من ينتظر. في طنجة خبز كثير طنجة لم تكن اليوم فقط ملجأ للإسبان «الجائعين»، بل لعبت هذا الدور على مر عقود طويلة، لأنها كانت المدينة التي أنقذت بطون وأرواح وعقول الكثير من التائهين. في بداية القرن العشرين، عندما كانت إسبانيا ترتع في فقر خرافي، جاء الآلاف من رعايا البلد الجار نحو طنجة، وأيضا نحو مدن مغربية أخرى، طلبا لبعض القوت، وفيها استوطن آلاف الإسبان الذين صاروا طنجويين أبا عن جدا، ولا يزال أحفاد هؤلاء يزورون المدينة بين الفينة والأخرى عرفانا لها بالجميل الذي أسدته لأجدادهم. هناك مرحلة أخرى حاسمة لعبت فيها طنجة دورا محوريا في إنقاذ الإسبان، وهي مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية ما بين 14936 و1939. وخلال هذه الفترة كانت «قوارب الموت» تسير في اتجاه واحد، وهو اتجاه طنجة، حث نزل مئات الإسبان في شواطئ هذه المدينة الدولية، وهدفهم واحد، كثير من الخبز وبعض الحرية. أغلب الإسبان الذين كانوا يركبون قوارب الموت وقتها فعلوا ذلك هربا من المرور في المراكز الحدودية الرسمية مخافة الاعتقال، وفي طنجة وجدوا مرادهم، لذلك فإن كل إسباني يأتي إلى طنجة كان يبعث على الفور رسالة إلى أهله وأصدقائه بعبارة واحدة «تعالوا إلى طنجة.. هنا يوجد خبز.. خبز كثير».